كانت أغنية "هذه ليلتي" هي اللقاء المرتقب السادس بين قمتي الغناء واللحن في العالم العربي، إلا أنها هذه المرة كانت مختلفة مع شريك الكلمة، الشاعر اللبناني جورج جرداق (1931-2014).

لكن ما هي قصة "هذه ليلتي"؟

عام 1968 أعلنت أم كلثوم (1898-1975)، في حديث للصحافة من لبنان، عن مبلغ محبتها للبنان وأهله وأنها ستغني قريبًا من ألحان محمد عبد الوهاب (1902-1991) والكلام لشاعر لبناني ولم تذكر اسمه، وكأنها تزيد من حصة التشويق. ولكنها أكدت أنها بصدد اختيار شاعر وقصيدة من كل بلد عربي. بعد فترة عُرف الاسم وهو جورج جرداق. والقصيدة هي "هذه ليلتي".

أنجز عبد الوهاب اللحن وغنته أم كلثوم في نهاية 1968 على مسرح سينما "قصر النيل" في القاهرة وكانت بحسب الباحث محمود زيباوي "ليلة التقى فيها النيل والجبل الأخضر". حضر الحفل جورج جرداق وزوجته وشهد نجاح الأغنية. استقبلت الصحافة العربية واللبنانية الأغنية بحفاوة بالغة. علقت أم كلثوم: "الكلام الحلو لا وطن له. وأنا أحب أن أغني لكل شاعر مجيد". أما عبد الوهاب فقال: "يا عيني على السهل الممتنع في قصيدة جورج جرداق". غنتها أم كلثوم في بعلبك عام 1970 وكانت آخر حفلاتها في لبنان. وكتب الصحافي جليل البنداري في "أخبار اليوم": "اثنان بلغا هذا المستوى من الجمال الفني في الشعر، هما: المتنبي وجرداق، ولا غرابة في ذلك، فجرداق يجمع في أدبه وفي شخصه خصائص الشاعر والفيلسوف والرسام والموسيقي والمثقف العالمي". قال الملحن زكي ناصيف (1918-2004): "عبد الوهاب هو الموسيقى العربية ولا شريك له فيها"، وقال المطرب وديع الصافي (1921-2013): "عبد الوهاب فوق الآراء وعوض أن يعطي واحدنا رأيًا في عبد الوهاب عليه أن ينحني على يده ويقبلها".

جورج جرداق

هناك ثلاث قصص لهذه الأغنية. الأولى رواها فارس يواكيم في كتابه "حكايات الأغاني" 2013 ويقول فيها: "كان عبد الوهاب يحب جورج جرداق وشعره. وذات مرة أخبره أنه تكلم بالهاتف مع أم كلثوم وتبلغه السلام. وأضاف: لقد اتفقنا على أن تغني أم كلثوم قصيدة لك في الموسم القادم. وفكر الشاعر في كتابة قصيدة تليق بها. وقبل أن يشرع في ذلك، جمعته سهرة بعبد الوهاب في أحد فنادق مصيف بحمدون. وفيما هما جالسان... راح جرداق يردد أبياتًا من قصيدة لها عنوان "هذه ليلتي" وحينما سمعها عبد الوهاب قال: هذه هي القصيدة! رائعة، لأول مرة هنا المرأة هي صانعة القرار، هي التي تقول: هذه ليلتي. كان مطلع القصيدة يقول: هذه ليلتي... وهذا العود/ بث فيه من سحره داوود. وفي البيت إشارة إلى داوود صاحب المزامير". وبحسب يواكيم "قالت أم كلثوم للشاعر: نحن المسلمين والمسيحيين نجل النبي داوود. فعلق جرداق قائلًا: سبق لعبد الوهاب أن غنى ’وهل ترنم بالمزمار داوود’.. وأنت يا كوكب الشرق غنيت في ’سلوا كؤوس الطلا’: جرت على فم داوود مغناها، يعني اسم داوود موجود في الشعر العربي المغنى أيضًا . فأجابت أم كلثوم: ’أيوه.. بس يومها ما كنش في إسرائيل ونجمة داوود’". ويكمل يواكيم: "وعلى هذا الأساس أعاد الشاعر كتابة مطلع قصيدته على النحو المعروف: هذه ليلتي وحلم حياتي/ بين ماض من الزمان وآت/ والهوى أنت كله والأماني/ فإملا الكأس بالحنان وهات/ بعد حين يبدل الحب دارا/ والعصافير تهجر الأوكارا/ وديار كانت قديما ديارا/ سترانا كما نراها قفارا/ سوف تلهو بنا الحياة وتسخر/ فتعال أحبك الآن أكثر". ولكن في هذه الأغنية كانت من المرات النادرة التي تتغنى فيها أم كلثوم بالخمرة: يا حبيبي وأنت خمري وكأسي/ ومنى خاطري وبهجة أنسي/ فيك صمتي، وفيك نطقي وهمسي/ وغدي في هواك يسبق أمسي".

القصة الثانية يرويها الصحافي جورج إبراهيم الخوري في كتابه "حكايتي مع أم كلثوم" 2000.

عام 1967 تلقى جورج جرداق ثلاث دعوات إلى القاهرة من محمد عبد الوهاب ومع الدعوات طلب إلى روبير خياط "إقطع له تذكرة وروح جيبو في إيدك وحطو في الطيارة". وصل جرداق إلى القاهرة واستقبله عبد الوهاب على أرض المطار ومنها إلى أوتيل هيلتون. وقال له: "أنت محجوز هنا، ولن تغادر القاهرة إلا رجلي على رجلك". اتصل هاتفيًا بأم كلثوم وقال لها "اهو كمشناه". قالت أم كلثوم: "ما تسيبوش يفلت من إيدك. ده بيحب القاهرة قوي. وله أصحاب كثيرين رح يروح لهم ويشرب وياهم وتعال بعد كده لاقيه". مرر عبد الوهاب السماعة لجرداق قائلًا: "الست عايزة تكلمك". قالت الست للشاعر الأسير: "أولًا مشتاقين قوي نشوفك. ثانيًا ما تزوغش هنا ولا هناك... أنا الليلة مستنياكم". وفي المساء ذهب جرداق وعبد الوهاب إلى منزل أم كلثوم في شارع أبو الفدا المطل على النيل ودار الحديث حول القصيدة الجديدة التي ستنشدها بعد انقطاع عامين. قالت أم كلثوم: "بجد. أنا أعجبت بقصيدة "هذه ليلتي". رائعة حقًا. وفيها أبيات كثيرة لا تفارق خاطري منذ أن استلمتها من أستاذنا الكبير عبد الوهاب. هذا هو الشعر الذي يجب أن يغنى ويجري في الخواطر وعلى الأفواه. الشوق الإنساني إلى كل الزمان وكل المكان وكل الحياة... كلام جديد وقديم معا... يا سلام على عمق الإحساس في.. سهر الشوق في العيون الجميلة/ حلم آثر الهوى أن يطيله/ وحديث في الحب أن لم نقله/ أوشك الصمت حولنا أن يقوله".  وتابعت أم كلثوم: "وفي رأي أستاذنا عبد الوهاب أنه قلما يقع الإنسان على مثل هذه الأجراس الموسيقية المتكاملة التي يجدها في هذه القصيدة، فليست هناك كلمة واحدة إلا وهي نغمة عذبة. وأستاذنا عبد الوهاب يعرف حكاية "الأطلال" التي بدلنا فيها أكثر أبياتها ومفرداتها حتى صارت كما هي الآن". وختم الحديث عبد الوهاب بقوله: "كما قلت لكي يا ست أم كلثوم، أربعة شعراء أخذوني بروعة النغم الشعري وهم: أحمد شوقي والأخطل الصغير وعلي محمود طه وجورج جرداق".

محمد عبد الوهاب وأم كلثوم

أما القصة الثالثة فيرويها جرداق نفسه في مقابلة تلفزيونية عام 1996 ولعلها الأكثر مطابقة للواقع ويقول: "أمضى عبد الوهاب سنة كاملة في لبنان. وذات مرة كنا في أوتيل أمباسادور بحمدون نسهر معا فقال لي ’بدي قصيدة منك لأم كلثوم’. وصار يسألني تاني يوم شو صار وأقول له ناطر الجو. ذات ليلة كنا سهرانين مع فريد الأطرش ونجاة الصغيرة وإحسان عبد القدوس. أخذني عبد الوهاب إلى الشرفة المطلة على وادي لامارتين، وسرحنا في المنظر الجميل. رحت أردد بعض الأبيات وعندما سمعني قال: "بتقول إيه هذا ما أريده لأم كلثوم". كتبت القصيدة كاملة وأرسلتها له. أما بالنسبة لمعرفتي بأم كلثوم فتعود إلى عام 1965 حين دعاني الصحافي الكبير مصطفى أمين إلى سهرة في أوتيل هيلتون وقال لي: "هناك مفاجأة وهي وجود أم كلثوم في السهرة". والحقيقة أنني تهيبت وجودها، هذه السيدة العظيمة، وأنا بطبيعتي لا أحكي إلا إذا طلب مني ذلك. وخلال حفلة رقصت إحدى الساهرات الموجودات فقلت كلاما شعريا في وصف الراقصة. فقالت أم كلثوم: "بتقول إيه" وطالبتني بالمزيد. قبل انقضاء السهرة قالت أم كلثوم: غدا السهرة عندي واستمرت علاقتي بها منذ ذلك الحين وتوطدت".

أخيرًا هذه الأغنية جمعت الغناء والموسيقى في مصر وزهوة القصيدة العربية بنكهتها اللبنانية. وكانت أول أغنية عاطفية تغنيها أم كلثوم بعد نكسة حزيران/ يونيو 1967. في ذلك الزمان كانت الأعمال الفنية حدثًا رائعًا من حوادث العمر والزمن. وكان الفن يعيش في الناس ويضيف إلى حياتهم فرحًا وسعادة وألقًا.