}

"جماعة الدار البيضاء".. البحث عن هويّةٍ بصريّةٍ عربيّة

أشرف الحساني 17 أغسطس 2022
استعادات "جماعة الدار البيضاء".. البحث عن هويّةٍ بصريّةٍ عربيّة
تفصيل من لوحة لمحمد شبعة

 

جاء وعي "جماعة الدار البيضاء" في مرحلة ستينيات القرن الـ 20 قويًا بالتراث الفنّي العربيّ، وهي تُعدّ اليوم رافدًا من روافد التجربة التشكيليّة المغربيّة وقُطبًا تُشيّد عليه هذه التجربة، لما ظلّت تُتيحه من إمكاناتٍ فنّية هائلة داخل تاريخ الحركة التشكيليّة المغربيّة. وإذا كانت الستينيات، قد شهدت من الناحية الأيديولوجية صراعًا فكريًا بين مباهج الحداثة والتغيير وسدنة التقليد والانغلاق، فإنّ الفنّ التشكيليّ خاصّة لم يسلم من هذا الجدل الذي رافق مسيرته منذ البدايات، وسرعان ما اقتحم مُجمل التعبيرات البصريّة وحوّلها إلى وسائط جماليّة قادرة على التعبير عما كانت تعيشه المرحلة السياسيّة من تصدّع بسبب وجود قوّتين متضاربتين تتزعّمان المشهد السياسي آنذاك، بين يسار مُجدّد وحداثي، يُحاول جاهدًا استئصال تخلّف العمل السياسيّ وتوطيد علاقة الفرد بالسياسة كنوعٍ من المُشاركة الديمقراطية، في مقابل قوى رجعية سيتأجّج لهيبها أكثر خلال السبعينيات وتكتسح بأفكارها ومُعتقداتها ومُمارساتها الاجتماع المغربيّ. وبغضّ النّظر عن تمازج الجانبين السياسيّ والفنّي في نشوء وعي "جماعة 65" خلال هذه المرحلة، فإنّ تأثير الأيديولوجي على تكوّن هذه الحركة الفنّية يظلّ واضح المعالم والرؤى، سيما وأنّ الحركات الفنّية عبر التاريخ، كان دافعها سياسيًا أكثر من كونه جماليًا. من ثمّ، فإنّ وعي الجماعة بطبيعة المرحلة التي ينتمون إليها، جعلهم يدخلون في سجالٍ فنّي/ فكري مع مفاهيم من قبيل: التاريخ، التراث، الأصالة، المعاصرة، التجاوز، القطيعة. وهي مفاهيمٌ فكريّة تتفرّع عن إشكاليّة جوهرية تتمثّل في إمكانية الثورة على مُختلف الأفكار الجماليّة المُسبقة التي كوّنها الفنّان المغربيّ في علاقته باللوحة بكافّة تمثّلاتها الحضارية وحمولاتها الرمزيّة الغربيّة.

لكنْ قبل الدخول في مسالك الحديث عن الزخم الفنّي الذي أحدثته "جماعة الدار البيضاء" في تاريخ التشكيل المغربيّ، تجدر الإشارة، إلى أنّ ثمّة جدلًا كبيرًا عند الحديث عن هذه اللحظة التاريخيّة، يتمثّل في إشكاليّة التسمية وما إذا كان هؤلاء الفنّانون يُشكّلون حركة فنّية ثائرة على القوالب والأشكال أم مجرّد جماعة تشكيليّة قادها القدر بالصدفة صوب مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء؟ وإذا كان من الصعب الإجابة عن مثل هذه الأسئلة في تلك المرحلة المُبكّرة من التاريخ، فإنّ المتأمّل اليوم للساحة التشكيليّة والمسار الجمالي الذي خطّه كلّ من فريد بلكاهية ومحمّد المليحي ومحمّد شبعة، سيكتشف أنّها كانت بالفعل حركة فنّية قويّة، لأن تأثيرها ما زال واضحًا في طرق وآليات استيعاب هذا التراث العربيّ من لدن الفنّان المعاصر. خاصّة وأنّ كلّ ما جاءت به كان جديدًا وبكرًا في تلك اللحظة، بما يجعل أفكارها ذات نفحةٍ تجديدية، تمزج الحديث من الأشكال والأفكار مع المُعتّق في جرار التراث المغربيّ.

فريد بلكاهية 



لقد شكّلت "جماعة 65" حركة تشكيليّة، لن نقول إنّها كانت راديكالية بالنسبة للمنظومة الفنّية الغربيّة آنذاك، وإنّما كخلاصٍ أيديولوجي، طالما استبدّ بالفنّان المغربيّ، وهو على مقاعد الدراسة والتكوين بمدارس ومعاهد خاصّة بالفنّ التشكيليّ في فرنسا وإيطاليا وروسيا. فكانت هذه اللحظة مفصلية في تاريخ الفنّ التشكيليّ، الذي بدا من خلال الجماعة وكأنّه يُحرّر ذاكرته الفنّية الجنينية ويُساجل بتاريخه السحيق وتراثه الفنّي وذاكرته الجماليّة اللوحة الغربيّة بمُختلف أشكالها وأنماطها ومرجعياتها الفكريّة والجماليّة. يصعب الجزم أنّ الأحداث السياسيّة التي شهدتها الستينيات في العالم ككلّ، كانت سببًا غير مباشر في الثورة الجماليّة بالنسبة للجماعة وتنطّعها صوب اختبار سراديب جديدة ومُغايرةٍ في الفعل الإبداعي. لكنّ رياح السياسة بدت وكأنّها تكتسب فعلًا وجوديًا في كتابات محمّد شبعة التحليلية، حيث غدت بمثابة بيانٍ فنّي، يدين فداحة المرحلة ويرُجّ من خلالها أفكارًا تنميطيّة كانت مُتداولة في الأدبيّات الغربيّة حول بعض تجارب التشكيل المغربيّ، سيما فيما يتعلّق بتجارب الفنّ الفطري مع كلّ من الشعيبية طلال ومحمّد بن علال وفاطمة حسن وغيرهم.

لم تنجح "جماعة 65" في الثورة وتحرير الوعي الفنّي المغربيّ فقط، بل أسّست مسارًا تشكيليًا غدا مع مرور الزمن مرجعًا للتجارب اللاحقة على مستوى السند والمواد والألوان والموضوعات ذات الارتباط بالموروث الحضاري العربيّ الإسلامي، لكنّ أهمّها تمثّل في مفهوم القطيعة الذي اتّخذه الفنّانون من أجل صياغة هويّة بصريّة جديدة، لا تستعير عين الآخر، بل تنطلق من ذاتها وتصوغ لها أفقًا منظوريًا مُزدوجًا ينتقد الآخر والذات معًا. غير أنّ الصعوبة التي واجهت التشكيل إبّان هذه المرحلة، كانت نقديّة أكثر من كونها فنّية أو جماليّة، بحكم أنّ مفهوم "القطيعة" لم يُرافقه أيّ جدلٍ على مستوى النقد الفنّي أو حتّى التفكير الفلسفي، من أجل تفنيد ودحض الأطروحة الفكريّة القائمة على المركزيّة الغربيّة وشرعيتها في الوجود التاريخيّ والسبق الحضاري، وبالتالي، أحقيّتها في أنْ تكون النموذج الفنّي الوحيد والمرجع الجمالي القادر على تغذية وجدان الفنّانين العرب في اجتراح مشاريعهم الفنّية.

محمد المليحي خلال أحد معارضه


وإذا كانت مثل هذه الرؤي تختزن أنماطًا من التفكير الاستعماري الاستشراقي، فإنّ الفكر المغربي آنذاك، لم يكُن يمتلك من القوّة ما يُمكنّه من مُجابهة هذه الأفكار الفنّية، لأنّه لم يكُن مشغولًا بالتحوّلات المفاهيمية التي تشهدها الحركة التشكيليّة، باعتبار أنّ المُمارسات الفنّية تُعدّ فكرًا مُوازيًا للتفكير الفلسفي المجرّد في مفاهيم ذات علاقة بالاجتماع العربيّ. فكانت كتابات بعض المثقّفين جد قاصرة وعامّة في تناول موضوع الاستشراق الفنّي/ التصويري وتأثير بعض نماذجه الغربيّة عن ما كان يعتمل في المختبر التشكيلي في المغرب من حداثةٍ جماليّة وتفكير فنّي. إنّ المُثير للدهشة والاستغراب أنّ النقد الفنّي والفكر العربي عمومًا وإلى حدود اليوم، لم يستطيعا أنْ يُسايرا هذه الإشكاليّة الفكريّة المُتعلّقة بالاستشراق الفنّي، وإلاّ كيف نُفسّر غياب مؤلّفات ومونوغرافيات داخل الفكر العربيّ المعاصر، تعنى بالجانب الجمالي لهذه الإشكاليّة، على أساس أنّ الممارسات الفنّية جزء من ممارسات فكريّة تتّصل بالتفكير والتصوّر؟

لم يكُن تحرّر التشكيليين المغاربة من نمط الأسلوب الغربيّ، يعود بالأساس إلى سفرهم المعرفي، تجاه الخارج ودراساتهم وتكوينهم داخل الكثير من المؤسّسات الغربيّة فقط، بل إنّ الأمر له علاقة ببعدٍ أنطولوجيّ يجتاح الجسد في لحظات الاغتراب الثقافي، فيشعر أنّه أسير ثقافةٍ لم يولد فيها، لكنْ في اللحظة التي يغدو فيها يمتلك ميكانيزمات الفنّ وآليات النقد تتكشّف لديه تلك الرغبة الآسرة في الثورة على كلّ شيءٍ والعبور صوب عوالم جديدة، إنْ لم تكُن أكثر تعلّقًا بتاريخه الجسدي فحتمًا بذاكرته الفنّية. إنّ ما يجب الانتباه إليه أنّ مسألة العودة إلى الجذور في أعمال جماعة الدار البيضاء لم تكُن جماليّة فقط، بل انطبعت ببُعدٍ فكريّ جعلها تثور على كافّة الأساليب الغربيّة بما فيها السند أو الشكل الغربيّ الذي كان من الصعب تحطيم أوثانه والتعامل معه باعتباره مجرّد فكرةٍ فنّية. لذلك شكّل الموروث العربيّ مادّة خصبة لهؤلاء الفنّانين، حيث استطاعوا على منواله التفكير في صياغة حوامل جديدة تحمل أفكارهم وتدفع بهم صوب حداثةٍ تشكيليّة مغربيّة قوامها الإبداع والابتكار. وإذا كان من شروط نجاح أيّ حداثة فنّية هو الخلق والإبداع، فإنّ تجارب كلّ من المليحي وفريد بلكاهية وأحمد الشرقاوي ظلّ تعاملها مع مفهوم التراث يقوم على نزعةٍ ابتكارية تجريبيّة تستلهم الألوان والعلامات والرموز والمواد المحلّية وإعادة توليفها وفق قالب بصريّ، يجعل العملية التشكيليّة مُلتصقة بتاريخها ومسامّها وذاكرتها. فالحداثة التشكيليّة في هذه المرحلة المُبكّرة، كانت شاملة في مُنطلقاتها وغطّت كافة تعبيرات ومُكوّنات العمل الفنّي، لكنّها مع ذلك بقيت قاصرة أحيانًا، لأنّها لم تكُن تُساير تطوّرات الفنّ المعاصر في العالم والجدل الفكري الذي كانت تضجّ بعه به الجامعات الفرنسيّة والمعاهد الفنّية الأميركية.

محمد شبعة وإحدى لوحاته


جاء تعامل جماعة الدار البيضاء مع مفهوم التراث يتّخذ صبغة وجوديّة تقوم على الإقامة فيه، وعيًا وتفكيرًا ومُمارسة، وهذا بالضبط ما تًسجّله بعض الكتابات الغربيّة في كون العملية غدت ذات ميسمٍ أيديولوجي لكون الفنّانين لم يتعاملوا مع قضيّة التراث في كونه مجرّد نافذة فنّية ينهل منها المُبدع، بل كانوا يعيشون في غيبوبته ويعتبرونه بمثابة وجود ثانٍ عن حقيقتهم المسلوبة. ورغم ما تنضح به هذه الأفكار من تفكير استشراقي يُحيل إلى مفاهيم المعتقد والانتماء، فإنّ الجماعة استطاعت أنْ تجد في هذا التراث وجودًا حيًا وحياة حقيقية لمُنجزهم التشكيليّ ساهم شيئًا فشيئًا في تحرير وعيهم البصريّ ومكّنهم بقوّة من المُساهمة في جدل "الأصالة والمعاصرة" الذي شغل الفكر العربيّ، فصوّبت الجماعة أنظار هذا الفكر صوب التشكيل الجمالي، الذي كان يعيش مراحله الجنينية الأولى في علاقته بالحداثة البصريّة، خاصّة وأنّ الجانب البيداغوجي للمدرسة كان أوّل شيءٍ انطلقت منه في بلورة أفكارها ورؤاها في علاقتها بالتراث، حيث الاعتماد على طاقمٍ جديدٍ يُدرّس الفنّ التشكيليّ ويمزج في تكويناته بين تاريخ الفنّ المغربي وتدريس التراث وألوانه والمواد المغربيّة من خشبٍ وحنّاءٍ مثلًا، هذا إلى جانب الحرف اليدوية المُرتبطة بالزرابي والأنسجة والصنائع التقليدية وقُدرتها على فتح التجربة التشكيليّة على فضاءاتٍ بصريّة مُغايرةٍ ومناخاتٍ لونية مُتنوّعة تجد زخمها الجماليّ في مرجعيات البلد وطابعه المُتعدّد على مستوى النور واللباس والزرابي والوشم والمعمار. ولم يكُن الجانب البيداغوجي سهلًا، لأنّه ظلّ يُضمر في طيّاته عُمقًا فكريًا وتعاملًا معرفيًا حذرًا في فهم طبيعة هذا التراث والجدوى منه والإمكانات الجماليّة، التي سيُتيحها لهم وللأجيال المُقبلة.

بهذه الطريقة تمّ توزيع الموّاد وإسناد إدارة المدرسة إلى الفنّان فريد بلكاهية إلى جانب محمّد المليحي ومحمّد شبعة ومحمّد حميدي والإيطالية طوني ماريني (ناقدة) والهولندي بيرت فلينت (مجمّع) إلى جانب أسماءٍ فنّية أخرى. وقد كانت الدعوة واضحة وتتمثّل في إمكانية نهج أسلوب فنّي جديدٍ يُقرّب الفنّان التشكيليّ من تاريخه وموروثه. غير أنّ الأهمّ في هذه المرحلة التشكيليّة التاريخيّة، أنّ عملية استقاء وتطويع التراث بصريًا جاء بشكلٍ مُختلفٍ ومُتباينٍ من فنّان إلى آخر، وتتحكّم فيها نوازعٌ فكريّة أكثر منها جماليّة. فكلّ شخصٍ تعامل مع تراث من منظوره الخاصّ والنوعي. فإذا كان بلكاهية لخصّ هذه الموروث في الثورة على مستوى الشكل التقليدي واستخدام الموّاد المحليّة من جبصٍ وقهوة وحنّاء وترابٍ، حيث أعطى للعمل الفنّي طابعًا حرفيًا يدويًا ينطلق من كلّ المُقوّمات المحلّية في سبيل دمجها في أفقٍ كوني واستخدام بعضٍ من رموزٍ بصريّة أمازيغيةٍ تغوص في هويّة مغربيّة خالصّة، فإنّ محمّد المليحي سيستوحي من التراث أسلوبه الهندسي التجريبي، كما نعثر عليه في الفنّ الإسلامي أحيانًا، مُحوّلًا أشكاله لاحقًا إلى مويجات بحر (العودة إلى طفولته بمدينة أصيلة) تتمازج فيه فيزيونوميتها البصريّة، بين شكلٍ هندسي وجسدٍ أنثويّ مُتموّج.

من اليمين: عمل لفريد بلكاهية وعمل لمحمد المليحي





الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.