}

من معركة الكرامة حتى غزّة: الطفولة المغدورة

عمر شبانة عمر شبانة 1 نوفمبر 2023

ما يحدث من حرب إسرائيليّة على غزّة ليس جديدًا، فهي حرب متواصلة منذ عام 1948، أي ما قبل قيام دولة الصهاينة، هذه الدولة الاستعمارية الكولونيالية التي أقامها الاستعمار البريطانيّ ابتداء، ثمّ رعتها الإمبريالية الأميركية، ولم تكن روسيا/ الاتحاد السوفياتي الشيوعية بعيدة عن دعم هذه الدولة التي اعتبروها واحدة من الاشتراكيّات، وبذلك رأينا دولة الهولوكوست المدعومة من أوروبا بعد محرقة هتلر، وها هي الآن ترتكب المجازر ضد شعب فلسطين، وهنا أتذكّر أيّام "معركة الكرامة" عام 1968.

كنتُ في العاشرة من عُمري، تقريبًا، حين وقعت تلك المعركة الكبرى في بلدة/ مخيّم الكرامة خصوصًا، في الغور الأوسط تحديدًا، وفي الأغوار الأردنية عمومًا، معركة سبقتها الكثير من الجولات الحربيّة بين الفدائيّين الفلسطينيّين، بدعم من كتيبة في الجيش الأردنيّ، وبين جيش الاحتلال الإسرائيليّ- الصهيونيّ. أتذكّر تلك الأجواء وأنا أشاهد هجمات الجيش الصهيوني/ الأميركي على غزة وأهلها من المدنيّين.

ما يحدث في غزّة اليوم من قصف الطائرات والمدفعية ليس جديدًا، فقد شهدتُه في أثناء طفولتي، في الكرامة، حيث كنّا نتعرّض منذ بداية الستّينيات، إلى أشكال وأنواع من القصف المتكرّر للكرامة، بمبرر دائم هو قصف قواعد الفدائيّين، لكن القصف كان يستهدف الناس، يستهدف السكّان المدنيين أكثر من العسكريّين، فهؤلاء العسكريّون لهم خنادقهم التي لا يحتاجها المدنيّون من أهل الكرامة وغيرها من بَلدات الأغوار.

اللجوء الأوّل

كان أهلي قد لجأوا إلى الكرامة، بعد عدد من المدن الأردنية، فكان اللجوء الأول في عام 1948 إلى قرى الخليل، حين كانت تابعة لحكم النظام الأردنيّ، وفي عام 1967 جرى اللجوء إلى الأردن، والتنقّل بين عدد من المدن الأردنية، قبل الاستقرار في الكرامة، في حين استقرّ جزء من العائلة في العاصمة عمّان. وحين أذكر الكرامة، أذكر قواعد الفدائيّين قرب النهر، نهر الأردنّ، أو نهر السيّد المسيح، والنهر الذي ألقيت نفسي فيه طفلًا. فقد كنتُ شبلًا في سن السابعة أو الثامنة، وكانت أمنيتي عبور النهر. لكن عبوره كان محفوفًا بالمخاطر وبالحرس من الجهتين، جهة الصهاينة، والجهة الأردنية.

بين غزّة الآن، وبين تلك الكرامة، ما يقارب خمسة وخمسين عامًا، لا شيء تغيّر، فدائيّو المقاومة آنذاك لم يقصّروا، بل شاهدنا حرائق في الدبّابات والمدرّعات التي هاجمت الكرامة، وأكثر من ذلك شاهدنا سائقي تلك الدبّابات "مربوطين" خلف مركز القيادة في دباباتهم خوفًا من أن يهربوا منها ويتركونها. فالفدائيّون لم يكونوا أقلّ شجاعة وقوة، بل كانوا بلا أي غطاء إعلاميّ كما يجري الآن من مشاهدات على شاشات العالم، ومع ذلك سحقوا دبّابات العدوّ.



ما قبل حرب الكرامة

كنتُ في الكرامة إذًا، وشهدتُ ما نشهده الآن في غزّة. لم يكن قد مرّ على قيام دولة الكيان الصهيوني سوى عشرين عامًا. وكانت قد مرّت حروب عدّة قبل ذلك. إذ لم أكن قد ولدت عند العدوان الثلاثي، الإسرائيلي البريطاني الفرنسيّ المعروف على مصر جمال عبد الناصر، ولم أكن بلغت التاسعة عندما وقعت حرب الساعات الستّ في العام 1967، لكنني عشت حرب الكرامة وما قبلها من هجمات بربريّة هنا وهناك.

قبل الحرب الشاملة على الكرامة، كانت ثمة هجمات ومحاولات دائمة لقصف قواعد الفدائيّين، لكنها في الواقع كانت على بيوتنا وفَرْشات نومنا. أتذكّر جيّدًا كيف كنّا نختبئ في الغرفة الوسطى من البيت. وكيف كنّا نلجأ إلى غرفة المطبخ حينًا، والحمّام حينًا، هروبًا من القصف المتواصل، بينما النيران تنتشر في الجوار الذي لا علاقة له بالفدائيين. كان الفدائيّون بعيدين جدًّا. ويعرف الصهاينة ذلك، لكنّهم يصرّون على استهافنا، فنحن العدوّ، شعبنا كلّه عدوّ.

أعتقد أن شعبنا، في تلك الأيّام، كان أشدّ عزيمة عمّا هو اليوم. كنّا نعتقد بشعار "من النهر إلى البحر"، هذا الشعار الذي أخذ في الانهيار منذ عام 1973، حين أخذ يرتفع شعار إقامة السلطة على أي شبر من فلسطين. كان ذلك الحلّ المرحليّ الذي طرحته قوى فلسطينية، وتبنّته منظمة التحرير، وتدحرج هذا البرنامج حتى حصار بيروت 1982، وانتهاء باتفاق أوسلو.

كنّا في الكرامة نشعر بقدر كبير من الكرامة. كنّا فدائيّين لا سِلْم ولا استسلام. وفي تلك الأيام لم يكن ثمّة حماس، ولم يكن حزب الله ولا إيران حتّى. كلّ ما أذكره من تلك الأيّام أسماء وعناوين لم نكن نفهمها آنذاك، كان اسم غيفارا بدأ يحضر بقوة، كما حضر بقوة اسم سايغون وفيتنام التي هزمت أكبر قوّة إمبريالية في عالمنا في تلك الأيام. كنا نسمع تلك الكلمات بشيء من السحر، وبدأت تظهر أغنيات "غيفارا مات" للشيخ إمام، وكانت تلك بدايات وعي جديد في مواجهة الهزيمة القاصمة في 1967.

ما قبل نلك الحرب الشاملة التي شهدتها الكرامة، أحتفظ بذاكرة الملاجئ في تلك الأيّام. كنّا نعيش في الملاجئ لأيام طويلة، نختبئ من تلك الهجمات الصاروخية والطائرات التي لا تكفّ عن قصف البيوت. لا أتذكّر من الذي أمَر ببناء تلك الملاجئ، لكنّنا كنا نشعر بأنها تحمينا من النيران الحارقة. كنّا أطفالًا ونرى الملاجئ لعبة نحتفل بها. بينما كبارنا لا يكفّون عن الدعوات الربّانية. يدعون الله والأولياء، ولا أنسى دعوة "سيدنا الفالوجي"، فهو الذي كانت تستدعيه جدتي بنت قرية الفالوجة. دعوات تذكّرني الآن بما يجري في غزّة. لم يختلف شيء منذ تلك الأيام. كلّ شيء يستمرّ كما كان.

الترحيل إلى عمّان

كان ثمّة شعور بالخطر القادم، المقاومون شعروا بأن ثمّة هجمة خطيرة، فطالبوا السكّان بالرحيل عن المكان، وكان الرحيل صوب عمّان، كان المشهد جحيميًّا وملحميًّا، لا أنسى تلك الشاحنات التي ركبناها في رحلتنا، ولا أنسى المشاهد التي كانت قد بدأت مع رحيلنا، فقد كانت عين الطفل ترصد وتراقب. كنّا أطفالًا في شاحنة تحمل الكثير من المهجّرين، ولا نعرف ما يجري، ولكن الخوف كان ظاهرًا. كان المجهول والغامض حاضرَين. كان الأهل يحملون في الشاحنات بعض المواد التموينيّة. وأذكر أن عمّي عبد القادر أخذ يلقي تنكات الزيت خوفًا من اشتعال الشاحنة، حيث كانت الطائرات الحربية تقذف الحِمم، والبعض قال إنها طائرات أميركيّة أو بريطانية هي التي تهاجم المقاومين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.