}

مئوية سيد درويش: تاريخ جديد للموسيقى العربية

سليمان بختي سليمان بختي 16 فبراير 2023

جدّد سيد درويش (1892-1923) اللحن العربي وخلصه من أمرين: 1- التخت التركي التقليدي و2- تلحين الحرف والارتجالات المتكررة. كما أنه ارتبط بالشعب وقضايا الوطن والمجتمع وخصوصًا ثورة 1919 ورمزها الكبير سعد زغلول. أدخل البساطة والحياة وقوة التأليف إلى الغناء وإلى الأوبريت والمسرح الغنائي. ولا يزال سيد درويش في مئوية وفاته: المؤسس والنابغة والمجدد ومفخرة جيله، كما وصفه الرئيس جمال عبد الناصر (1918-1970).

عندما ولد سيد درويش في عام 1892 كان الإنكليز يسيطرون على مقدرات مصر. كانت ورشة والده بالقرب من البيت تنبعث منها أصوات الباعة والجوالين. لبث الطفل يصغي إلى تلك الأصوات المتآلفة ويأنس لها. أرسله والده إلى كتّاب حسن حلاوة وهناك كان تفتحه الأول. وهناك تعلم من مدرس الأناشيد سامي أفندي الدرس الأول في الموسيقى وحفظ الأناشيد. وفي السابعة من عمره تولى سيد درويش بتكليف من أستاذه مهمة تحفيظ الأناشيد للتلاميذ. وفي السنة عينها توفي والده فتولته والدته ملوك. انتقل إلى مدرسة شمس المدارس وهناك التقى بمدرس آخر للأناشيد هو نجيب فهمي الذي درس على يديه الموشحات والأناشيد، وأدرك أن اللحن لا ينفصل عن الكلمة. انتقل إلى المعهد الديني لتجويد القرآن وكان مقره مسجد أبي العباس وانضم إلى الفرقة الأولى ثم انتقل إلى مسجد الشوربجي. بدأ اللحن والنغم يستحوذ على عالمه. وراح يتردد إلى الموائد والأفراح والندوات في كوم الدكة ليستمع ويستزيد ويغتني. ذات مرة كتب الفنان عاصي الرحباني (1923-1986) "الفنان تندهلو حاجات شعبه". كان العمال والفقراء والعربجية وعمال البناء والفلاحين بحاجة إلى صوت ولحن، وكان هذا الصوت هو سيد درويش. غنى لكل هؤلاء وأحس بفرحتهم بصوته. وعندما يؤوب إلى منزله في آخر الليل كانت تضيء أمامه أسماء المشاهير من الشيوخ والمنشدين والمقرئين مثل الشيخ أحمد ندا والشيخ إسماعيل سكر وغيرهما. ويحدوه الأمل أن يصبح واحدًا منهم. تزوج باكرًا في السادسة عشرة من عمره وراح يبحث عن مصدر جديد للرزق. انضم إلى فرقة كامل الأصيلي ولكن انفرط عقدها بعد حين. غنى في بعض المقاهي الليلية وليس في طبع الليالي الأمان. وجد عملًا مع مجموعة عمال البناء فانخرط فيها. لاحظ المقاول أن إنتاج العمال يرتفع وصوت سيد درويش يغني بينهم فأعفاه من العمل مقابل الغناء للعمال. ذات مرة صادف وجود الممثل أمين عطا الله قريبًا من البناء الذي يعمل فيه سيد درويش. أصغى إلى الصوت فأشار له أحد العمال أنه هناك واسمه سيد درويش. قرر عطا الله أن يضم درويش إلى فرقته التي يترأسها أخوه سليم عطا الله ومعها رحلة إلى سورية ولبنان. وهكذا من ورشة البناء إلى ورشة المسرح. وكانت أول رحلة يقوم بها خارج الإسكندرية. فشلت الرحلة رغم العروض التي قدمتها الفرقة في الصالات والمقاهي. ولكنها مكنت سيد درويش من الاستماع والتفاعل مع طراز جديد من الموسيقى، والمكسب الآخر اتصاله بالشيخ عثمان الموصلي (1854-1923) الذي تعلم منه سيد درويش الكثير.


زرعت تلك الرحلة في قلب سيد درويش الحلم بالمسرح والأغاني الجديدة التي سيلحنها بنفسه. عام 1912 ركب البحر ثانية إلى الشام لتبدأ منذ ذلك الوقت مرحلة الانتقال إلى التلحين من موشحات وأدوار وطقاطيق. ظل درويش في بلاد الشام حتى بداية الحرب العالمية الأولى. وأقام في الإسكندرية حتى نهاية الحرب حالمًا أن يبدأ مرحلة جديدة في القاهرة هذه المرة ومع المسرح الغنائي العربي. عمد بداية إلى تأليف فرقته الموسيقية الخاصة به كما أتقن العزف على العود. كان الشارع المصري يغلي بالتظاهرات والانتفاضات وكان لا بد أن يرافق ذلك انتفاضة موسيقية في اللحن والكلمة والشكل والمضمون. مستوحيًا من كلمات الزعيم الوطني مصطفى كامل نشيدًا غدا نشيدًا وطنيًا للبلاد وعنوانه "بلادي بلادي بلادي/ لك حبي وفؤادي". رد سيد درويش الاعتبار للكلمة المغناة، وأن تقال هي هي في الشارع والصالون وتلعب دورًا مع حركة الناس ومطالبها، أغنية بسيطة تستهدف المعنى والرسالة، سهلة الحفظ والأداء والانتشار. التقى سيد درويش الممثل جورج أبيض وفرقته الذي سجل إعجابه بأغنية "زوروني كل سنة مرة" وطلب إليه أن يلقنها إلى حامد مرسي ليقدمها بين الفصول. وإزاء النجاح الكبير قرر جورج أبيض أن يعهد إليه بتلحين مسرحياته الغنائية وبذلك دخلت الموسيقى إلى المسرح كمقوم أساسي في العمل الفني. خاض سيد درويش معركة جديدة وهي وقف تشويه الألحان في ارتجالاتها المبتذلة أحيانًا، وأن يصبح اللحن مطابقًا للنوتة الموسيقية، والعمل لبناء التصوير الموسيقي لمعاني الشعر. وانتقل بالموسيقى من مرحلة تلحين الحرف والآه إلى مرحلة الكلمة – اللحن.

رد سيد درويش الاعتبار للكلمة المغناة، وأن تقال هي هي في الشارع والصالون وتلعب دورًا مع حركة الناس ومطالبها، أغنية بسيطة تستهدف المعنى والرسالة، سهلة الحفظ والأداء والانتشار

لم تكن بدايات سيد درويش في القاهرة متيسرة فهذا الموسيقي الذي حوّل الموسيقى إلى رغيف خبز كان لا يجد قوته اليومي. لجأ إلى الشيخ سلامة حجازي الذي آمن بموهبته وأقام له حفلًا خاصًا يعود ريعه لسيد درويش. لبث الشيخ سيد في القاهرة يحارب الفقر ويحارب موسيقى التطريب وأغاني التطريب والتسلية والفرفشة. لحّن لجورج أبيض مسرحية "فيروز شاه" وهي أول مسرحية ملحنة. ولكن المسرحية فشلت. رغم ذلك اتصل به نجيب الريحاني وكلفه بتلحين مقطوعات موسيقية استعراضية ونجحت الفكرة. وبدأت الفرق في القاهرة تتسابق عليه وتطلب ألحانه. لحّن لفرقة الريحاني "العشرة الطيبة"، ولفرقة علي الكسار "راحت عليك" أو "بنت الحاوي"، ولفرقة منيرة المهدية الفصل الأول ونصف الفصل الثاني من أوبريت "كليوباترا" و"مارك أنطونيو"، ولفرقة أولاد عكاشة "عبد الرحمن الناصر والدرة اليتيمة". أما لفرقته الخاصة فلحّن "شهرزاد". ويقدّر إنتاج سيد درويش في المسرح الغنائي بتلحين ما يقدر بـ 20 مسرحية غنائية ومعها الأغاني التي تصور عذابات عمال البناء والفلاحين والصنايعية والعربجية والسقايين. وكانت الكلمة تتحد مع الموسيقى وجداول كلمات الأغاني تصب بين يديه من بديع خيري وبيرم التونسي ومحمد يونس القاضي وأمين صدقي وغيرهم. وعن طريق تفاعله ومشاهداته للمسرح الغنائي العالمي وارتياده دار الأوبرا واستماعه للفرق الأجنبية التي تؤدي المسرحيات العالمية استطاع سيد درويش إدخال تعدد التصويت الهارموني في مسرحياته الغنائية. قام بدور البطولة غناء وتمثيلًا في مسرحياته الثلاث: "العشرة الطيبة" كتابة محمد تيمور وأغاني بديع خيري، و"شهرزاد" و"الباروكة". في المسرح الغنائي جعل سيد درويش من الموسيقى رفيقه للقصيدة وبرزت معه القصيدة الغنائية الموسيقية وبات الفصل بين الشعر والموسيقى أمرًا مستحيلًا. صعد نجم سيد درويش في الشارع المصري حتى أن أمير الشعراء أحمد شوقي طلب إليه أن يلحن له نشيد "بني مصر" وفاز بالجائزة الأولى لمسابقة التلحين عام 1921. وكان قد ألّف ولحّن تقديرًا لسعد زغلول زعيم ثورة 1919 "عزك حياتنا/ ذلّك مماتنا/" و"قوم يا مصري مصر دايما بتناديك" و"يا بلح زغلولي" وغيرها.

عاش سيد درويش أجمل أيامه في حارة النصارى في الأزبكية القاهرة. ودعا والدته ملوك للسكن معه في القاهرة. وكانت أحب الأوقات لديه يقضيها في البيت يؤلف ويلحن ويستمع إلى صوت أمه وزوجته وولده كخلفية ألحانه. وفي منتصف شهر سبتمبر/ أيلول 1923 كانت رحلته الأخيرة إلى الاسكندرية. وفيما يشبه الحدس مشى سيد درويش في كل الأماكن التي أحبها في هذه المدينة، حي كوم الدكة وكتّاب حسن حلاوة وشمس المدارس ومسجد أبي العباس وقربه ذلك البناء الذي عمل فيه وخلفه الميناء والبحر، وكل الإسكندرية التي أحبها. شعر بشوق لرؤية شقيقته التي تقطن في محرم بك- شارع الأمير عمر. وظنته جاء ليسهر ويلحن ولكنه جاء للموت في فجر ذلك اليوم. وكان موته مفاجأة صادمة لعائلته ولمدينته ووطنه ولدنيا العرب. رحل وترك صوته وعوده وموسيقاه للناس والمدن والشوارع والوطن ولأجل بناء جيل جديد للموسيقى في الحضارة العربية. ضمه النمساويون والإيطاليون إلى أسماء الموسيقيين الخالدين في التاريخ. قال عنه رياض السنباطي: "لا عبد الوهاب ولا زكريا أحمد ولا القصبجي ولا أنا فعلنا شيئا بعد سيد درويش... إنه أستاذنا جميعَا". وقال عنه محمد عبد الوهاب: "قبله لم نسمع عن شيء اسمه ملحن. لقد خلق للملحن المصري الشخصية الملكية". وقال عنه عباس محمود العقاد: "أدخل عنصر الحياة والبساطة إلى التلحين والغناء بعد أن كان هذا الفن مُثقلًا".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.