}

أسباب ذاتية وغيرها للاحتفاء بعبد العزيز المقالح

أنطوان شلحت أنطوان شلحت 2 مايو 2023

لا تنعدم الأسباب الجوهرية كي نحتفي بالشاعر والناقد اليمني عبد العزيز المقالح (1937-2022) بعد نحو نصف عام على رحيله يوم 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022. أولّ هذه الأسباب قد يكون ذاتيًا بحتًا، ويعود إلى أن أول قصيدة نشرها المقالح باسمه الشخصي صراحةً كانت بعنوان "من أجل فلسطين" وأذيعت من راديو صنعاء في مناسبة العام الأول لافتتاح هذه الإذاعة عام 1956. وقد عكست القصيدة، منذ ذلك الوقت، موقفًا ظلّ الشاعر قابضًا على جمرته، مؤداه أن فلسطين هي قضيّة العرب أولًا ودائمًا بالرغم من كل ما يستجدّ من ظروف.

وفي النموذج المشتهى للفلسطيني من وجهة نظره ما يؤصّل لـ "الزمان الجميل"، إذا ما جاز التعبير، فهو الملتزم الذي لا يفرِّط ولا يساوم، القادر على أن يحفظ للقضية العامة توهجها وسخونتها حتى في ظل أوضاع قد تكون الأقسى والأسوأ لا في تاريخ فلسطين والأمة العربية وحسب، وإنما أيضًا في تاريخ الإنسانية.

في سبعينيات القرن الفائت ندر أن تجد مثقفًا فلسطينيًا لم يقرأ المقالح ويطلّع على أفكاره. وهذا عائد إلى طبيعة تلك الفترة المحتدمة، فكريًا وسياسيًا واجتماعيًا، واتسامها برؤى ونظريات تُعلي من شأن دور الكاتب في مجتمعه.

غير أن الأسباب الأخرى لهذا الاحتفاء تتجاوز ما هو ذاتيّ، وتتصل في معظمها بمشروع المقالح الأدبيّ الذي نذر له حياته العريضة ولم ينكص عنه.

لحمة هذا المشروع أن الشعر هو "فنّ العرب الأول". وكان كلما فاز بجائزة أو منصة تكريم يكرّر أنه بمثل هذه المبادرات تعود مكانة الشعر إلى الصدارة في ثقافتنا العربية، بما يعزّز قيامه فيها بدور طليعي خدمة لقضايا الأمّة والمجتمعات.

لكن حتى يقوم الشعر بهذا الدور فإنه بحاجة في رأيه إلى عناصر ثلاثة: الروح والأخلاق والهوية (في أحد حواراته أكد المقالح أن "الأدب العظيم ينشأ عن الأخلاق العظيمة").

وليس في أي عنصر من العناصر الثلاثة السالفة ما يُغني عن العنصرين الآخرين. وهي كافة عناصر مُستمدّة بالأساس من أخص خصوصيات الشاعر، وبمقدورها فقط أن ترقى بقصيدته إلى العالمية وليس العكس.

لم يؤمن المقالح، بعد أن عايش عصر العولمة، بما يُسمى "القصيدة العالمية" أو "القصيدة الكونية" والتي يحدّدها بكلماته بأنها "القصيدة التي تتماثل أشكالها ورؤاها من الصين إلى أميركا إلى أوروبا إلى الوطن العربي". وهو يعتقد- كما أكد في حوار آخر معه - أن قصائد هذه الموجة عديمة الانتماء، فاقدة الهوية، ولا معايير متينة تحكمها، وكثيرًا ما يراها فاقدو الموهبة مدخلًا سهلًا لحضورهم المفاجئ على خارطة الشعر المزعوم.

أول قصيدة نشرها المقالح باسمه الشخصي صراحةً كانت بعنوان "من أجل فلسطين" وأذيعت من راديو صنعاء في مناسبة العام الأول لافتتاح هذه الإذاعة عام 1956

وليس في قوله هذا ما ينفي إمكان أن ترتقي القصيدة إلى مصاف العالمية، كما ارتقت الكثير من القصائد التي كتبها شعراء عرب مثله، وتمثّل طموحها في كتابة تجربة شخصية معجونة بتجربة جماعية، وإضفاء معنى على هذه التجربة من خلال تصعيدها وكشف بعدها الإنساني الشامل. وبكلمات أخرى تمثّل طموحها في نقل التجربة من التحديد إلى التجريد، والذي ربما ينطوي على ما يمكن أن يوجز ماهية الكتابة الأدبية منذ فجر التاريخ.

بالتوازي جمع المقالح، ربما بتأثير دراسته الأكاديمية، بين كتابة الشعر وكتابة النقد. وهو لا يني يردّد أن في استطاعة الشاعر الذي يتعاطى النقد أو الناقد الذي يتعاطى الشعر أن يفصل بين حالتين: حالة الكتابة الشعرية، وحالة الكتابة النقدية، وإذا جاز للناقد أن يستعين بحدسه الشعري في أثناء تعاطيه النقد فإن من واجبه أن ينسى أنه ناقد في أثناء الكتابة الشعرية، لأن لحظة حضور القصيدة إنما تنبثق من العفوية والتلقائية والانبهار بهذا الكائن الجميل، والاستمتاع بحضوره وألقه، وهذا لا يمنع الشاعر فيما بعد من أن يجري على نصّه الشعري بعض المراجعات النقدية التي يرى أنها ضرورية في سبيل إبراز النصّ في صورة أبهى فنيًا وأكثر إشراقًا.

ولا شكّ في أن هذا القول سيبقى يشكل إغراءً لدراسي شعره الآن وفي المستقبل.

لكن الذي يهمّنا في هذا المضمار توكيده أن الناقد الأدبيّ مُبدعٌ أيضًا، وعدم اكتراثه بالمقولة المكرورة أن الناقد عبارة عن شاعر فاشل.

وقد يضيق المقام لإضاءة موضوع الحب أو العشق المتعدّد المرامي في قصائد المقالح، والتي ترمز بدورها إلى كتابة يمنيـة أثارت قضايا مُبكّرة.

ويكفي أن نختم هذه الوقفة السريعة بالإشارة إلى أنه كان يعتبر كل فقير إلى الحب "بمنزلة" عدوّ له، مثلما قال في إحدى قصائده:

"إلـهي

أعوذ بك الآن من شرِّ نفسي

ومن شرّ أهلي

ومن شرِّ أصحابي الطيبين

ومن شرِّ أعدائي الفقراء إلى الحبِّ

ومن شرِّ ما صنع الشعر

ومن شرِّ ما كتب المادحون

ومن شرِّ ما كتب الحاقدون!".

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.