}

لكلمة الحق ضد الطغيان ثمن خلف القضبان

مها عبد الله مها عبد الله 24 مايو 2023

لا تفاجئ د. نوال زينب السعداوي قرّاءها كثيرًا! ففي جرأة وصدق وبلاغة وبيّنة معتادة، ينقل قلمها الرشيق كرشاقة قامتها، في تدفق سلس متناغم، صورًا لأحداث عاصرتها لا تفارق مخيلتها، بين أنماط بشرية وحشرات زاحفة وطعام رديء وأجواء رمادية، ومشاعر اختلطت فيها الرهبة من المجهول والإصرار على المواجهة والحفاظ على روح متّقدة... خلف القضبان! وكل ذلك كان بلا ادعاء، بلا تهمة، وبلا قاضٍ، استقطعت أوصالًا من شبابها آنذاك.

إنها إذًا د. نوال السعداوي (1931 - 2021) الرائدة في مجال حقوق الإنسان، وحقوق المرأة على وجه الخصوص. تخرجت في كلية الطب جامعة القاهرة عام 1955 وحصلت على بكالوريوس الطب والجراحة. وبالإضافة إلى ممارسة مهنة الطب، تقلّدت مناصب مرموقة في بلادها، كمنصب الأمين العام لنقابة الأطباء، ومنصب المدير العام لإدارة التثقيف الصحي في وزارة الصحة، ورئاسة تحرير مجلتي الصحة والجمعية الطبية... كما ساهمت في تأسيس الجمعيات الحقوقية، وقد حصدت عددًا من الجوائز العالمية، وتُرجمت أعمالها العلمية والفكرية والروائية إلى أربعين لغة. تشرّبت الطبيبة قيم الصدق والحرية والاعتداد بالذات منذ طفولتها، حيث ناضل والدها ضد الاحتلال البريطاني وشارك في الثورة الشعبية في مصر عقب الحرب العالمية الأولى، حتى تمت معاقبته بتعطيل ترقيته لسنوات بعد نقله إلى قرية صغيرة، وقد كان حينها مسؤولًا في وزارة التربية والتعليم. لا عجب إذًا أن يتم زجّها في سجون الرئيس المصري الراحل أنور السادات، وتحديدًا في عام 1981 ضمن حملة استهدفت مجموعة من الأدباء والكّتاب والصحافيين، بشبهة نشر الآراء التحريضية ضد الوطن ورموزه... وقد قالت في مذكراتها عن قيمة الإنسان: "إن كل شيء أجنبي أصبح أعلى قيمة من أي شيء مصري... حتى الإنسان".

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى لكتاب السعداوي "مذكراتي في سجن النساء" الصادرة عام 2015 عن دار الآداب للنشر والتوزيع، يتخللها اقتباسات ثورية من مأثور قول الطبيبة الأديبة، كثورتها الباقية ما بقيت الحياة (مع كامل الاحترام لحقوق النشر). وبينما يُدرج الكتاب تحت أدب السيرة الذاتية وأدب السجون كذلك. أيًا كان، فقد جاءت خواطر الطبيبة بين سطور مذكراتها تنمّ عن حسّ وفكر، وعن جمال وفلسفة، لطالما آمنت بها ووصمت بها، إكرامًا تارة، واتهامًا تارة أخرى!. إنها تفاصيل قاسية لا تخلو من تفاؤل، تسردها منذ لحظة اعتقالها إلى ما بعد إطلاق سراحها، يعيشها القارئ في كل لحظة، بما تحملها من قهر واستعباد، وبما يتخللها من ابتسامات وقفشات، وبما يغلفّها من تحدٍ وأمل، تحلّت بها الطبيبة... السجينة السياسية، مع قريناتها السجينات السياسيات والسارقات والداعرات والقاتلات، والشاويشات أيضًا. وعن تلك التفاصيل أتحدث كما يلي.


تعرض د. السعداوي في الجزء الأول من مذكراتها (القبض) حادثة الاعتقال، إذ قام عناصر من الشرطة باقتحام شقتها، وهي وحيدة، في أحد أيام أيلول/ سبتمبر من عام 1981، وجرّها عنوة إلى سجن القناطر الخيرية، بلا تهمة واضحة وبلا أذن مكتوب، بل هكذا... بحسب أوامر عليا صادرة من الرئيس السادات، ضد الطائفيين والمتآمرين في البلاد!. وعن أثر الذل تقول: "الناس من خوف الذل في ذل". أتى الجزء الثاني (السجن) مفصّلًا، إذ تطرقت السعداوي لحياة السجن اليومية مع بقية النزيلات، من خلال ما كنّ يستمتعن به من رياضة وفلاحة ودردشات متفرقة، ومن صراعات مختلفة، كالروائح العفنة، والحمام ذي الباب المشروخ، وخبز الفطور المحشو بالحشرات، والغبار والدخان، والأسرّة المتهالكة، وصراصير الليل. تقول عن شعور الخواء الذي لازمها ذات صباح: "أعظم صفات الإنسان أنه ينسى! وهل كنت أحيا في السجن دون أن أنسى؟". ثم يأتي الجزء الثالث (اختراق الحصار) ليبرز شخصية السعداوي الثائرة أبدًا، ومحاولاتها التي نجحت في التواصل مع عائلتها، وتهريب مقالاتها وخطاباتها، وتوكيل محامٍ لها، وطمأنتهم لها بتظاهر العالم معها رغم اضطهاد بلدها لها. ومن الطريف أنها كانت تمكث تحت جنح الظلام، إما في المرحاض أو تحت غطاء الفراش لتكتب تلك المقالات المهرّبة على ورق تواليت، وبقلم كحل تم تهريبه لها من عنبر الدعارة المجاور. وعن التأقلم تقول: "ربما لا يشعر الإنسان بالخطر إلا وهو خارجه، فإذا ما أصبح في قلب الخطر صار جزءًا منه ولم يعد يشعر به". يسفر الجزء الرابع (الخروج للتحقيق) عن سبب الاعتقال، والذي عاد إلى محاضرة ألقتها السعداوي بين زملائها في جامعة عين شمس، قبل عشرة أعوام تقريبًا من يوم الاعتقال الفعلي، وفي عام 1972 تحديدًا، إذ زعم التحقيق تحريض السعداوي على الثورة والتمرد آنذاك، رغم تفنيدها وإصرارها على أن المحاضرة قد عُقدت من أجل نقاش علمي بحت! لم تُخف السعداوي شكوكها في أن اعتراضها على معاهدة كامب ديفيد التي أبرمها السادات مع نظيره رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن عام 1977، كطرف رئيسي فيها، كان هو السبب الحقيقي وراء اعتقالها. وعن انتظار قرار الإفراج وهي بين زنازين المعتقل تقول: "لا يموت الإنسان في السجن من الجوع أو من الحر أو البرد أو الضرب أو الأمراض أو الحشرات، لكنه قد يموت من الانتظار. الانتظار يحوّل الزمن إلى اللازمن، والشيء إلى اللاشيء، والمعنى إلى اللامعنى". تصف السعداوي في الجزء الخامس (موت السادات) الفرحة العارمة التي اجتاحت أجنحة السجن عند إعلان الخبر، حيث خلعت المنقبات جلابيبهن مع نقابهن وشاركن السجينات الأخريات رقصهن وهتافهن، وذلك بعد حالة من الوجوم والقلق والترقب وهن يسترقن السمع من المذياع الصغير المهرّب خلسة، مما اضطرها للاختباء عن أعين الشاويشات في الحمام المتهالك لمدة ثلاث ساعات والمذياع ملتصق بأذنها، وأنفها قد أزكم من عفن حفرة التصريف الطافحة بين قدميها. في الجزء السادس والأخير (الذي جاء بلا عنوان)، تسترجع ذكرى مؤلمة نقلتها من شقتها، إلى سجن القناطر، إلى المدعي العام، إلى قصر الرئاسة، ثم إلى بيتها من جديد... حيث تولد من جديد! لا تنسى ما حيَت تواريخ ثلاثة حُفرت في ذاكرتها، هي: 6 سبتمبر يوم الاعتقال، 28 سبتمبر يوم الجلسة عند المدعي العام، و6 أكتوبر يوم الافراج. تعود د. السعداوي إلى السجن مرة أخرى، لكن للزيارة، حيث يأخذها الشوق لملاقاة رفيقات السجن اللاتي لم يزلن حبيسات وقتئذ. وعن لحظات من مرح عاشتها وزميلاتها النزيلات تقول: "لم تكن بدور تدخل المرحاض إلا ونراها تقفز آخره قبل أن تكمل مهمتها صارخة: صرصار!. ما أن نسمع صرختها حتى نجري إليها وفي يد كل منا شبشبها شهرته في يدها كالسيف استعدادًا لضرب الصرصار. وفي يوم سمعنا صرختها وهي جالسة في الحوش، وظننا أن صرصارًا هجم عليها، وخلعنا الشباشب وتأهبنا للمعركة لكننا لم نر صرصارًا وإنما رجل. لم تكن مرتدية النقاب وأفزعها أن يلمح رجل شعرها العاري، وقفزت من الحوش إلى العنبر في خطوة واحدة وأخفت شعرها ووجها تحت النقاب. أصبحنا من بعد، كلما سمعنا صرختها وقبل أن نخلع الشباشب نسأل: صرصار أم رجل؟".

تُلقي السعداوي الضوء على نماذج من أخلاقيات السجينات المتأرجحة بين التشدد الديني والانحلال الخُلقي، فمن السجينات من انتقبن وتلين القرآن ليل نهار، وقد تشبعن بكل ما من شأنه تحقير المرأة والحطّ من قدرها كإنسانة في المقام الأول

تُلقي السعداوي الضوء على نماذج من أخلاقيات السجينات المتأرجحة بين التشدد الديني والانحلال الخُلقي، فمن السجينات من انتقبن وتلين القرآن ليل نهار، وقد تشبعن بكل ما من شأنه تحقير المرأة والحطّ من قدرها كإنسانة في المقام الأول. ومن السجينات من قتلت زوجها وقطعته إربًا إربًا بعد أن وجدته مستلقيًا فوق ابنتها ذات التسع سنين، بعد عودتها المفاجئة من عملها اليومي في فلاحة الأرض إلى دارها، حيث يقبع زوجها آكلًا شاربًا نائمًا ليل نهار. ومن السجينات مومسات كن يتبجحن في إسفاف، وقد شوهدن يتحرشن بطبيب السجن الذي كان يتعاطى معهن في نشوة، عُرف بها. تقول وهي تتطرق في حديثها عن بعض أوجه الجهل والتخلف والهوان التي شهدتها في مجتمعها: "لا زال كثير من الرجال والنساء في بلادنا يؤمن أن وجه المرأة عورة! أما الثورة، فهناك من يؤمن أيضا بأنها كوجه المرأة... تحتاج إلى حجاب يغطيها". لكنها تعود لتنتصر لقضيتها التي آمنت بها، فتقول عن نصف المجتمع: "إذا النساء حرُمن الحرية فلا يمكن أن تكون هناك ثورة. هل تتحقق الثورة في مجتمع يكبّل نصفه بالقيود"؟ وبين ثنايا المذكرات، تعود السعداوي بالذاكرة أدراجها، مسترجعة ملامح من طفولتها بين أم شمّاء أبيّة تثور لكرامتها، وأب حرّ مناضل يلعن الإنكليز... بساطة جدتها لأبيها في الريف، وأبّهة جدتها لأمها في الترف. ورغم اقتضاب الكلمات، فقد أثارت د. السعداوي قدر من الشجن في رثاء والدتها ولحظات احتضارها التي لا تُنسى.

وأختم بمقولة للطبيبة الأديبة في الإرادة الحرة، وقد عاشت على مبادئ لا تحيد عنها، وواجهت ما واجهته في سبيلها، وماتت عليها: "هل يمرض الإنسان بإرادته؟ نعم، وأحيانًا لا! إلا أن الإنسان قد يمرض، بل قد يموت بإرادته. والعكس أيضًا صحيح... قد لا يمرض الإنسان وقد لا يموت بإرادته".

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.