لا يتحدث نوتوهارا (1940) في مقدمة كتابه عن نفسه كثيرًا، فيكتفي بعرض مسيرته مع اللغة العربية، والتي ابتدأها عام 1961 حين افتتحت جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية قسمًا للدراسات العربية فيها، فالتحق به، وتخرج فيه بعد أربع سنوات. عمل بعد تخرجه كأستاذ مساعد في جامعة طوكيو، ثم معيدًا في جامعته الأولى عام 1969، ليحصل عام 1974 على منحة خاصة من الحكومة المصرية للالتحاق بجامعة القاهرة كطالب مستمع، حيث استهل إبداعه الحقيقي من خلال الانكباب على القراءة والكتابة والترجمة، بالإضافة إلى الانخراط مع الفلاحين في الدلتا. يتوّج مسيرته بعد ذلك بالارتحال إلى بادية الشام، ومعاشرة البدو ردحًا من الزمان، في تجربة غنية لم يعايشها من قبل كياباني تخلو أرض آبائه من بادية. يسترجع نوتوهارا في خاتمة كتابه، وبحميمية، ذكرياته مع أصدقاء مسيرته الذين يكنّ لهم كثيرًا من الاعتزاز، في مصر واليمن وسورية والمغرب، وتجمعه بهم روابط مشتركة وذكريات دافئة رغم بون ثقافة مختلفة لا تشبهه في شيء!
ينتقد المستعرب في الكتاب، وبشكل رئيسي، الأوضاع السلبية الجسيمة التي تعاني منها المجتمعات العربية في العموم، حيث القمع، الحاكم المعمّر، انعدام الديمقراطية، هدر حقوق الإنسان، السجناء السياسيين، تهميش المواطن، انعدام الشعور بالمسؤولية، غياب العدالة الاجتماعية، حقوق المرأة، عدم توظيف الدين الإسلامي بشكل صحيح، تتبع النمط الأوحد، رهاب قول الحق، الطغيان وفوقية أصحاب السلطة على القانون... وغيرها كثير.
وفي منأى عن العاطفة التي تتملك المستعرب نحو أصدقائه العرب، فإنه يعزز قيمة الموضوعية التي حرص عليها في كتابه من خلال "تجربة صعبة ومريرة" واجهها كياباني مع قومه أجمعين! فعندما سيطر العسكر على مقاليد البلاد ورقاب العباد، وزجّوا بهما في حروب طاحنة ضد دول الجوار، آلت اليابان إلى دمار شامل على يد الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية. لقد دفع الشعب الياباني الثمن باهظًا، الأمر الذي دفعه لأن يكون أكثر وعيًا، وأن يعترف بالخطأ، ويستفيد من الدرس، فأبعد العسكر عن السلطة، وبنى ما دمّره القمع السياسي، واستغرق الإصلاح أكثر من عشرين عامًا عانى فيها اليابانيون الأمرّين. فمن الدروس التي لا ينساها الشعب الياباني، كما يقرّ المستعرب، "أن القمع يؤدي إلى تدمير الثروة الوطنية وقتل الأبرياء، ويؤدي إلى انحراف السلطة عن الطريق الصحيح والدخول في الممارسات الخاطئة باستمرار".
تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 2003 من منشورات الجمل، والتي يتطرق فيها الكاتب إلى سبعة مواضيع رئيسية في بلاد العرب. فيُثني على جمال الأدب العربي الذي تعلّمه وعلّمه، ويطري على عدد من الأدباء العرب، ويتحدث بإسهاب عن ثقافة البدو الذين عاش معهم فترة لا بأس بها من الزمان، حيث يرى أن البادية العربية هي الموطن الأصلي للعرب، وهي الأرض الخصبة للتأمل والفلسفة ونشوء العقيدة، ويتفاعل ويتعاطف كذلك مع القضية الفلسطينية، ويؤازرها بصدق، حيث يرى أن الإعلام مضلل في ما يتعلق بها، كما يطري على الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، ويمنحه لقب "الأديب الشهيد". وبدوري، أتطرق في الأسطر القادمة مع شيء من التوسع إلى أبرز ما جاء في الكتاب من قول صريح موجع، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر) كما يلي: يسود لدى الشعب العربي حس منعدم بالمسؤولية، لا سيما تجاه مقدّرات الوطن، كأنما هي أملاك الحكومة لا أملاكه! ففي تلك المجتمعات التي يحرص فيها كل فرد على التميّز إما بكنية، أو قبيلة، أو منصب، أو درجة علمية، في ظل غياب العدالة، وسيادة القمع، وذوبان الاستقلالية الفردية، يُصبح غياب "الوعي بالمسؤولية" نتيجة حتمية، وسمة بارزة. "ولذلك لا يشعر المواطن العربي بمسؤوليته عن الممتلكات العامة، مثل الحدائق العامة، والشوارع، ومناهل المياه، ووسائل النقل الحكومية والغابات... ولذلك يدمرها الناس اعتقادًا منهم أنهم يدمرون ممتلكات الحكومة لا ممتلكاتهم هم". إن غياب هكذا شعور بالمسؤولية العامة يولّد مظهرًا آخر أشد خطورة، وهو غياب الشعور بالمسؤولية بين أفراد المجتمع. ويضرب المستعرب في هذا مثلًا بالسجناء السياسيين الذين ضحّى بهم الشعب، رغم أنهم ضحّوا بمصيرهم وبشجاعة من أجله، فيعقّب مستنكرًا: "فلم نسمع عن مظاهرة، أو إضراب، أو احتجاج عام، في أي بلد عربي من أجل قضية السجناء السياسيين. إن الناس في الوطن العربي يتصرفون مع قضية السجين السياسي على أنها قضية فردية، وعلى أسرة السجين وحدها أن تواجه أعباءها". ومن ناحية أخرى، وعن التقديس الأبوي، يصف المستعرب (أبوة) الحاكم العربي (لأبنائه) من الرعية بـ"الظاهرة الغريبة"، إذ يعد اليابانيون كلمة "يا أبنائي ويا بناتي" التي يخاطب بها الحاكم العربي شعبه عادة "إهانة بالغة". فيرفضها كياباني قائلًا: "نحن لا نقبل بهذه الصيغة! نحن نقول لرئيس الوزراء أنت حر في بيتك، ولكن خارج البيت نحن لا نسمح لك". ومن جملة الاستنكار، يهزأ من ثقافة (مدح السلطان) الضاربة بجذورها في تاريخ العرب، برأيه، حيث: "نحن نستغرب ظاهرة مديح الحاكم، كما نستغرب رفع صوره في أوضاع مختلفة، كأنه نجم سينمائي، أو مطرب ذائع الصيت".
يستمر المستعرب ليصرّح بأن فضيلة الحرية هي أساس الحياة الكريمة، والبوابة إلى العمل والإنتاج والإبداع، ويشبّه القمع بداء عضال ينبغي قهره حتى لا تفقد البشرية كثيرًا من معانيها. فيقول ضمنًا: "وفي سياق الكلام عن الحقيقة، فإنني أضيف أن الناس في الوطن العربي يخبئون الحقائق التي يعرفونها حق المعرفة". يستشهد في هذا بـ (سجن تدمر)، الذي وعلى الرغم من زيارته لمدينة تدمر خمس مرات، وزيارة متحفها الشعبي هناك، إلا أنه لم يكن يعلم بوجود سجن شهير فيها يحمل اسمها، ولم يكن بالطبع يعرف موقعه! ولهذا مبرر سيكولوجي، حيث "إن الخوف يمنع المواطن العادي من كشف حقائق حياته الملموسة، وهكذا تضيع الحقائق وتذهب إلى المقابر مع أصحابها". ومع ذكر هذا المتحف، يُعرب الياباني عن استغرابه وهو يتجول في (السوق السوداء) للآثار العربية، حين يهمس له بالإنكليزية أحد موظفي متحف على حدود إحدى البوادي العربية بـ: "أن أشتري سرًا بالطبع قطعًا أثرية. لم أصدق أذني في البداية، ولكنه أكدّ لي بوضوح أنه يستطيع أن يؤمن لي قطعًا نادرة. ولم ينس أن يؤكد أننا لن نختلف على السعر". يستهول المستعرب الياباني إثم خيانة الوطن والضمير والشرف، فيعقّب متعجبًا: "إنه شيء لا يصدق"!
أما في ثقافة المجتمع العربي الذي يبدو إقطاعيًا لدى هذا المستعرب، فلا يُنكر القوم سلوك طفل ربط عنق عصفور بحبل يجرّه فوق التراب، بينما العصفور يرفرف في بؤس مستنجدًا، فهو مشهد طبيعي تألفه العين، ويتكرر في الحياة اليومية، وإنما هو "طفل يتسلى بلعبة"، أو مجرد "ضعيف تحت سيطرة قوي". يكمل المستعرب قائلًا: "والناس يقبلون سلوك المسيطر القوي ويرضخون له، أي يسمح المجتمع أن تسيطر قوة على أخرى أضعف منها". ومن المواقف التي شهدها المستعرب، وتصبّ في ثقافة الغالب والمغلوب، الفتى ذو العشر سنوات صاحب عربة الخردوات. تصدم الفتى بسيارتها إحدى معارف المستعرب، وهي تقلّه بعد حضوره مؤتمرًا في ذكرى ميلاد الكاتب طه حسين، فيسقط وتتبعثر أشياؤه الصغيرة، في حين ترمقه تلك بشرارة حارقة وماطرة وبوابل من شتائم كـ"الحيوان المتخلف الغبي". يعتصر لحظتها قلبه ألم ممزوج بالعجب، ليقول: "أنا لم أتوقع منها هذا السلوك اللاإنساني الفظّ تجاه شاب فقير يسعى لكسب رزقه في ظروف صعبة، وعلى عربة خشبية بسيطة! إني أرى سلوكها سلوكًا عنصريًا تجاه من هم أقل مرتبة في سلم الغنى لأنها تملك سيارة!". وفي خضم حديثه عن الجيل، يتحدث عن التعليم، وهو حديث يجده المستعرب ذو شجن، حيث ينتهي المطاف بالفتيان والفتيات النوابغ في البادية إلى حال الأفراد العاديين في ظل غياب الاهتمام والرعاية الاجتماعية. فيتحدث عن ابن صديقه السوري جاسم، الهادئ الصامت، الذي "يشع من عينيه ذكاء خاص، وشرود يشبه شرود المتأمل. كان دائمًا يراقبني بهدوء، ويتحدث معي بالطريقة نفسها. كل شيء في ذلك الطفل كان يوحي بأنه سيصبح كاتبًا، أو شاعرًا، لو كان طفلًا في اليابان. بعد عشر سنوات، رمى جاسم موهبته كلها، وأصبح راعيًا نموذجيًا كما يتوقع منه المجتمع".
ينتقل المستعرب بعد ذلك ليتحدث عن ظاهرة الفوضى الجماعية التي تدور رحاها يوميًا عند مواقف الحافلات في المدن المصرية، حيث تكتظ الحشود، ويختلط الحابل بالنابل، في سعي حثيث نحو الركوب، أو (الشعبطة)، بأي ثمن كان، فيستنكر معقّبًا: "وفي هذا الازدحام المحموم ينسى كثير من الرجال والنساء السلوك المحتشم الذي يوجبه عليهم الإسلام كمسلمين". وفي فطنة يابانية، يستغل المستعرب ثقافة (الحلال والحرام) ليواجه بها احتيال بعض العمّال في أثناء إقامته الطويلة في مصر مقابل إصلاحات منزلية، فيتوعد هؤلاء قائلًا: "ألا تخاف الله؟ أنا سأطالبك بالنقود الزائدة التي أخذتها مني يوم القيامة". ليخلص أن "الجميع كانوا يخافون فعلًا، ويأخذون أجرهم في حدود ما كانوا يسمونه الحلال". وهو لا يزال يتعرّض للسلوك الاجتماعي عند العرب، يفرّق المستعرب في شاعرية بين غضّ النظر وتذوق الجمال، مستشهدًا بقول عنترة بن شداد: (وأغض طرفي إن بدت لي جارتي... حتى يواري جارتي مأواها)، ويستنكر حجب المرأة بعد أن علم أن: "على المرأة أن تخبئ جسمها لأنه عورة، أو لأنه فتنة. وفي الريف على المرأة الجميلة أن تختبئ هي أيضًا في البيت، وكأن الجمال لعنة، أو ملكية ضيقة ليست للظهور أبدًا".
ومن حافة بعيدة، كان البيت المتهالك على أطراف مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في دمشق يقطنه رجل خمسيني، وقد برّر تهالكه للمستعرب قائلًا: "هذا بيت مؤقت. بيتي الحقيقي هناك في فلسطين. نحن نسكن هنا بصورة مؤقتة، وسنعود إلى ديارنا عاجلًا أم آجلًا، وإذا وضعنا سقفًا بشكل كامل فهذا يعني إننا نتنازل عن العودة". استأذن العجوز ثم عاد يحمل معه مفتاح بيته في فلسطين، وقد اعتبره شيئًا نفيسًا، واستطرد قائلًا: "كلنا نحتفظ بمفاتيح بيوتنا. نحن هنا بصورة موقتة".
أخيرًا، أختم بجملة من التساؤلات "البسيطة والصعبة" التي انعكست مع صورة العرب في مرآة المستعرب اليابانية وهم صامتون ذاك الصمت الذي يجهر مدويًا بالرفض في جلّ حركاتهم وسكناتهم: "لماذا لا يستفيد العرب من تجاربهم؟ لماذا لا ينتقد العرب أخطاءهم؟ لماذا يكرر العرب الأخطاء نفسها؟ وكم يحتاج العرب من الوقت لكي يستفيدوا من تجاربهم ويصححوا أخطاءهم ويضعوا أنفسهم على الطريق السليم؟"... وما أشبه الليلة بالبارحة!