}

سلمى الخضراء الجيوسي: مساهمة الثقافة العربية في الحضارة الإنسانية

سليمان بختي سليمان بختي 27 يونيو 2023
كتبت الناقدة والشاعرة والمترجمة سلمى الخضراء الجيوسي (1926- 2023) في ديوانها الثاني والأخير "صفونا مع الدهر" الذي صدر قبل سنتين 2021 (الأهلية): "صفونا مع الدهر/ لم تنتقص من هوانا السنين/ وهذي التجاعيد حول الجفون شذاها".

أعطت سلمى الخضراء الجيوسي كل الوقت، كل العمر، لقضية الأدب والشعر العربي، وكيف يحضر هذا الشعر وذاك الأدب في العالم متجليًا في اللغات والدوائر والاتجاهات. تعمل وتنتج في طاقة لا حدود لها، في البيت والفندق والمكتب والمراكز والعواصم العربية والأجنبية. وهمّها أن تعبر إلى الآخر وتمد الجسور إلى الضفاف وتساهم وتغني المكتبة العربية والعالمية بمنجزات الثقافة العربية والإسلامية والأدب الفلسطيني.

ولدت الشاعرة والناقدة والباحثة الفلسطينية في مدينة السلط الأردنية من أب فلسطيني مناضل من مدينة صفد وكتبت غير مرة "صفد عالية وراس تلة"، هو المحامي صبحي الخضراء، أحد مؤسسي حزب الإستقلال في فلسطين. ومن أم لبنانية من جباع الشوف – جبل لبنان- هي أنيسة سليم، ابنة الطبيب يوسف سليم وأخت المناضل فؤاد سليم الذي استشهد في القتال ضد الاحتلال الفرنسي لسورية. نشأت سلمى وترعرعت في كنف عائلة وطنية تهتم بالأدب والشعر والثقافة وهموم الوطن والهوية. تلقت دروسها الإبتدائية والثانوية في مدارس عكا وفي كلية شميدت في القدس. ولبثت تحتفظ في ذاكرتها برائحة بحر عكا وعراقة معالم القدس وعبق تاريخها. ولما أنهت دراستها الثانوية إنتسبت إلى الجامعة الأميركية في بيروت حيث درست الأدب العربي والإنكليزي وتخرجت في عام 1945. تزوجت من زميلها في الجامعة برهان الجيوسي في عام 1946 ورزقا بثلاثة أولاد أسامة ولينة ومي، وعاشا معًا تبعًا لتنقلاته الدبلوماسية في عواصم العالم العربي وأوروبا وأميركا. شاركت في بيروت في مناخ حركة الشعر العربي الحديث في الخمسينيات والستينيات وفي مجلتي "شعر" و"الآداب". ونشرت قصائدها الأولى ومقالاتها الأولى في المجلتين. وانخرطت في السجال النقدي حول الأدب واللغة والتراث والجذور والهوية ودور الشاعر والقصيدة في الحياة العربية. أصدرت مجموعتها الشعرية الأولى "العودة من النبع الحالم" عام 1960 والإهداء "إلى أمي": "وأهدي إلى صديق يراعا/ فرحت به وهتفت لنفسي/ سأكتب أول شيء به/ لأمي رسالة أنس/ وأودع شوقي الملح وحبي فيها/ نسيت لوهلة/ لطرفة مقلة/ نسيت بأنك تحت التراب ولن تقرئيها". وفي "الديوان" قصائد عن "جامع قرطبة"، و"نداء" وهي مهداة إلى الفدائي العربي، و"مرثية الشهداء"، و"أغنية إلى تموز"، وقصيدة "العودة الى نبع الحالم" وقد أهدتها إلى ليلى بعلبكي، و"الشمس عندي لا تغيب" مهداة إلى جمال عبد الناصر، و"الثمار المحرمة" مهداة إلى والدها صبحي الخضراء، و"منذورون" من وحي رحلة لقمة قاسيون 1959، و"أذرع الكتان" وهي مرثية لنزيه حسين علي اليوسف الذي مات غرقًا في نهر دجلة 1957. لفتت هذه المجموعة نظر النقاد والقراء إلى تجربتها الإنسانية العميقة وإلى الشكل المتين الذي تنسجه في القصيدة، وفيه غنائية فدوى طوقان (1917-2003) وبنائية خليل حاوي (1919-1982) وثقافته وتدفق نذير العظمة (1930-2023).

أعطت سلمى الخضراء الجيوسي كل الوقت، كل العمر، لقضية الأدب والشعر العربي، وكيف يحضر هذا الشعر وذاك الأدب في العالم متجليًا في اللغات والدوائر والاتجاهات

لبثت سلمى الخضراء الجيوسي في البحث والدراسة والتعمق ونالت الدكتوراه من جامعة لندن عام 1970 وعنوان أطروحتها "الإتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث"، وهو بحث حول تطور الشعر العربي منذ عصر النهضة حتى سبعينيات القرن الماضي. وظهرت في مجلدين في اللغة الإنكليزية عن دار بربل 1977 وظهرت في العربية عن مركز دراسات الوحدة العربية في 2001. وكتبت  "الأدب الفلسطيني المعاصر"، "المسرح العربي المعاصر"، "الحضارة العربية والإسلامية في الأندلس" 1998، "القصة العربية الحديثة"، "الرواية العربية الحديثة" 2004، "أدب الجزيرة العربية" 1988. واستمرت تنشر في المجلات الأدبية العربية والإنكليزية العديد والمتنوع من الدراسات النقدية. مارست التدريس الجامعي في السودان والجزائر والكويت وكندا والولايات المتحدة الأميركية حين سافرت عام 1979 وهناك أسّست مشروعها الثقافي الكبير لترجمة الأدب العربي إلى الإنكليزية (بروتا) 1980. وقدّمت الكثير من الأعمال الثقافية تعريفًا بالمشهد الثقافي الفلسطيني والعربي على خارطة الإبداع العالمي كتبًا وروايات ومسرحيات وسيرًا شعبية. وأنشأت في عام 1990 مشروعها المرادف (رابطة الشرق والعرب للدراسات المعمقة) عن تاريخ الثقافة العربية والإسلامية ومساهمتها في الحضارة الإنسانية. وقد صدر عن هذا المشروع 50 كتابًا ومنها 11 مجموعة موسوعية.

عام 1985 أعدّت دراسة وقدّمتها في السويد حول وضع الأدب العربي واستحقاق أدبائه لجائزة نوبل للآداب. وكانت في حفل تسليم الجائزة للروائي المصري نجيب محفوظ (1911-2006) في عام 1988. إضافة إلى ذلك، لها ترجمات كثيرة : "إنسانية الإنسان" و"بالتازار" و"الشعر الأميركي"  و"الشعر والتجربة" لارشيبالد ماكليش و"والت ويتمان" وغيرها. وترجمت الى الإنكليزية: "الصبار" لسحر خليفة  و"الحرب في بر مصر" ليوسف القعيد و"براري الحمى" لإبراهيم نصر الله و"بقايا صور" لحنا مينا و"نزيف الحجر" لإبراهيم الكوني وغيرها. عدا الأنطولوجيات الشعرية بالإنكليزية وفيها قصائد لأبي القاسم الشابي وفدوى طوقان ومحمد الماغوط وخليل حاوي ونزار قباني وأدونيس وشوقي أبي شقرا وغيرهم. كل هذا الجهد "النبعي" الغزير دفع أستاذ الأدب العربي في جامعة لندن ستيفان شبيرل إلى القول: "إن هذه القدرة المتميزة المتعددة الجوانب يكمن جوهرها في لب كل هذه الإبداعات التي تقدمها وتجعل منها أحد الكتاب الإنسانويين في العالم". وكتب الشاعر شوقي أبي شقرا متذكرًا سلمى ودورها في مجلة "شعر": "هي شجاعة على فك رباط العمر، تهجم هجوم اللبؤة ولا تنثني. وهي أيضًا طائر مهاجر، والفضاء الذي أتيح لها في بيروت هو مجلة "شعر"... هي التي تذرف الكلام والتي من ألمها ومن وجع الغربة، طرحت قصيدة غنائية، وطرحت صوتًا لها ينذر بأن الوقت سوف ينتهي في الغابة، حتى الشعور بالأفق، وأن الشعور ليس بالخذلان وإنما الحقيقة وأن يبصرها الآخرون". لم يمسها التعب أو ينال منها الإحباط بل لبثت تعمل حتى آخر لحظة بكامل وعيها وانتباهها وكأنها مؤسسة في شخص وبأبعاد كثيرة.

في عام 2019 تواصلت معها لأجل كتابة مقدمة لكتاب خالتها جمال سليم نويهض (1906-1994) الأعمال الشعرية "زيزفونة الدرب" والذي صدر في بيروت في 2021، وربما كان من آخر ما كتبت، ولكن استوقفتني في مقدمتها هذه الفقرة الأخيرة كأنها تكتبها لنفسها أو لمثال أو أيقونة إذ قالت: "هي إذًا مثل حي حداثي على قدرة الإنسان أن يصنع نفسه ويختار طريقه ويتولى إحياء قدراته على الرغم من أي قيود اجتماعية موضوعية".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.