}

صنوف تعذيب وحشية لوحوش بشرية

مها عبد الله مها عبد الله 24 يوليه 2023
استعادات صنوف تعذيب وحشية لوحوش بشرية
محمد سليم حماد وكتابه "تدمر شاهد ومشهود"

هنا صفحات مقتطعة من سجلات أدب السجون... معدودة، لكنها كفيلة بتهييج كل مشاعر الرعب والألم والغثيان والجنون في صورتين عريضتين لما يجري خلف القضبان: صورة بشر مسفوكة دماؤهم، وصورة بشر يتفننون في صنوف السفك تلك مما لا يخطر على بال إبليس!
يقضي محمد سليم حماد ـ الطالب الأردني في كلية الهندسة في جامعة دمشق ـ عقدًا من الزمان خلف قضبان سجن تدمر، بعد أن يتم اعتقاله في اليوم الثامن من شهر أكتوبر/ تشرين الأول 1980 وهو على باب كليته، فتعصب عينيه وتوثّق يديه قبل أن يتمكن من التقاط أنفاسه! يأتي هذا الاعتقال إثر شبهة أحاطت به ليصبح (شاهدًا) وآلاف السجناء على دموية السجن والسجانين، ويُصبح كل عمل وحشي جرى على مرأى أعينهم (مشهودًا)، يضاف إلى قرائن الإدانة! لم ينخرط سليم يومًا في أي عمل مناوئ للحكومة السورية، غير أن رفقته لعدد من الشباب السوريين المناضلين كان سببًا كافيًا لاعتقاله، وذلك في أثناء التحاقه بجماعة الإخوان المسلمين التي كانت تنمو بشكل علني وطبيعي في الأردن آنذاك، حيث تعرّف عن كثب على عدد منهم، وعلى "قضيتهم ومعاناتهم وجملة هامة من أفكارهم، الأمر الذي كان له وقع مختلف على نفسي لم تظهر آثاره إلا بعد سنوات"، حسب شهادته.
تعتمد هذه المراجعة الاستعادية على الطبعة الأولى من كتاب "تدمر شاهد ومشهود: مذكرات معتقل في سجون الأسد"، من تأليف محمد سليم حماد، والصادرة عام 2006 عن مركز الدراسات السورية في المملكة المتحدة، وهي تعرض في سبعة فصول أبرز ما جرى من أحداث على مسرح (سجن تدمر العسكري) المصنّف ضمن الأسوأ عالميًا، ابتداءً من (التنظيم، الاعتقال، أبو جهل، الإعدام، أمر بالفاحشة، السل، مغادرون وقادمون)، انتهاءً بملاحق عن (سجل الشهداء)، و(مجزرة تدمر الكبرى على لسان منفذيها)...
يلحّ الكاتب على كل شاهد، وهو يقصّ سيرته كسجين أسبق في سجون نظام الأسد، أن يشهد على دموية النظام، لا كشهادة للمعاصرين، بل للأجيال المقبلة... إذ يقول في الخاتمة: "أدعو كل أخ مسه من فيح تلك المحنة جانب، أو ناله من لظاها أذى، وأدعو كل مواطن شهد على ممارسات النظام السوري القمعية مشهدًا، أو عرف خبرًا، أن يبادر ويسجل تجربته ويكتب مشاهداته وشهادته. ولو لم يكن لدى المرء فرصة للنشر اليوم، أو كانت ظروفه لا تسمح الآن فغدًا ستختلف الموازين وتتغير الأحوال إن شاء الله".
يتحدث سليم في (مراسلات) عن واقعة توقيفه في مركز على الحدود السورية خلال الفترة التي اعتاد فيها التنقل بين الأردن وسورية للدراسة ونقل المراسلات. لم يكن حينها يحمل أي رسالة معه من الإخوان، أو ما قد يثير الشكوك حوله، غير أن توقيفه لمدة يوم واحد كان كفيلًا بتوليد كثير من الهواجس لديه عن هذا المكان المشؤوم! يقول بعد أن أطلق سراحه وقد اتضح أنه لم يكن الشخص المطلوب: "إن الفترة التي أمضيتها بين الزنازين وفي أقبية المخابرات حينذاك كانت كافية لأتبين فظاعة الوضع هناك ومقدار الرهبة والمعاناة التي يلاقيها السجناء: طريقة الأسئلة، الكلمات البذيئة والمسبات، الصفعات والإهانات، وأصوات التعذيب واستغاثات المعذبين". يلّح عليه أهله في الأردن بعد عودته ـ وقد علموا بما حصل ـ ألّا يعود ثانية إلى دمشق، لكنه أكمل مشواره الذي ابتدأه ليلقى مصيره في ما بعد.




تجنّد المخابرات طالبًا في كلية الطب عميلًا بين صفوف التنظيم، ليستفيد من علاقته بالإخوان ويمدّ رؤساءه بالأخبار. كان كثيرًا ما رآه سليم يحوم حولهم ويكثر من الأسئلة بداعٍ ومن غير داعٍ، وقد تمكن فعليًا من الإيقاع بعدد كبير من الإخوة، وكشف قواعد المجاهدين من داخل دمشق وخارجها. فيذكر سليم في (مفاتيح التنظيم) أمين سر تنظيم دمشق والاعترافات التي أدلى بها للمخابرات تحت وطأة التعذيب، لا سيما "الهويات المزورة التي يستخدمها التنظيم الناشئ"، بعد أن قُبض عليه ضمن كمين تم تدبيره له في مارس/ آذار 1980. وإثر اعتقاله هو يقول عن إحدى جلسات الاستجواب معه: "وعلى باب غرفة التحقيق وجدت الشخص الذي أحضرني ينزع عني ملابسي كلها ويقذف بي من ثم إلى داخل الغرفة مغمض العينين مكبل اليدين عاريًا كيوم ولدتني أمي! ولم يلبث الصوت نفسه أن أمرني بالجثو على الأرض وخفض الرأس، وحذرني أن أحاول رفع هامتي لأي سبب".
لا تلبث الأمور حتى يتم شحن المعتقلين الجدد إلى مثواهم شبه الأخير في سجن تدمر، وبمجرد أن يُصبحوا في عهدته تبدأ فعاليات استقبالهم الرسمي بحفاوة مختلفة! يصف سليم تلك اللحظات في (قصاص) قائلًا: "تجمع موكبنا الحزين خارج الذاتية، فإذا بنا أمام باب كبير كفم الغول. أخذتني لمحة من عيني إلى أعلاه فهالني أن أقرأ قول الله تعالى مخطوطًا هناك «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ» تحوطه شعارات النظام المعروفة "أمة عربية واحدة... ذات رسالة خالدة". دخلنا البـاب ونحن نقرأ على الدنيا وراءنا السلام". يجد السجناء بعد ذلك أنفسهم وسط "باحة إسمنتية" تحيط بها مهاجع السجن... تلك المهاجع التي يؤمر السجناء بالاصطفاف على جدرانها وترك أظهرهم مشاعة لوحوشه. يُسحب السجناء واحدًا واحدًا ويتم تجريدهم من ملابسهم كاملة ما عدا قطعة واحدة، مع تكرار عملية التفتيش كإجراء احتياطي، حتى تتلقاهم الأيدي "بالضرب والجلد والركلات". تتلو تلك المراسم جلسة (الدولاب)، والذي يُربط فيه السجين من رجليه بجنزير من حديد لضمان تثبيته من دون حراك، حتى يبدأ الضرب من غير حساب، وحيث تكون إشارة الانتهاء عند أولئك الوحوش "أن تتفتح بطن الرجل وتسيل منها الدماء". لا ينتهي العذاب عند هذا الحد، بل تنهال ضربات أخرى على راحات اليد باستخدام "سياط من الجلد العريض" يقال "أنها صنعت من حزام مروحة الدبابات". بعد اطمئنان الوحوش بأن ما حلّ بالأرجل قد حلّ بالأيدي، يؤمر السجناء المتهالكون بالانبطاح أرضًا، فتُلحق بهم العصي وتأخذ السياط من ظهورهم وجوانبهم ما تبقى منها، في خمسين أو مئة سوط... "ويدخل الحفل مرحلته الأخيرة، فيقفز أحدهم فوق ظهر الضحية ويلحقه ثان فيقلبه ويعلو صدره، ويأخذ كلاهما يعفسانه ويركلانه ويمسحان به نعالهما العسكرية الغليظة، حتى تتكسر الضلوع وتتهتك بقايا الجلد السليم". تسيل الدماء من الجميع وقد يخرج البعض ميّتًا، أو كسيرًا، أو مصابًا بعاهة، ولا "يزيد ذلك الزبانية إلا سرورًا وغرورًا".
لم يقتصر الأمر على تقبّل السجناء تراكم أجسادهم بعضها فوق بعض، بل كان من المحتّم إكرام مخلوقات أخرى تقاسمت معهم الملح والسكن. يقول سليم في (القمل والجرذان): "كانت الجرذان والتي أقسم أن واحدها كان أكـبر من القط بلا مبالغة، تربت على طعام المساجين الذي يحتجزه السجانون عنا ثم يرمونه في القمامة! هذه الجرذان كانت تتنقل بين المهاجع من خلال قنوات التهوية رائحة غادية، وفي أثناء عبورها فوق فتحة المروحة التي كانت أعجز من أن تقدم شيئًا لهذا الجو الموبوء، كان بعضها يزلق فيسقط بيننا أو علينا، فيصاب المهجع كله بهستيريا الذعر، ويتراكض الناس يمينًا وشمالًا يريدون أن ينجوا من عضة هذا المخلوق المرعب. ويتدافع الخلق ويعلو الصياح ولا تنتهي الغارة، ويموت الجرذ تحت الأقدام، إلا وقد نهش أرجل أربعة، أو خمسة منا". أما مشوار (إلى الحلاق) الذي كان يجزّ شعر المساجين فيحيلهم من (غيلان) إلى (رؤوس بطيخ) حسب تعبير سليم، فقد كان يمتهنه سجّان برتبة حلّاق من طائفة النظام، لا يتورّع عن كيل سيل من شتائم ولطمات في أثناء تأدية مهمته لطابور طويل من السجناء، يُلزمون بالدفع له بعد الانتهاء. وبعد الحلاقة، لا بد من الحمام الذي يقول سليم عنه في إحدى المرات: "وبعد ذلك جاء وقت الحمام الجماعي، وساقتنا اللطمات والركلات وفرقعة الكرابيج على ظهورنا إلى قاعة مفتوحة أدخلوا كل عشرة فيها دفعة واحدة وأمروهم أن يتعروا من ثيابهم ويغتسلوا معًا. والجلادون على الباب يشتمون من شاؤوا ويضربون من اشتهوا، والجرذان العملاقة تلك على المواسير فوقنا، تترقب أن يغفل أحدنا لتنهش منه، أو تنقض عليه".
وبينما يفقد سليم خمسة عشر كيلو غرام من وزنه خلال الأسبوع الأول من دخوله السجن وقد أصبح مجرد (رقم)، يتحدث في (معجزة) عن الأثر الذي لا يزال يلف معصميه كبصمة لذكرى ليس لها أن تُمحى! كانت جلسات التعذيب التي كان يطلق عليها "حفلة التعذيب" قد تقررت له مرتين في اليوم، حيث يغدو إليها مكبل اليدين معصوب العينين ومجردًا تمامًا من ملابسه، حيث تنال منه السياط ما تنال لا سيما ظهره وصدره ورأسه، بالإضافة إلى ملاقط الكهرباء. غير أن أسوأ ما أصابه هو "أثر القيد الحديدي الذي يشد على الرسغ ويحتك مع العظم بلا رحمة أو توقف، حتى التهبت يداي وتورمتا من جراء انغراس الحديد القاسي في اللحم واحتكاكه المباشر بالعظم الذي انكشف وتعرى. وظلت آثار القيد كالوشم على رسغي إلى اليوم". وقد قضى بعد تلك الجلسات شهورًا طويلة لا يشعر فيها براحتيه سوى التنميل، أو ما أشبه بخدر مزمن، وقد أخبره الطبيب لاحقًا "أن الأوتار في تلك المنطقة قد تهتكت بشكل كبير، وأنها تحتاج إلى معجزة لتعود إلى حالتها الطبيعية من جديد". أما عن (بساط الريح) الذي لم يكن سوى أداة من أدوات التعذيب، فقد كان الأكثر شيوعًا، "وهو لوح من الخشب يشدون المعتقل عليه من كل أطرافه بسيور جلدية، ثم يرفعون نصفه الأسفل الذي ارتصت عليه الساقان ولم تعودا تملكان أي فرصة للتحرك، وتبدأ الكبلات ذات النصال المعدنية تهوي على بطن الرجلين تنهشهما بلا شفقة، وتترك مع كل لسعة لهـا أجزاء من نصال الحديد في ثنيات الجروح المتفجرة، فإذا انتهى الضرب بقيت هذه النصال مع الدم المتجمد والجروح المفتوحة فتلتهب وتتعفن، فيتضاعف الألم وتشتد الأوجاع والمعاناة. وأما الشتائم والكفر بالله فلم تكن تتوقف مع كل أنواع التعذيب". ومن مضحكات ومبكيات شر البلية أن تخصص إدارة هذا السجن طبيبًا يتواجد في غرف التعذيب، يحرص على بقاء السجين حيًا ليتلقى نصيبه المقسوم من جرعات العذاب.




يُنادى على أحد السجناء للإعدام وقد كان طالبًا في كلية الهندسة، فيقبل عليه المساجين باكين مودعين، وهو يقف أمامهم شامخًا قائلًا في رضى: "علام تبكون؟ ابكوا على حالكم أنتم... أما أنا فخلاص، ارتحت من هذا العذاب". ومع اشتداد موجة العنف ضد السجناء، وبينما يتم زج مجموعة منهم صوب منصة الإعدام، ينفلت أحدهم ليوسع الزبانية ضربًا شديدًا قبل أن يتمكنوا من توثيقه ودفعه نحو حبل المشنقة من جديد. لقد كان الانتقام بعد ذلك أشد عنفًا إذ اقتحم الزبانية بعدها جميع المهاجع ليذيقوا السجناء شر قتلة، وحتى لا تسول لهم أنفسهم تكرار ما فعل زميلهم، ولضمان وأد أي فكرة لتمرد، أو عصيان!
ينقل السجين شهادة أخرى عن قيم العزيمة والإصرار والمقاومة التي تحلّى بها كثير من الشباب السوري المؤمن بعد خروجه من المعتقل، رغم ما طاوله من أذى جسدي ومعنوي يهدّ الجبال، فينقل عن الرئيس البوسني علي عزت بيجوفيتش مقتطفًا من كتابه "هروبي إلى الحرية"، عن الكاتب الروسي خارلام شالومون، والذي كان معتقلًا لمدة خمسة وعشرين عامًا في سجون سيبيريا: "إن الحصان يفقد القدرة أسرع من الإنسان! لا يوجد حصان يمكنه احتمال ما يمكن أن يتحمله البشر في معسكرات سيبيريا الستالينية، وهذا مدعاة للفخر، ربما يكون الأمل هو الذي أبقى الإنسان في أصعب الظروف".
ختامًا، وإن انتهت معاناة السجين وقد مرّ عليها اليوم أكثر من ثلاثة عقود، إلا إن شهادته الموثقة هذه ستبقى "وثيقة تفضح هذا النظام الذي فاق كل الأنظمة الاستبدادية في المنطقة، بل ربما في العالم كله. إنه طغيان متجبر على أهلنا، يبدو قزمًا أمام القوى الخارجية، هزيلًا في المحافل الدولية. كان النظام يطبق ما أوصى به (ماكيافيلي) حين قال: الشعوب تنتقم من ظالميها إذا كانت الأضرار التي لحقتها من الظلم تافهة، ولكنها تعجز عن الانتقام لأنفسها ممن يلحق بها أكبر الظلم وأشد الضرر"... نعم، كسياسة الأرض المحروقة... كما شهدنا!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.