}

في رحيل حليم بركات: سؤال الغربة والعودة إلى الوطن

سليمان بختي سليمان بختي 7 يوليه 2023
استعادات في رحيل حليم بركات: سؤال الغربة والعودة إلى الوطن
حليم بركات (1933 ـ 2023)
تعرفت إلى عالم الاجتماع والروائي والأكاديمي حليم بركات (1933 ـ 2023) عن طريق الدكتور هشام شرابي في أوائل التسعينيات في بيروت. كان بركات يحرص على أن يزور بيروت في صيف كل سنة ليتابع حوارًا داخليًا ـ خارجيًا، وليعرف أين اصبحت بيروت "المدينة الملونة"، كما عنونها في كتاب صدر له عام 2006. وكان يحن إليها وإلى قريته كفرون حنينًا صادقًا. أجريت معه حوارًا مطولًا لكتابي "إشارات النص والإبداع ـ حوارات في الفكر والأدب والفن" (1995)، وكنت أعجب كيف يأتيه الكلام عن تجربة السفر، والسعي إلى الجذور، من خلال التفاعل الحي مع الحضارات. وكان يعي أن بين الرواية وعلم الاجتماع خيوطًا يشدها ويرخيها ويغزلها لتصبح نسيجًا واحدًا مميزًا. وأنه رغم إحباطات الواقع والمراحل، ستكون النهاية بابًا للبدايات.
ولد حليم بركات في كفرون في سورية عام 1933. توفي والده عندما كان في سن العاشرة، فانتقلت عائلته للعيش في بيروت، حيث نشأ وترعرع. درس دروسه الأولى في مدرسة الكبوشية، ثم الإنترناشونال كوليدج. وتابع دراساته الجامعية في الجامعة الأميركية في بيروت. حصل على شهادة البكالوريوس في علم الاجتماع عام 1955، ونال الماجستير عام 1960 في الاختصاص عينه. سافر إلى الولايات المتحدة لمتابعة تخصصه، فنال درجة الدكتوراة في علم النفس الاجتماعي عام 1966 من جامعة ميشيغان في آن أربور. التحق بالجامعة الأميركية في بيروت أستاذًا بين 1966 حتى عام 1972.
كيف غادر من جديد إلى الولايات المتحدة؟ ساهمت مواقفه القومية من القضية الفلسطينية والنازحين الفلسطينيين في التضييق عليه في الجامعة الأميركية، وكذلك تأثير شارل مالك، الذي كان لا يستسيغ وجود أساتذة قوميين، أو يساريين، في الجامعة الأميركية، أمثال هشام شرابي، وحليم بركات، وأسعد رزوق، وصادق جلال العظم، مما دفعه إلى الالتحاق بجامعة هارفرد من 1972 حتى 1973، ومنها إلى جامعة تكساس في أوستن، حيث درّس بين عامي 1975 و1976. وبمسعى من هشام شرابي، التحق حليم بركات بجامعة جورجتاون في واشنطن أستاذًا لتدريس البحوث في مركز الدراسات العربية المعاصرة منذ عام 1976 وحتى عام 2002.
كتب حليم بركات عددًا من الكتب والمؤلفات والأبحاث، ونشرها في مجلات محكمة، مثل "المجلة البريطانية لعلم الاجتماع"، ومجلة "الشرق الأوسط". وكتب أيضًا في "الحياة"، و"المستقبل العربي"، ومجلة "مواقف". وفي مرحلة مجلة "شعر" 1957 كان قريبًا من المجلة، ومن روادها، نشر فيها، وشارك في اجتماعات خميسها. كما صدر له عن دار مجلة "شعر": "الصمت والمطر" (قصص 1958)، و"ستة أيام" (1961)، ونذكر أن روايته الأولى "القمم الخضراء" حازت جائزة سليمان المدرس. في عام 1961، أصدر "عودة الطائر إلى البحر"، وترجمت إلى الإنكليزية والفرنسية واليابانية.




وفي عام 1979، أصدر "الرحيل بين السهم والوتر"، وفيها حوار وتضمين للتراث العربي المتمثل في "ألف ليلة وليلة". بعد وفاة والدته "أم حليم"، كتب "طائر الحوم"، رواية مضمخة بالحنين، وفيها حوار مع والدته عن كل شيء. حوار نادر الحدوث بين أم وابن ومكان. وينهي الصفحة الأخيرة بهذه الجملة "لا بد من العودة". وفي عام 1995، كانت له عودة إلى عالم القرية، أو الفردوس المفقود، وكتب "إنانا والنهر". وتتناول الرواية حادثة قديمة بقيت راسخة في ذاكرة القرية، وفي كل مرحلة تتوضح بعض الغوامض. سألته غير مرة لماذا لا تكتب مذكراتك فأجاب: جلها موجود في "طائر الحوم"، و"المدينة الملونة"، وبعض قصص "الصمت والمطر"، و"رياح وظلال".
تأرجح حليم بركات بين الرواية وعلم الاجتماع طويلًا. وعندما سألته أين تجد نفسك حقيقة، أجاب: "ذاتيًا، الكتابة الأدبية تحقق لي الاكتفاء، ولكن ما أردت الأدب مهنة أعتاش منها. أردت الكتابة هواية. أحياناً، أفكر أن علم الاجتماع مهنتي، والكتابة هوايتي، والهواية جدية أكثر من المهنة. تفاعلت مع الحقلين، واستفدت منهما. لا أشعر بانفصام، بل بتكامل بين علم الاجتماع والفلسفة والأدب والفن، وأجد جسورًا كثيرة بين هذه الحقول".
اهتم حليم بركات بالدراسات والأبحاث في الحقل الاجتماعي، فكتب "المجتمع العربي المعاصر" (1984)، و"حرب الخليج" (1992)، و"المجتمع العربي في القرن العشرين" (1999)، و"المجتمع المدني في القرن العشرين" (2000)، و"الهوية وأزمة الحداثة والوعي التقليدي" (2004)، و"الاغتراب في الثقافة العربية: الإنسان بين الحلم والواقع"، و"غربة الكاتب العربي" (2011)، أما آخر كتبه فكان عام 2012 بعنوان "رياح وظلال" (قصص).
أثار حليم بركات في كتاباته السوسيولوجية قضية الاغتراب وأبعادها في الذات والمجتمع، وطرح السؤال: عندما يتشكل الوعي ويعي الإنسان اغترابه ماذا يمكنه أن يفعل؟ ورأى أن هنالك ثلاثة احتمالات مبدئية: 1 ـ الانسحاب من الواقع، أو من المواجهة، أو الهجرة إلى مجتمعات جديدة، بمعنىً ما هو هروب.



الاحتمال الثاني: الانسجام مع الواقع قدر الإمكان، وكبت عدم الرضى، أو الخضوع، نهائيًا، والتخلي عن القيم والحقوق في المجتمع، وانعدام الدور في تغيير الواقع. أما الاحتمال الثالث فهو التمرد، وهو أكثر الحلول صحة وصوابًا. وقد يكون فرديًا، ولكن التغيير لا يتم بجهد فرد، أو جماعة، بل بحركة سياسية، أو اجتماعية، لها رأيها ودورها في تغيير الواقع كي يتجاوز الإنسان العجز الذي يعاني منه.
أعطى حليم بركات في مجال الرواية وعلم الاجتماع وكان عضوا في صندوق القدس ودافع عن قضية فلسطين والعرب في كل محفل أو منصة إعلامية. كانت لديه أحلام كثيرة ومنها "العودة إلى الشرق". أذكر أنني سألته في بيت صديقه الدكتور منير بشور في رأس بيروت كيف ترى الوطن من بعيد؟ أجاب: "كلما أطلت المكوث في الغرب ازداد تمسكي بالجذور والأصول".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.