}

القراءة بوصفها إبداعًا... مؤلّفات ألبرتو مانغويل مثالًا

عمر شبانة عمر شبانة 2 أغسطس 2023
استعادات القراءة بوصفها إبداعًا... مؤلّفات ألبرتو مانغويل مثالًا
(مانغويل، Getty)

 

بينما أفكّر في موضوع "القراءة"، ولماذا القراءة، ولماذا نحن "أمّة اقرأ" - كما يقال- "أمّة لا تقرأ"؟ عادت إلى تفكيري قراءات سابقة في الموضوع. فمن بين آلاف الكتب التي قرأتُ، ولا أذكر كم ألفًا هي بالضبط، ثمّة القليل الذي تحتفظ به الذاكرة، أما الآلاف الأخرى، فقد ذهبت إلى خزانة الذاكرة البعيدة، بعد قراءتها بلحظات أو بأيّام على أكثر تقدير، وبحسب هدف القراءة، فالهدف من القراءة هو ما يحدّد "نوعها"، ومدى الاستمتاع بها والإفادة منها.

ولا شكّ في أنّ نوع الكتاب وطبيعته، ومدى عمقه وأهميّته، تلعب كلّها دورًا في تحديد "نوع" القراءة. وبما أنّني أحبّ القراءة كشيء لا غنى عنه، وعن حيويّته، فإنّني كثيرًا ما أقرأ عن "عمليّة" أو عمليّات، أو أنواع القراءة نفسها. أعني القراءة بوصفها إبداعًا، وبوصفها كتابة جديدة لكلّ ما نقرأ، أو نعيد قراءته. وهو ما يستدعي وقفة، ولو سريعة، وإضاءات ولو خاطفة، على "قضيّة" تستحق الكثير من الدراسات. وللأسف فأنا لا أعرف، في عالمنا العربي- وعلى حد علمي المتواضع- مَن وضع كتابًا عن القراءة بوصفها إبداعًا.

كثيرًا ما يقال "إذا كان من المهمّ أن تقرأ، ومهمّ أيضًا أن تعرف ما الذي تقرأ، فالأهمّ هو كيف تقرأ؟". وسؤال "كيف نقرأ؟" هذا، مرتبط بسؤال "لماذا تقرأ؟"، أي بـ"الهدف من القراءة"، هل هو المتعة الخالصة، أم العمل، مهما كان نوع العمل، أم إنه الهواية للقضاء على الملل وحسب؟ وعند الحديث عن القراءة؛ وعن هدفها ونوعها ونتائجها، تجدر الإشارة إلى، والتوقف عند، واحد من أهمّ وأبرع من كتبوا في القراءة وتفاصيلها، أعني الكاتب والروائي الأرجنتيني/ الكندي ألبرتو مانغويل (1948)، فهو صاحب مؤلّفات عدة متخصصة في هذا العالم. لكن كتابه "مع بورخيس" يظل من الكتب القليلة التي لا تُنسى. وللمزيد من الاطّلاع، سنعرّج على بعض كتبه، مثل "تاريخ القراءة" و"فنّ القراءة" و"يوميّات القراءة". ولعلّ أهميّة مانغويل هذا ليست في كتاباته فقط، بل أيضًا في قراءاته واطّلاعه الواسع على عوالم يجعلك مضطرًّا للبحث عنها، من كتب وأفلام ولوحاتٍ لا تنسى.

القراءة إبداع... أيضًا

بعد أن يخرج الكتاب من يد مؤلّفه، يصبح ملكًا للقارئ/ القرّاء، وينتهي تمامًا دور ذلك المؤلّف. ولعلّني لست ممّن يأخذون بالنظرية الشهيرة عن "موت المؤلّف"، في أي صورة، فالمؤلّف يعيش في قراءة/ قراءات القرّاء لكتابه، وكلّما قرأه عدد أكبر من القرّاء، يعيش مجدّدًا وأعمق في ذاكرة القارئ وفي وعيه. إنّه، أي المؤلّف، صانع وعي ومتعة في آن. وكما كان بورخيس يعتقد أن "القارئ وحده هو من يمنح الحياة والعنوان للعمل الأدبي"، وأن "نظرية الأدبُ إبداعُ المؤلف (هي نظرية) مستحيلة"، فإن من الطبيعي الحديث عن علاقة خاصّة بين القراءة والكتابة. علاقة تجعل من قراءة العمل الأدبيّ كتابة جديدة له، مثلما هي الكتابة عملية قراءة للعالم، ولذا تتعدد القراءات بتعدّد الكتّاب، ويتعدد النص بتعدد قرائه.

القراءة هي، في اعتقادي، صِنو الكتابة الواحدة منهما أخت الثانية وتوأمها، فلا تعيش هذه من دون تلك. وقريبًا من هذا المعنى، يكتب مانغويل عن "بوزويل" (جيمس بوزويل، صديق صموئيل جونسون وكاتب سيرته، وأحد الذين كانوا يقرأون الكتب لبورخيس- الأعمى الذي لا يرى) بوصفه "يمتلك ذاكرة واحد من قرّاء العالم العظماء"! لديه إذًا، وفي مقابل، أو إلى جانب "أعظم كاتب" ثمّة أيضًا من يمكن وصفه بأنّه "أعظم قارئ". ولكن عن أيّ قراءة نتحدّث هنا؟ ويوضح فكرته أكثر في القول "يظل الكتاب كائنًا في حالة من الغموض، حتى تبادر اليد إلى فتحه والعين إلى مطالعته، وتوقظ الحياة في الكلمات".


في كتاب "فنّ القراءة"، يجتهد مانغويل فيرى أن القراءة، وليس الكلام، هي ما يميّز الكائن البشري عن سواه من الكائنات، فهي كما يرى ويعتقد "ذلك النشاط الإبداعيّ الذي يجعلنا من كلّ الأوجه إنسانيّين. أعتقد أنّنا في الجوهر حيوانات قارئة، وأن فنّ القراءة، في المعنى الأوسع للكلمة، يميّز جنسَنا". وهذا قد ينطبق على مستوياتٍ محدودة من القراءة، قد لا تكون من بينها القراءة الإبداعية، أعني القراءة المؤثّرة في النصّ، أي أنّها التي تنقله من نصّ غامض ومجهول، يرقد فوق رفوف مكتبة ما، إلى نصّ فاعل يتحرّك مثل كائن حيّ بين "القرّاء" الآخرين، أو "قُرّاء آخرين"، ويترك أثره في هؤلاء القرّاء، أي أنّنا حيال قارئ ناقد، متسائل وفاعل، قارئ يعي ما يقرأ ويسائله، وليس مجرّد قارئ مستسلم للنصّ.


فنون القراءة

ونسبة إلى مانغويل، فالقراءة "فنون"، حيث الإنسان قادر على قراءة كلّ ما حوله، وكلّ من حوله، على نحو ما. فنحن نقرأ "في المناظر الطبيعية، في السّماوات، في وجوه الآخرين، وبالطبع في الصّور والكلمات التي يخلقها جنسُنا. نحن نقرأ حياتَنا الخاصّة وحياةَ الآخرين، نقرأ المجتمعات التي نعيش فيها، وتلك الواقعة وراء الحدود، نقرأ الصّوَر والأبنية، نقرأ ما يكمن بين غلافَي كتاب... هذه الأخيرة هي بشكل خاصّ جوهرية".

وحين نتحدّث عن قارئ مبدع، فليس بالضرورة أن يكون ناقدًا أدبيًّا أو ثقافيًّا، بقدر ما نقصد إلى القارئ القادر على "توظيف" قراءاته، في مجالات شتّى، وليس في مجال اختصاصه وحسب، توظيفًا يجعل من هذه القراءة "إحياءً" للنصّ في جانب من جوانب الحياة والعمل والدراسة، فالقرّاء فئات وشرائح متعدّدة ومختلفة، من الطالب القارئ، حتّى العامل والتقنيّ ورجل الفضاء، وهكذا "فمن خلال ربط الكلمات بالتجارب، والتجارب بالكلمات، نتخيّر- كقرّاء- قصصًا تكون صدى لتجاربنا الخاصّة، أو تُهيّئنا لتجارب جديدة، أو تروي لنا عن تجارب لن نمرّ بها أبدًا... سوى على الورق"، لأن الكتاب، أيّ كتاب "يُعيد تشكيل نفسه في كلّ قراءة".

ولعلّ من بين إبداعات مانغويل في توصيف القراءة، تحويره مقولة هيراقليطس "ليس في إمكانك أن تسبح في الماء- أو النهر- نفسه مرّتين"، جاعلًا المقولة حول الكتاب لا الماء "لا يمكنك أن تغطس في الكتاب نفسه مرّتين". وذلك مفهوم في اتّجاهين؛ في اتّجاه القارئ الذي يتغيّر مع قراءة كلّ كتاب، وفي اتّجاه قراءة الكتاب نفسه الذي يتفتّح، في كلّ قراءة، عن معالم وملامح وعوالم جديدة لم تكن لتظهر أو تمنح نفسها في قراءة أولى، وحتّى "في كلّ مرّة نعيد فيها قراءة كتاب ما، يُمسي كتابًا آخر". أمّا عن فن القراءة وأخلاقيّاتها، فالمسؤولية هي في "كيف نقرأ؟"، لنكتشف معه أن القراءة هي "التزام سياسيّ وشخصيّ معًا في فعل تقليب الصفحات ومتابعة السطور"، و"يمكن لكتاب أن يجعلنا أفضل وأكثر حكمة".

أخطاء المترجِم والنّاشر

لي ملاحظة أخيرة، وضرورية؛ فإنّني وخلال قراءتي كتب مانغويل، ولأن هذه الكتب تدور في عالم القراءة والكتابة، لكنّها لم تحظَ من دار/ دور النشر التي أصدرتها، وهي متعدّدة، بالقدر المطلوب من العناية على صعيد التحرير والتدقيق اللغويّ، نحوًا وصرفًا وإملاء، فجاءت الكتب تعجّ بأخطاءَ فاحشة تسيء إلى الناشر! والأمر نفسه ربما ينطبق، من وجهة نظري، على عدد من الناشرين العرب الذين يعتمدون ما يقدمه المترجِم من دون أي رجوع إلى خدمات المحررين والمدقّقين.

تكرار كتابة "اسم" هكذا "إسم" أو هكذا "الإسم"، ومعلوم أن "اسم" لا تأخذ همزة، بينما نُفاجأ ونحن نقرأ "اسماء" بلا همزة، وحقها حضور الهمزة على الألف الأولى هكذا "أسماء"، وكذلك مفردات مثل "الاهتمام" و"الاجتماع" و"الاختراع" و"الالتماس" و"الاحترام"، وغيرها كثير، التي يجب أن تخلو من الهمزة، تجد الكاتب/ أو المترجم يرصّعها بهمزة باهرة وصاعقة. أو تجد الفعل "تكسي" بدلَ "تكسو"! أو رفع اسم إن في قوله "قائلة... أنّ هناك حارس يقظ لعدن"، والصحيح "أن هناك حارسًا يقظًا لعدن". أو قوله عن القراءة المنهجية إنها "يمكن أن يُسفر عنها، بالصدفة، اسمًا نافعًا" هكذا بكلّ بساطة!

إنه استهتار ينغّص قراءة أيّ قارئ، فكيف القارئ الذوّاقة صاحب المزاج في "قراءاته".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.