}

أسئلة صراع العلم والخرافة في قصص وروايات عربية

عمر شبانة عمر شبانة 26 أغسطس 2023
يستطيع المتابع الجادّ للظواهر والقضايا المختلفة التي يُعنى بها الأدب العربي، خلال القرن العشرين خصوصًا، أن يلمس الاهتمام البارز بظاهرة الخُرافة، المرتبطة بالدين من جهة، وبالموروث الشعبي من جهة ثانية، وغالبًا ما تحضر هذه الظاهرة عبر صراع حادّ بين الخرافة وبين العلم تحديدًا، أو بين الخرافة وكلّ وسائل التقدّم والحداثة والعصْرنة بصورة عامة. وهي ظاهرة تحضر، بأشدّ صوَر الحضور، في السّرد القصصيّ والروائيّ. ولعل من الغريب أن لا يلتفت الدّارسون في علم الاجتماع إلى هذه الظاهرة بالقدر الكافي، بينما هي من الظواهر الجديرة بالبحث والدراسة لمن يودّ معرفة واحد من معوّقات التقدّم في المجتمع العربي/ المجتمعات العربية، التي تعاني التخبّط في واقعٍ تسوده الأمّية والتفكير "السحريّ" الدينيّ.
وحينما كتبتُ، قبل عدة أسابيع، عن رواية الفلسطيني الشهيد غسّان كنفاني "الأعمى والأطرش" (1966)، لتناول ظاهرة الأولياء الصّالحين في المجتمع الفلسطينيّ، وهي ظاهرة تحتشد بالخرافة والسّحر، لم أكتب من موقع الناقد والباحث، بل من موقع المتذوّق والمتسائل أساسًا. ولم تكن تغيب عن البال قصّة الكاتب المصريّ يحيى حقّي الشّهيرة "قنديل أمّ هاشم"، التي كتبها بين عامَي 1939 و1940، ومضى ما يقارب ثلاثين عامًا على رحيل كاتبها، ولا قصة غالب هلسا "وديع والقدّيسة ميلادة وآخرون"،المتضمَّنة في مجموعته التي تحمل العنوان نفسه (1968)، أي قبل خمسة وخمسين عامًا، وتمرّ قريبًا الذكرى الرابعة والثلاثون لرحيل كاتبها.
والفارق بين النصوص الثلاثة هو أن حقّي تناول الظاهرة في المجتمع المصريّ "المسلم"، وهو مجتمع متديّن ذلك التديّن الشعبيّ، مجتمع له جذوره الضاربة في التاريخ والحضارة، ولكن في البؤس أيضًا. وقد كتب حقي ما كتب في وقت سابق على كلّ من كنفاني وهلسا، فيما تناولها كنفاني في المجتمع الفلسطينيّ المسلم، فضلًا عن كونه مجتمعًا يعيش أجواء ثورة على الاحتلال الصّهيوني في الستّينيات من القرن العشرين، في مجتمع بالكاد يمكن إطلاق صفة المجتمع عليه، فهو خاضع لاحتلال عمل على تفكيكه وشرذمته. أمّا هلسا، فيتناولها عبر الجانب المسيحيّ من البيئة الشعبية في المجتمع الأردني في الخمسينيات منه، لكنه نشرها متأخّرًا.
ولعلّ من المهمّ الإشارة إلى أن هلسا كتب عن المجتمع الأردني، في الوقت الذي كان فيه يعيش في القاهرة، ويكتب في أجوائها ومناخاتها الأدبية، ما يجعل من الممكن افتراض تأثره برواية يحيى حقي، خصوصًا أن المجموعة القصصية التي تحتوي قصة "وديع..."، تضمّ كثيرًا من القصص من داخل المجتمع المصري الذي يعيش فيه. كما أنه كتب عن جزء من المجتمع الأردني، حين كان هذا المجتمع في طور النشوء والتحوّل من مجتمع البداوة والفلّاحين والعبودية، إلى مجتمع أقرب إلى المعاصَرة وأدواتها وتقدمها... وكتب من وجهة نظر مغايرة تمامًا لرؤية حقي.
ما كان يعنيني في هذه الظاهرة عند كنفاني هو التفاته المبكر إليها، وربطه إياها بانطلاقة الثورة الفلسطينية (1965)، بينما هي لدى يحيى حقّي وغالب هلسا تعبير صافٍ عن تخلّف قاتل في المجتمع، وتتحدد طبيعة التعامل معها بمدى وعي هذا المجتمع، وهو ما يستوقف قارئ هذه القصص الثلاث، للوقوف على ملامح كلّ منها، ورصد الفرق بينها في المعالجة، على الصعيد الاجتماعي والإبداعي.
ولأنّ رواية كنفاني "الأعمى والأطرش" هي ـ كما نعلم ـ رواية غير مكتملة، ولأنّنا لا نستطيع الحكم على ما كان يمكن أن تؤول إليه المواجهة بين من يدافعون عن "الوليّ الصالح" الشيخ عبد العاطي، من جهة، وبين الثائر على مقامه، من جهة مقابلة، فسوف تكون هذه الوقفة أمام كلّ من الرواية القصيرة "قنديل أم هاشم" والقصة الطويلة "وديع والقدّيسة ميلادة" (يتحدّث عنها هلسا كرواية)، لنرى كيف تنتهي هذه المواجهة في كلّ من العملين، على اختلافهما من حيث الرؤية والتقنيات.

العلم والخرافة بين الصدام والمصالحة  
وإذا كان كنفاني، بحكم البيئة الثورية ـ الفدائيّة التي كتب فيها، قد تناول الثورة في مواجهة الخرافة، فإننا نجد يحيى حقي يتناول المواجهة من جهة العلاقة الصِّدامية بين العلم والخرافة، العلم متمثّلًا في شخصية إسماعيل الطبيب العائد من باريس، متخصّصًا في طبّ العيون، والخرافة ممثّلة في مقام السيّدة زينب، وزيت القنديل الذي يستخدمه البسطاء في معالجة عيون مرضاهم، في أي حال من أحوال مرضها. وتتصاعد المواجهة حدّ القيام بتحطيم القنديل، وردّة الفعل من قبل المؤمنين بهذا القنديل وزيته، الذين يتعرّضون له بالضرب؛ مواجهة تنتهي باستسلام الطبيب، ومحاولته الجمع بين علمه وبين الموروث الشعبيّ ـ الخرافيّ.
منذ بدايات قصة حقي هذه، وفيما هو يرسم البيئة الشّعبيّة التي تجري فيها، تظهر للقارئ الملامح الأولى لظاهرة "الخرافة" التي تعالجها القصة، وأوّلها امتداد ممارسة طقوس الولاء لمقام السيدة زينب عبر الأجيال، وهو ما نتعرف عليه منذ الجملة الأولى في القصة، على لسان الراوي: "كان جدّي الشيخ رجب عبد الله إذا قدِمَ القاهرة وهو صبيّ، مع رجال الأسرة ونسائها، للتبرّك بزيارة أهل البيت، دفعه أبوه إذا أشرفوا على مدخل مسجد السيّدة زينب... فيهوي معهم على عتبته الرّخاميّة يرشقها بقُبلاته، وأقدام الداخلين والخارجين تكاد تصدم رأسه".
أمّا الملمح الثاني البارز فهو في عبارة تأتي بعد هذه الجملة مباشرة، وتتمثّل في الفصل بين الطقوس الخرافية هذه وبين الدين، ربّما ليؤكد لنا الكاتب أنه يكتب في مواجهة الخرافة، وليس ليصطدم مع الدين، وذلك في قول الرّاوي "وإذا شاهد فعلتهم أحد رجال الدين المتعالِمين، أشاح بوجهه ناقمًا على الزمن، مستعيذًا بالله من البِدع والشّرك والجهالة". بينما نحن في الواقع، كما يقدّمه الكاتب، أمام شكل مكرّس من أشكال التديّن يقوم على تجسيد عمق ارتباط البسطاء برموز دينية معروفة، هي هنا آل البيت، ارتباط لا يزال قائمًا، ويبدو أن تعبيراته وممارساته ستظل قائمة في ظل الجهل والأمية التي تعيشها شعوبنا، وما دامت هذه الخرافات لا تجد من يتصدّى لها بحزم.






بينما يبرز الملمح الثالث متمثّلًا على لسان الراوي في إبراز الجذور "القرويّة" لهذه الممارسة وطقوسها، وكيفية استقبالها من قبل أهل المدينة، حيث تبرز السّخرية من سذاجة هؤلاء والتفهم لسلوكهم في آن، يقول الراوي "أمّا أغلبية الشعب فتبتسم لسذاجة هؤلاء القرويّين ورائحة اللبن والطين والحلبة تفوح من ثيابهم، وتفهّم ما في قلوبهم من حرارة الشوق والتبجيل، لا يجدون وسيلة للتعبير عن عواطفهم إلّا ما يفعلون: والأعمال بالنيّات".
ومنذ البداية، أيضًا، يبدو الإبهار والانبهار حيال "القنديل"، فهو يبدو للزائر من خلال النظر إلى القبة "لآلئ من نور يطوَّف بها، يضعف ويقوى كومضات مصباح يلاعبه الهواء. هيهات للجدران أن تحجب نوره. هذا هو قنديل أم هاشم"، ومن مواصفات هذا القنديل أنه تأتي إليه نسوة ورجال يسألون الشيخ درديري (خادم المقام) شيئًا من زيت قنديل أم هاشم لعلاج عيونهم، أو عيون أعزائهم. ولكن لا بدّ من منحه شيئًا من القداسة فهو "يشفي بالزيت من كانت بصيرته وضاءة بالإيمان، فلا بصر من دون البصيرة. ومن لم يشفَ، فليس لهَوان الزيت، بل لأن أم هاشم لم يسعها أن تشمله برضاها، لعلّه عقاب، ولعله لم يتطهّر بعد".
ورغم إجماع عدد من النقّاد على أهمية القصة، لجهة ربطها العلم بالموروث، إلّا أنّني ـ كقارئ ـ لا أفهم كيف يتنازل طبيب ويتراجع للتوفيق بين العلم والخرافة، كما حدث مع الدكتور إسماعيل (بطل الرواية)، الذي قام بتحطيم القنديل، ثم عاد ليستعمل أدويته (العلمية ـ الطبية) في زجاجات كتلك المستخدمة لتعبئة زيت ذلك القنديل؟ ولماذا "اضطر للإيحاء للمرضى بأنّه يعالجهم بزيت القنديل"؟ وهل هذا شكل من أشكال اللقاء بين "الأصالة" والمعاصرة كما يرى بعضهم؟ أو هو نتيجة "تكاملٍ وتلاقٍ بين علم الغرب وأدواته من جهة، وإيمان الشرق وموروثاته من جهة ثانية"، كما يرى آخرون؟ وهل يمكن اعتبار تراجعه هذا عائدًا إلى كونه نشأ وترعرع في تلك البيئة، قريبًا من مقام السيّدة؟ وكيف تجوز "المصالحة" بين العلم والخرافة؟
أسئلة تظلّ قائمة في انتظار دراسات أعمق لهذه الرواية/ القصة في هذا الإطار المعقّد!

المتاجرة ببركات مريم
لعلّ قصّتي هلسا وكنفاني أنضج "فكريًّا" من قصّة حقّي، فرغم عدم اكتمال قصة كنفاني "الأعمى والأطرش"، إلّا أنّ مسار حوادثها وحواراتها يشير إلى عدم إمكانية "المصالحة" بين الثورة والحرية والتقدّم وبين العقلية الخرافية. وكذلك فإن "وديع والقدّيسة ميلادة وآخرون" لغالب هلسا تؤكد على النتيجة نفسها، حين يكتشف أهل القرية الذاهبون للاستشفاء ببركات "القدّيسة ميلادة" أنها مجرد طفلة مسكينة يستغلّها والدها ليجني ثروة من "بركاتها" المزعومة، ومن خلال الادّعاء بتواصلها مع السيدة العذراء، وهي تخاطبها وتتلقّى توجيهاتها في شفاء الكسيح والأعمى، وغيرهم. يكتشفون ذلك في ردّات فعلها "البلهاء" كما تبدو في الوصف الساخر الذي يقدمه الكاتب. ويكتشفونه في أسعار الزيت "المقدّس" كما يزعم والد ميلادة. وفي المساومة التي تجري بين الوالد وبين واحد من أبناء القرية يسخر من القديسة ومن الزيت المقدّس، فيرشه الوالد بزجاجة زيت مجّانًا ليكفّ عن اعتراضه.
قصة غالب، كما قصة حقّي، تبدأ بتصوير البيئة القرويّة المحيطة ببطلها "وديع"، الفتى المتعلّم والطامح في مستقبل باهر، بيئة فقيرة يعمّها الجهل، ولا يخلو الناس فيها من الخُبث والدّهاء، يواجهون في طريقهم إلى "القدّيسة" مجموعة من الأطبّاء يتنافسون في تقديم عروضهم وأسعارهم، وحين يكتشف القرويّ خديعة والد القدّيسة وجشعه يقول إن أسعار الطبيب "أرحم"، في إشارة من الكاتب إلى عدم تفريق هذا القرويّ بين طبيب "العلم" وبين خرافة زيت القدّيسة. بل إنّ أحد القرويّين لا يتورّع عن سرقة زجاجة زيت، فيما لا يتورّع آخر عن التفكير بخلط الزيت "المقدّس" بالزّيت العاديّ، دلالة على نقص إيمانه بالخرافة. ويظل الطابع العامّ لقصّة هلسا هو السّخرية من هذا العالم كلّه، سخرية من جهل الفلّاحين، كما هي سخرية وإدانة لمن يستغلون الدين (المسيحيّ هنا) لجَني الثروات، ولاستغلال العلم/ الطبّ أيضًا، بينما الفتى الحالم "وديع" يظلّ وسط ذلك كلّه بـ"لا حول ولا قوّة"!

هي ـ إذًا ـ الأسئلة نفسها في النصوص الثلاثة، لكن الإجابات عليها مختلفة تمامًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.