}

عن الأبعاد الوجدانية للآلام الجسدية

مها عبد الله مها عبد الله 9 أغسطس 2023

 

هل يمكن للألم العضوي أن يُستثار فيتضاعف، أو يُهمل فيخبت؟ إن هذا التفاعل المتناقض ليس سوى انفعال وجداني مصدره (العقل) وحده، يصبّ في حقيقة (الألم) كمعنى، أو بالأحرى معنى خاص يتشكّل بصورة أو بأخرى لدى كل إنسان على حدة، بحسب الشخصية أو الموقف أو التوقيت أو الاستعداد...، وحسب عوامل أخرى في قائمة لا تنتهي! من خلال هذا المعنى، يعرض مؤلف كتاب "الألم النفسي والعضوي" (دار الصحوة للنشر والتوزيع، 2015) رأيه العلمي في لغة عذبة مستخدمًا أسلوب السهل الممتنع رغم مادة الكتاب العلمية، والتي تفرض على القارئ في نهاية المطاف قدرًا عاليًا من التصالح النفسي والسلام الداخلي. غير أن الكتاب لا يصلح للقارئ "الموسوس" الذي قد تلحق به علّة ما من حيث لا يحتسب، تعود لهواجسه وحسب، والتي من شأنها أن تحيل كل مرض عضوي لسبب نفسي، ظاهر أو خفي!.

مؤلف الكتاب هو د. عادل صادق (1943 - 2004)، تعلّم وتخرج في كلية الطب عام 1966 نزولًا عند رغبة والده، رغم ميله نحو الأدب والفن الموسيقى، ثم حصل على درجة الدكتوراة في الأمراض العصبية والنفسية عام 1973، وعمل أستاذًا للطب النفسي والأعصاب بكلية طب عين شمس. شغل مناصب أخرى منها رئيس تحرير مجلة الجديد في الطب النفسي، وأمين عام اتحاد الأطباء النفسيين العرب، وافتتح عام 2000 مستشفى يحمل اسمه لعلاج الإدمان والأمراض النفسية لا تزال تمتد شهرته على مستوى الشرق الأوسط. عُرف بالنبوغ منذ صغره وبدماثة الأخلاق وإخلاصه للعمل وسعيه الحثيث نحو رفع وعي المجتمع بالمرض النفسي وسبل علاجه، وذلك من خلال مؤلفاته وأبحاثه التي تجاوزت الثلاثين إصدارًا، والتي أهلّته عام 1990 للحصول على جائزة الدولة في تبسيط العلوم.

يعالج المؤلف من خلال كتابه القصير سبعة مواضيع رئيسية. فيبدأ في الفصل الأول - وبشيء من فلسفة- بالحديث إجمالًا عن الألم، كإحساس وكانفعال وكعقاب للذات وكوخز للضمير وكبديل للصراع وكتعبير عن العدوان وعن الحب أيضًا، لينتقل في الفصل الثاني للحديث تفصيلًا عن الأمراض النفسية وارتباطها بالألم، كالقلق والهستيريا والفصام والاكتئاب والتوهم المرضي، في حين يعرض في الفصل الثالث أنماط الشخصيات من منظور علاقتها بالألم، كالشخصية القهرية والشخصية الهستيرية والشخصية القلقة. أما الفصل الرابع فيوضح فيه المؤلف ماهية الأمراض النفس/جسمية متطرّقًا إلى الآلام المصاحبة لها، كالصداع والروماتيزم وآلام الوجه وآلام أسفل الظهر، بينما يخصّص الفصل الخامس للمرأة وللحديث عن آلامها كأنثى وكأم، وعن آلامها المرتبطة بطفلها تحديدًا وقد أسماها بـ (المحيّرة). وقبل الختام، يُفرد المؤلف الفصل السادس لطرق العلاج، ومن ثم يختم حديثه في الفصل السابع عن معنى الحياة، وكيف أن الحياة بلا ألم إنما هي حياة بلا معنى... أو بمفردة واحدة هي (الموت).

تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثانية للكتاب الصادرة عام 2015 عن دار الصحوة للنشر والتوزيع، وهي تستلهم من كنوز المؤلف المعرفية ما يبعث على الأمل، وتقتبس منها نزرًا يسيرًا بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر)، كما يلي:

المخ مركز الإحساس بالألم، وبدونه لا شعور بالألم... وكأنه سيد الأعضاء! على الرغم من أن المخ لو قُطع بسكين لما شعر الإنسان بشيء، "ومن العجيب أن نعرف بعد ذلك أن المخ هو الذي يدرك الألم الصادر عن أي مكان في الجسم". ومن العجيب كذلك أن يتم إدراك الألم في عضو ما دونما أي استثارة لنهاياته العصبية، فقد يسمع إنسان ما صوت جرس دون وجود جرس حقيقي، كما يستشعر مريض ما ألمًا في رجله رغم بترها. إذًا، إن للعقل دورًا حيويًا عندما يتدخل ليجعل من الألم (عملية وجدانية)... إما أن يستشعر الألم ويضخّمه، أو أن يستبدله بشيء من الرضى والمرح، وكل هذا يعتمد في الأساس على استعداد الإنسان وانفعالاته وتوقّعاته وتاريخه مع الألم. عليه، لا بد وأن يتعاطف الإنسان مع ألمه، فينحاز أو يميل، إذ أن حيادية المشاعر تعني التبلد... تعني الموت، ولا يصاب بهذه الحيادية إلا المريض العقلي.

يعرض مؤلف كتاب "الألم النفسي والعضوي" عادل صادق رأيه العلمي في لغة عذبة مستخدمًا أسلوب السهل الممتنع رغم مادة الكتاب العلمية


إن المسار الحقيقي للألم يبدأ من العقل وينتهي في الجسد... من الوجدان إلى العضو، إما حقيقة أو وهمًا... وقد تكثر الأوهام وقد يتمسك بها المريض طالما أنها تحقق له منفعة ما، وقد نكون فعلًا نحتاج لآلامنا! من هذه الحقيقة يرى المؤلف أن الألم يرتبط وبقوة بالحب، فقد يحتاج إنسان ما لحظة موته إلى الحب، فيبثّ عقله ألمًا إلى جسده فورًا، فينادي على من يحب ليحصل على آخر جرعة حب... الألم هو النداء، وهو استعادة لخبرة حب أو لحظة حب أو موقف حب... وقد يموت شريك عمره أو رفيقه العزيز، فتزوره آلام في نفس الأعضاء التي تألم منها شريكه، كنوع من التعبير عن الأسى! يستمر المؤلف وهو يكشف جانبًا من الإنسان يحرص على إخفائه، فقد يكبر أحدهم ويتعلم وينضج ويوصف بالمتزن والعاقل، غير أنه في لحظة ضعف إنساني واحدة كخوف أو وحدة أو تعب أو تهديد، يفزع الطفل في داخله فيصرخ مناديًا على من يحب: "كن بجانبي وابعث الدفء في وحدتي"... ألم داخلي يمتزج بألم خارجي! أيهما الأصل وأيهما الصورة يا ترى؟ لكنه يبدو من ناحية أخرى ألمًا ضروريًا، حيث يأتي الألم أحيانًا ليحمي الإنسان بشكل ما... إنه حقًا ضروري كالأكسجين! فعند موت إنسان عزيز لا بد وأن تكون معاناة الألم عند شريكه أقوى من معاناة الفقد، وإلا فقد عقله، فمن غير الأكسجين تموت خلاياه ومن غير الألم تموت نفسه. لكل منا عزيز يترقّى ارتباطه به ليصبح كرباط الجسد، ويصبح موته كفقد جزء من هذا الجسد. يقول د. صادق: "إنه شكل من أشكال التوحّد التي لا غنى للإنسان عنها في رحلة حياته... وإلا مات الإنسان".

يتوقع المؤلف أن حياة بعض المرضى ستضطرب لو أن عقارًا سحريًا شفاهم كلية من أمراضهم التي عانوا منها سنينًا طوالًا، حيث إن هذا الألم كان في حقيقة أمره (دعامة) وعامل استقرار لهم، فلما زال، زال الأمان، وأصاب حياتهم بالارتباك! يستطيع الجسد تحمّل آلام جمّة، لكن النفس لا تستطيع حمل صراعات الهزيمة والفشل والموت، فيأتي الجسد ليحيط بالنفس كالمظلة. يقول د. صادق: "الجسد مظلة تحيط بالنفس... مظلة تتلقى أشعة الشمس الحارقة فتكتوي بها وتمنعها عن النفس". وفي حديثه عن الاكتئاب، يعترف له أحد أساتذته بأن الاكتئاب يسبح في دمه، ويحيله نارًا يشعر بلسعها في جسده وفي ملابسه، تكاد أن تصيبه بالجنون. يقول د. صادق: "معظم الناس تنسى أنها ستموت"، ويستطرد ليقول: "المكتئبون يرحبون بالموت". لذا، عادة يشير المريض العضوي إلى ألمه، لكن لا يستطيع المريض النفسي فعل ذلك! إن مرضه أشد فتراه يشير إلى السماء.

يشرح المؤلف حالة أم لم تجد ابنتها في نهاية يوم دراسي وهي تنتظرها كعادتها عند بوابة المدرسة، فصعدت الدماء إلى رأسها عندما نهشتها أوهام مخيفة كاختطاف ابنتها أو قتلها، ما أصابها بالصداع المزمن من وقتها، على الرغم من أنها وجدت ابنتها أمامها في لحظة أوهامها تلك! لا تزال تلك الأم تعتقد أنها مصابة بورم في المخ بسبب هذا الصداع المزمن. وفي حالة أخرى يصف المؤلف صاحبها قائلًا: "ينفجر رأسه بالصداع أو يشتعل بطنه بالأوجاع"... إنه صاحب الشخصية القهرية، حيث أن القلق هو أهم حالة نفسية تصيب الإنسان بالصداع، وقد يتزامن القلق في حياة الإنسان، وفي أسوأ الحالات يصيب حياته بالشلل... فلا تفكير ولا تركيز ولا عمل. يقول د. صادق: "وفي حالة القلق المزمن يألف الإنسان الصداع بحكم العشرة وتمضي حياته والصداع في رأسه أو على رأسه". وعلى الرغم من أن أصحاب الشخصية القلقة ترعبهم فكرة الموت، إلا أنهم يعيشون زمنًا أطول من أصحاب الشخصيات الأخرى، وذلك حسب آخر (مفارقات) التقارير العلمية. ومن ناحية علمية كذلك، لم يُعرف حتى الآن سبب قاطع للصداع النصفي، ويُعتبر الأذكياء والطموحون والمثقفون أكثر عرضة للإصابة به، وعندما يصيب الصداع الرأس، تتأثر الأوعية الدموية والأغشية والعضلات ماعدا المخ! عجبًا له، فهو كالسيد، يصدر عنه الألم لكنه لا يشعر به. واستكمالًا لأنماط أخرى من الشخصيات، فإن الشخصية الهستيرية تقيم مجزرة ضد دبوس لا يرى بالعين المجردة قد اقترب منها عن غير قصد وأحدث جرحًا بريئًا، كما أن الويل والثبور قد يطول كل من حضر الحادثة الشنعاء ولم يبدِ تعاطفًا. تتأثر هذه الشخصية بالإيحاء، كما أن الافتقار إلى التحليل الموضوعي هو أحد سماتها، وهي شخصية تستمر بالصراخ حتى بعد انقضاء الألم. بعد كل هذا، يؤكد المؤلف أن عذاب الإنسان في حقيقته مركّب، فيبدأ بنقطة باهتة تنتهي إلى جبل شاهق، وهو يستمر يخلق لنفسه سلسلة من عذاب تلو عذاب يلفها بيديه حول عنقه، في حين يتصارع مع ذاته ومع رغباته التي قد تتعارض مع الدين والعرف، فتُكبت تلقائيًا في اللاشعور. أما عندما يرتبط الألم النفسي بألم المفاصل، فيتضاعف حتى يعوق الحركة الطبيعية ويعيق الحياة بأكملها، حيث يضيف الألم النفسي حملًا آخر على المفاصل، ويزيد من حدّة آلامها. قد ينجم مرض الروماتيزم عن فورة غضب أو فقد عزيز أو خسارة صديق، فيؤثر هذا الانفعال على جهاز المناعة والذي يؤثر بدوره على المفاصل. ويحدث أن "يتيبس" أحدهم في مشاعره كما "تيبست" مفاصله، إذ يصبح أكثر حدّة وأكثر بعدًا حتى عن المقربين منه.

وعن الأمراض النفس/جسمية، تشير التقارير إلى أن 50% من المرضى الذين يعانون من آلام في البطن والصدر لا يعانون فعليًا من أي مرض عضوي، فهي آلام تعود لأسباب نفسية. وتسجّل التقارير أيضا 40% من الحالات التي تضطرب فيها وظائف الجهاز الهضمي لأسباب نفسية، دون العثور على أي مرض عضوي مباشر. غير أن للنفس أفاعيل أخرى، حيث ترتسم "كلمة الحب" على وجه المحب تلقائيًا... إنها أعصاب الوجه الخاصة بالعاطفة والتي تتغذى بالإحساس والوجدان. يقول الحبيب عندما قرأ كلمة "أحبك" على وجه حبيبته قبل أن تنطقها: "وحين امتلأ وجدانك حبًا استرخت عضلات وجهك بالبهجة واتسعت عيناك بالسرور واجتمع الشوق مع الفرحة ليسيطرا على شفتيك فخرجت من بينهما الكلمات راقصة بفرح". ويعقّب د. صادق قائلًا: "وما زال العلم عاجزًا عن تفسير ذلك النور الذي يملأ الوجه حين يشعر الإنسان بالحب والسلام والطمأنينة".

يختم د. عادل صادق حديثه العذب عن الإنسان وهو يقطع طريقه بين الرجاء في الحياة وبين الموت المحتّم، فما الموت إلا (رحمة) في أحيان لا يُرتجى سواه، فيقول بيقين المؤمن: "وقد يجيء الموت في لحظة يتصاعد فيها الألم إلى أقصاه... وفي ذلك رحمة، لأنه مع هذا الألم الشديد تهون الحياة ولا يشعر بالأسف لمغادرتها فقد كانت كلها حتى لحظاتها الأخيرة معه مصدرًا لكل ألم". وما الألم سوى (نعمة) يُعطي الإنسان - بعد أن يبرأ منه- دفقة جديدة للحياة وبمفهوم آخر عنها، فهي تستحق العيش مهما كان... "إنه الرضى الذي يملأ النفس سرورًا فيجعل للألم مذاقًا مقبولًا".

إنه إذًا قول حكيم عن الألم... ألم وإن كان يُفسّر علميًا كإنذار لخلل بيولوجي أصاب أحد أنسجة الجسم، فإنه يعطي للحياة معنى... وأي معنى؟! 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.