}

في الفكر الحرّ وعورة الفكر الرجعي

مها عبد الله مها عبد الله 9 سبتمبر 2023

كتاب "النباهة والاستحمار" وجيز في طرحه، عميق في مضمونه، مثير للجدل عند مناقشته، وقاتل عند محاولة تطبيق ما جاء فيه! قد يكون مدعاة للعجب أن يسبق مؤلفه د. علي شريعتي (1933 ـ 1977) أوانه وزمانه، لا سيما في وقت طغت على الشرق الإسلامي ثقافة الجهل المقدس، أو كما وصمه هذا النابغة بـ (الاستحمار)، فكان كمن يسبح عكس التيار حينها... غير أنه ليس من دواعي العجب على الإطلاق أن يتم اغتياله غدرًا، وأن يتم تغليف الحادثة بموت مفاجئ ناجم عن أسباب صحية، فذلك من لوازم ثقافة (الاستحمار) السائدة آنذاك، والتي لا تزال حاضرة حتى اليوم في العديد من الأوجه!
فمع النهج المتفرد الذي سار عليه د. شريعتي في تجديد الخطاب الديني، وطرح قضايا الإسلام المعاصرة من منظور حداثي قائم على أسس علم الاجتماع الذي حمل إجازته من جامعة السوربون في فرنسا، فقد كان هذا مدعاة لالتفاف جمهرة الشباب حوله ممن وجدوا فيه ضالتهم، وقد كانوا معاصرين لزمن تخبّطوا فيه بين ثقافتي الشرق والغرب، وبين أبعاد الفلسفة وجمود الدين. غير أن هذا النهج التوعوي الذي أشعل ثورة فكرية عارمة في النصف الثاني من القرن المنصرم ضمن ما أثاره من قضايا، قد أثار بدوره غضب أصحاب السلطة الديكتاتورية، فكان ما كان من مؤامرة تصفية المفكر وفكره. وفي شهادة للمفكر العراقي عبد الرزاق الجبران، فإن الإصلاح الذي نادى به د. شريعتي ارتكز على بناء الذات الإنسانية من منظور إسلامي ـ سياسي ـ اجتماعي، يتحصّل من خلال استعراض التاريخ الإنساني. وعن (جدلية الصراع) القائمة، فقد استحدث فلسفة يتواجه فيها طرفان (هابيل ـ قابيل)، ففي حين مثّل هابيل (الناس)، مثّل قابيل (السلطة)، وقد ارتكز هذا الطرف على ثالوث (فرعون ـ قارون ـ بلعم بن باعوراء) في رمز للسلطة السياسية والاقتصادية والدينية على التوالي. ومن شرارة تحالف هذا الثالوث، اندلع الاستعباد باستراتيجية القوة الناعمة، أو ما أسماه المفكر بـ (الاستحمار) على مرّ التاريخ الإنساني.
تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الثانية للكتاب الصادرة عام 2007 من (دار الأمير للثقافة والعلوم)، عن ترجمة مباشرة إلى اللغة العربية من أصلها الفارسي (خود آكاهي استحمار). وعلى ما يبدو، تشترك الثقافتان في استخدام البهيم المشار إليه كمضرب مثل في الغباء، غير أن ترجمته إلى اللغة الإنكليزية استخدمت كلمة (الجهل) كمرادف ألطف للمعنى، بـ (Intelligence and Ignorance). وقبل البدء، يحرص د. شريعتي على توضيح دور الفيلسوف، إذ يعتقد بأن الفكر الإسلامي قد حمل في بعض مراحله مفهومًا فلسفيًا مغلوطًا تمركز حول الذات الإلهية والغيبيات حصرًا، وأهمل الإنسان ومبحث الوجود، فلا يُفهم الإسلام إلا فهمًا صوفيًا بعيدًا عن مقاصده في خلق الإنسان، فكأنما خُلق الإنسان للدين وما خُلق الدين للإنسان، مما أردى الإسلام في جمود فكري وانتكاس حضاري على مدى قرون.




من قلب هذا الصراع، عمد د. شريعتي إلى خلق مسؤولية الفيلسوف كصاحب للنظرية الاجتماعية التي تستشف سنن التاريخ وتقف على فلسفة وجود الإنسان، وتسقطها على السياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب. لذا، "كان الأنبياء أعظم الفلاسفة" كما ارتأى. ومن الكتاب الذي عكس رؤية فكرية فطنة ضمنّها الفيلسوف في شرح موضوعي مستفيض، أسرد مقتطفات في ما يلي وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
في استهلاله عن مفهوم (النباهة والاستحمار)، يقسّم د. شريعتي (النباهة) إلى قسمين: (فردية) و(اجتماعية)، تصبّان في انتماء الفرد لمجتمعه وشعوره بالمسؤولية وارتباطه به في مصيره التاريخي، أي كما أطلق عليه بـ "الوعي الوجودي"، ليأتي (الاستحمار) بكل ما من شأنه سلب هذا الوعي وتضليل مسار "النباهة الإنسانية". ثم يستطرد ليقسّم من جديد اتجاهين رئيسيين لتحقيقه هما: (التجهيل) و(الإلهاء)، فبينما يعمد الأول إلى تجهيل العقول وصرفها عن قضايا المجتمع المصيرية، يلهي الثاني الفرد بحقوقه الشخصية عن حقوق المجتمع الكبرى. ثم يبدأ د. شريعتي حديثه عن موضوع (الأنا والمصير) على الرغم من قناعته بأنه موضوع يُختم به النقاش لا يُبدأ به! إذ يرى أن أساسه وزبدة حديثه فكري أكثر مما هو علمي، فالأفكار من طبيعتها التغير وهي تخضع للوعي والنقاش، بعكس العلوم المعيارية الخاضعة للتفسير العلمي الصرف. وفي هذا الصدد يشير إلى النتيجة العكسية التي قد ترتد مع تضخم الأنا لدى طبقة المثقفين المصاحبة لشعور الاكتفاء العلمي، حيث يبقى العالم منهم جاهلًا ما لم يصاحبه وعي فكري وحس عالٍ بالمسؤولية تجاه مجتمعه وتحدياته التاريخية المستمرة. وعلى الرغم من قناعته كذلك بأن: "الدين الذي هو فوق العلم يعتبر الإنسان ذاتًا أرقى وأشرف من جميع المظاهر الطبيعية"، فإنه يستطرد ليؤكد أن ما عناه بالدين ليست السنن الموروثة والعادات المتحجرة التي تم تناقلها عبر السلف في إطار شرعي تقليدي مشكوك في أصالته وفي قدسيته، والتي باتت لا عقلانية عند أبناء الجيل الجديد المستنير، بل ما عناه هو "دين المعرفة والتنبه". يدعوه هذا الرأي من ناحية أخرى للخوض في أصل الإنسان كصانع للحياة، ففي حين يشير إلى الفلسفة الوجودية التي لا تقرّ بوجود إله، يرى أنها تشترك والفكر الإسلامي في "أصالة الإنسان"، إذ كان جان بول سارتر يعتقد أن الإنسان هو رب نفسه وصانع مصيره وبيده مقاليد الطبيعة يسخرها في خدمته، وقد جاء الإسلام من ذي قبل ليعلّي شأن الإنسان، حيث اصطفاه الله وكرّمه وأسجد له ملائكته واستخلفه في الأرض وسخّر له قوى الكون. فلا أكرم من إسباغ روحه جلّ وعلا في ذاته ليغدو عاقلًا وخالقًا ومختارًا ذا إرادة حرة، ومغيّرًا لذاته ولمصيره.
رغم ما سبق، يثير هذا الإنسان المختال فخرًا - والذي يكاد أن يخرق برأسه عنان السماء ليصل إلى الله- عجب د. شريعتي، حين تحوطه المغريات والملذات والتحديات فيتردى إلى مستوى أحطّ فيه من قدر الكلب - حسب وصفه- يشبع فيه نفسه اللاهثة على حساب القيم الإنسانية. فيقول نصًا: "وهكذا نجد الإنسان في حياته اليومية متجهًا إلى خارجه دائمًا، ومقبلًا على ما يوفر له لذائذه مائلًا نحو شهواته. ونجد (أنا) تلك (الأنا) التي هي من الله تهبط من العرش إلى حضيض الأرض، فتنغمس كالدودة في الماء المتعفن بالقذارات وتهش للجيفة". لا يقف الحد عند هذا المقام، إذ قد يثير د. شريعتي الجدل في رأيه عن التمرد كما جاء تحت عنوان (هزة) في كتابه، حيث يرى أن قيمة الإنسان تبدأ مع قدرته على الرفض، كما فعل من قبل أبو البشر آدم، فلولا "لا" لكان مجرد ملاك "لا ميزة له" سجد لبشر آخر اصطفاه الله بدلًا عنه! مع هذا التمرد، حظي بشيء من صفات الألوهية حيث أصبح خليفة الأرض، غير أنه قد يخسر تلك الصفات من أجل إشباع لذة دنيوية. على هذا، يستنتج د. شريعتي أنه من الصعب التخلي عن لذائذ التمرد وقد أسفرت عن نباهة وأخلاقيات، إلا أن درجة اللانباهة والغفلة والتسويف التي قد ينغمس فيها الإنسان لاحقًا، لا يوقظها سوى العقاب.

عمد د. شريعتي إلى خلق مسؤولية الفيلسوف كصاحب للنظرية الاجتماعية التي تستشف سُنن التاريخ


وفي هذا المفهوم، وفي لفتة قيّمة من التاريخ، يستنبط د. شريعتي مدى الوعي والجسارة والجرأة التي تحلّى بها الرعيل الأول في صدر الإسلام لا سيما عصر الخلفاء الراشدين، حيث كانوا يهرعون إلى الصلاة وإلى محاسبة أنفسهم بعد إقامتها. وتبلغ درجة الوعي الاجتماعي أوجها حين تصدى أحد المسلمين للخليفة عمر ـ فاتح الأمصار وقاهر الأباطرة ـ وهو فوق المنبر، ليحاجّه على قطعة قماش اشتبه أنها زائدة في سهمه عن أسهم باقي المسلمين، وذلك حينما وُزعت عليهم الكسوة بالتساوي كما كان مفترضًا. برر عمر تلك الزيادة بطول قامته، حيث تبرع ابنه بسهمه له، والذي أتى شاهدًا على رأس القوم في ذلك الموقف العصيب.




يستعين د. شريعتي بالتاريخ مرة أخرى، ولكن على النقيض، ليشير إلى الليالي الملاح التي كتب لها القدر أن تتواصل لبني العباس في مناسبة زواج البرمكي بالعباسة، وقد تراكم بعدها أكوام فضل الطعام في المدينة لتجتمع عليها السائبة من الحيوانات والطيور، وتشكل خطرًا بيئيًا وقتها، الخطر الذي استدعى استئجار عمّال لرميها خارجًا. وعلى الرغم من أن مدينة بغداد كانت مركز الإشعاع الحضاري الإسلامي آنذاك، إلا أن شيوخها وعلماءها ومفكريها لم يعيبوا هذا الترف والسرف، بل قد تراهم اجتمعوا في زاوية أحد الدواوين يناقشون قاعدة نحوية جديدة، أو كتاب في الطب يسعون إلى ترجمته. لقد طغت الحركة العلمية على الوعي الاجتماعي إلى الحد الذي مهّد للتتار دخول المدينة، فخضع الجميع واستكان حين فقدوا وعيهم الجمعي، ولم ينفعهم علم ولا أدب ولا حضارة. بعد ذلك، يبدع د. شريعتي أيما ابداع عندما يتجرأ ليفضح ما أسماه بـ "الدين الاستحماري". فمع مضي زمن الأنبياء العظيم، ابتليت الأمم بأدعياء من شيوخ وقساوسة ورهبان ومتصوفة اتخذوا من الأديان مطية لاستحمار أتباعها. بيد أن هؤلاء الأشقياء نالوا من الحصانة والمزايا الشيء الكثير تحت سلطة الثالوث (فرعون ـ قارون ـ بلعام) في تنفيذ أجنداتهم التي تصب في صالح تلك السلطة، فتأتي مواعظهم الحانوتية لتزّهد الناس في دنيا فانية، وتمنّيهم بأخرى باقية، فيستغنوا بما في أيديهم للثالوث. يضرب هذا الدين المستحمر أتباعه بحجرين، فيضمن الحجر الأول استكانة الفرد منهم أمام سطوة الظلم والقهر والفقر، مستلهمًا الصبر في التضرع، واستدعاء روح العباس والأولياء الصالحين، بينما يضمن الحجر الثاني التمكين للظالم في التكفير عن ظلمه، ليس برد الحقوق إلى أصحابها، بل بكلمات يتمتمها سبع مرات نحو القبلة، فيحظى بالمغفرة والرحمة والشفاعة، ولو بلغت ذنوبه عنان السماء وتساوت بعدد قطر الأمطار ومياه البحار... هكذا في لمح البصر. ثم يضرب مثلًا حيًا من مجتمعه بما أسماه (الإيهام)... إنها السياسة القديمة ـ الحديثة! فمن أجل صرف أذهان الشعب الإيراني عن قضية شركة النفط المحلية في فترة ما من القرن الماضي، تم افتعال عشرين معركة أهلية، كما شهدت من قبل حركة الاستعمار الغربي في القرن السادس عشر الميلادي ظهور سبعة عشر نبيًا في الشرق، لشغل المسلمين في صد ادعاءاتهم! حقًا، تعددت الغايات والاستحمار واحد.
ختامًا، لا بد لهذه الرؤية الفذّة أن تواجه من حسد ذوي النقص على ما هم عليه من جهالة متأصلة تغذيها الأعراف الاجتماعية والمواريث الدينية، وهي مواجهة تؤكد بدورها أنها نباهة حقيقية لا زيف فيها، أو كما آمن د. شريعتي ودعا بقدرة الوعي على تغيير واقع الإنسان إن شاء، حين قال: "... فالإنسان الواعي يمكن أن يكون قويًا إلى حد يسيطر على مصيره. من هو ذاك الإنسان؟ إنه ليس نابليون القوي الذي يعبر عن نفسه وسجنه في جزيرة سانت هيلينا: كأني خشبة صغيرة ضعيفة تلعب بها الأمواج كيفما شاءت... (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ). نعم، إذا غير الإنسان ذاته وطبيعته فإنه قادر على تغيير مصيره ومصير تاريخه، ولا يرتبط هذا بالجسم والمال والمقام، والذي يبقى للفرد إنسانيته فقط".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.