تناقلت وسائل إعلام إيطالية ودولية، مؤخرًا، قصّة يمكن أن تصبح أسطورة باعتماد لوحة جديدة للرسّام الإسباني بيكاسو. والحديث يدور ليس عن لوحةٍ من لوحات الفنان المتأخرة التي يتكرر ظهورها في سوق الأعمال الفنية، بل عن لوحة "دورا مار/ Dora Maar" التي تعود إلى أواخر ثلاثينيات القرن العشرين، وتمثّل صورة امرأةٍ اسمها الحقيقي هنريتا ماركوفيتش.
واليوم، وحتى في غياب تقارير خبراء نهائية موثوقة، تكتسب اللوحة أهمية متزايدة، حيث وصلت قيمتها إلى 6 ملايين دولار أميركي.
في عام 1962، كان العجوز لودجي، الذي يعيش في مدينة بومبي الإيطالية يرتب قبوًا متهالكًا يتبع فيللا في كابري، فعثر بين أشياء القبو البالية على لفافة من قماشٍ عليها صورة امرأةٍ "قبيحة" متمنطقة بزنارٍ. ومع أنّ اللوحة كانت تحمل توقيعًا واضحًا تمامًا، باسم بيكاسو، فإن السنيور لودجي لو بوكو لم يكن قد سمع من قبل باسم بيكاسو. بالإضافة إلى ذلك، ومع أنّ الرجل لم يكن يفقه شيئًا في أمور الفنّ عمومًا، وفي الرسم بشكلٍ خاصّ، إلا أنّه أخذ الرقعة معه إلى المنزل وعلّقها في غرفة الضيوف بغرض الزينة. وهكذا، قام بوضع اللوحة في إطارٍ رخيصٍ، ووضعها في زاوية الغرفة، الأمر الذي أثار حنق ربّة البيت بسبب قبح اللوحة. ولكن، وبما أنّ اقتناء لوحةٍ فنيّةٍ ما يعد شيئًا مميزًا، كما جرت العادة حينئذٍ في البيوت المحترمة، فقد سارت الأمور مع لودجي على ما يرام، وبقيت اللوحة في مكانها.
كان لدى الزوجين ابنٌ يدعى أندريه، فضوليّ وعنيد للغاية في الوقت نفسه. أخذ الشابّ من بيت خالته موسوعةً مشهورة عن تاريخ الفنّ، وراح يبحث فيها بدافع الفضول، ليجد فيها شخصًا ما اسمه بيكاسو. بالإضافة إلى ذلك، وبالتدقيق المتأنّي وجد الشابّ التوقيع على اللوحة متطابقًا تمامًا مع توقيع الرسّام المدعو بيكاسو على لوحاتٍ أُخرى موجودة في الموسوعة. أجرى الشابّ العنيد مزيدًا من الأبحاث، فوجد لوحةً أٌخرى مشابهةً لتلك اللوحة المعلقة في غرفة المنزل في بومبي، وكانت هذه المرّة صورة لتمثالٍ نصفي لامرأة تدعى أيضًا دورا مار، وتعود إلى عام 1938. رغم كلّ ذلك، لم يعر الأب أدنى اهتمامٍ لجهود الابن، ولم يهتم البتة بتخيلاته. أمّا السنيورة لو بوكو الأمّ فقد حاولت مرات عدة التخلص من اللوحة وبيعها، ولكنها لم توفق، لحسن الحظّ، بالحصول على صفقةٍ مقبولة.
توفي العجوز عام 2021. واليوم، يبلغ ابنه أندريه لو بوكو الستين من العمر، ولا يزال يولي اللوحة اهتمامه بكلّ جديّة. عرض أندريه اللوحة على عدد من الخبراء، الذين رفضوا اعتبارها لوحة أصلية، ولكنّهم أعربوا في الوقت نفسه عن استعدادهم لشرائها في أيّ وقت. وجد الرجل في ذلك دليلًا غير مباشر على أنّه محقٌّ بشأن اللوحة. لم يستسلم الرجل، فقام مراتٍ عدة بمراجعة مؤسسة بيكاسو في مدينة ملقة الإسبانية، وهي المركز الرئيس الذي يتولى عمليات التحقق من أصالة اللوحات التي يتمّ إيجادها، والتي يُدّعى أنّها من أعمال بيكاسو الأصلية. في مركز ملقة، لم تلق مساعي الرجل أيّ اهتمام، ولكن ذلك كان موقتًا. لم يتوقف الإيطالي العنيد، فقام بتسجيل اللوحة في الفرع الإيطالي لحفظ التراث الثقافي (Carabinieri TPC)، حيث راجع أولًا أحد أهمّ "مفتشي الفنون"، وهو ماوريسيو سيراتشيني، الذي كان، وعلى الرغم من تخصصه في الفنّ الإيطالي، مؤسس شركة Diagnostic Center for Cultural Heritage، التي تقوم بتحليلٍ الأعمال الفنية تحليلًا تكنولوجيًا باستخدام وسائل متطورة. أضيفت إلى هذه الأبحاث والدراسات خلاصةٌ قدّمها الدكتور تشينسي التيري، البروفيسور الخبير بالمخطوطات، وحامل عدد من الألقاب والشهادات العلمية من مؤسسة أكاديميا الإيطالية، التي أكّدت أصالة توقيع بيكاسو على اللوحة التي في حوزة لو بوكو.
كلّ هذه الخطوات التي قام بها لو بوكو الابن رفعت قيمة اللوحة افتراضيًا إلى 6 ملايين دولار أميركي. والآن، إذا أمكن الحصول على خلاصةٍ إيجابية من مؤسسة بيكاسو في ملقة الإسبانية، فإنّ السعر سيحلّق بأكثر من الضعف. تتأتى هذه التوقعات من تاريخ خط مسار سعر لوحةٍ مشابهة من حيث النوع، ومتقاربة من حيث تاريخ إبداعها، وتحمل عنوان "صورة دورا مار" (عام 1938)، والتي بيعت عام 1980 في نيويورك للشيخ السعودي عبد المحسن عبد المالك الشيخ، ثم سرقت في ما بعد عام 1999 من يخته "كورال آيلاند" عند شواطئ جزر الأزور، واستعيدت عام 2019 بمساعدة مفتش الفنون الشهير أرتور براند. عند البيع، قدّرت اللوحة بـ 4 ملايين دولار أميركي، ولكنّ قيمتها التأمينية اليوم تبلغ 25 مليون دولار.
بالطبع، يمكن أن تنتهي مسيرة اللوحة الحالية إلى قصّةٍ من قصص التزوير والتقليد. لكن، ولحسن الحظ، وعلى مدار تسع سنواتٍ، أراد بيكاسو تخليد تلك العلاقة الرومانسية، التي نشأت بينه وبين الفنانة والمصورة دورا مار، فقام برسم عدد من الصور الشخصية لحبيبته، التي أصبحت غالبيتها مشهورة للغاية. تاريخ لوحة عائلة لو بوكو هو تاريخ جميل فريد في حدّ ذاته، خاصّةً براءة أصحابها الذين حصلوا عليها عن طريق الصدفة البحتة، والذين عاشوا طيلة 60 عامًا مع تحفةٍ فنيّة (محتملة) في غرفة المعيشة، من دون أن يشعروا نحوها بأية مشاعر، اللهم سوى شعور السيدة لو بوكو بالانزعاج المستمر من "قبح" الصورة التي أحضرها زوجها.