}

الشعر الفلسطيني والمجازر: في كل زاوية دم

سمر شمة 29 أكتوبر 2024
استعادات الشعر الفلسطيني والمجازر: في كل زاوية دم
"نشيد إلى الأخضر" لمنى السعودي


بين 1948 و2024 أكثر من خمس وسبعين سنة مرت حافلة بشلالات الدم والقتل والتدمير والإبادة الجماعية بحق فلسطين وشعبها. واليوم وبعد أن تجاوز العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عامه الأول تتواصل الوحشية الإسرائيلية والمجازر الدامية بحق الأبرياء هناك. ففي غزة ومنذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي تحولت المنازل إلى قبور لساكنيها وأصحابها الحقيقيين، والشوارع والمشافي والمدارس وحدائق الأطفال إلى ساحات للإعدامات الميدانية العاجلة، وإلى مقابر جماعية تضمّ فلسطينيين وفلسطينيات مكبّلي الأيدي ومعصوبي الأعين وعلى أجسادهم آثار التعذيب وهمجية فاعليه. ارتفع عدد الشهداء إلى أكثر من 42000 شهيد وأكثر من 100000 جريح غالبيتهم من الأطفال والنساء وكبار السن وحديثي الولادة، إضافة إلى استشهاد أعداد كبيرة من الكوادر الطبية والتعليمية والإعلامية والحقوقية والإنسانية، وتدمير عشرات المدارس والجامعات ودور العبادة والبنية التحتية برمّتها في مدن القطاع وقراه.

ومنذ النكبة حتى الآن كانت قضية فلسطين بتفاصيلها كافة عنوانًا رئيسيًا للشعر الفلسطيني ومحورًا لقصائده التي تحكي وجع الوطن وأهله وأحلامهم وبطولاتهم وحنينهم إلى الحرية والعودة، وتوثّق المعاناة والتشرّد والتهجير والخذلان والمجازر التي ارتُكبت بحق الفلسطينيين منذ عقود، والتي بدأت كما تشير المصادر التاريخية مع الاستعداد للهجرة اليهودية الاستيطانية الأولى نهايات القرن التاسع عشر لاحتلال فلسطين وتهجير وطرد أهلها بالقوة.

منذ بدء العدوان على غزة ارتكب العدو الإسرائيلي مجازر لا يمكن حصرها وذلك ابتداء من مجازر بيت لاهيا في التاسع عشر من هذا الشهر والتي راح ضحيّتها أكثر من سبعين شهيدًا وعشرات الجرحى، إلى مجازر مدرستي الفاخورة وتل الزعتر بمخيم جباليا، ومجزرة مشفى المعمداني التي لجأ إليها الهاربون من القصف والدمار فأصبحت أجسادهم أشلاء متناثرة على أسطح مباني المشفى، ومجزرة جباليا التي وقعت في مربع سكني بمحاذاة المشفى الإندونيسي في المخيم وأدّت لاستشهاد وإصابة مئات الفلسطينيين الذين نُسفت منازلهم بأسلحة محرمة دوليًا عدة مرات، إضافة إلى المجزرة التي أدمت قلوب العالم الصامت بمشفى دار الشفاء والتي أُعدم خلالها أكثر من ثلاثمائة فلسطيني من الأطباء والمسعفين والموظفين والمرضى وهم في أسرّتهم بعد الدخول إليها واستباحة كل ركن من أركانها. ومجازر النصيرات وهي من أكبر المذابح التي تعرض لها القطاع في العام الأول من العدوان. والمواصي ومدرسة التابعين، ومجزرة الطحين المرّوعة بدوار النابلسي شمال القطاع والتي سقط فيها أكثر من 120 شهيدًا فلسطينيًا ومئات الجرحى وهم ينتظرون توزيع الطحين والمساعدات الغذائية عليهم حيث أطلق الجيش النار من مسافة قريبة وقصف بالدبابات والقناصة كل الموجودين بحثًا عن قوت عيالهم، في إحدى أبشع المجازر هولًا، وكأن الطحين أصبح أداة قتل متكررة منذ زمن بعيد كما رأى الشاعر محمود درويش ذات جريمة:

فاذهب بعيدًا في دمي
واذهب بعيدًا في الطحين
لنصاب بالوطن البسيط
وباحتمال الياسمين.

أما مجزرة مخيّم جنين فقد تمت بمشاركة أكثر من ألف من جنود العدو ومئات الآليات العسكرية، وحدثت في شمال الضفة الغربية باعتداءات برية وبحرية وجوية على المدنيين والصحفيين والمسعفين في حزيران/ يونيو 2023، وكانت إسرائيل قد توغلت عام 2002 في هذه المنطقة وارتكبت أعمال قتل عشوائية واعتقالات تعسفية ضمن عملية اجتياح شاملة للضفة الغربية.

يقول الشاعر الفلسطيني عبد الوهاب زاهدة: "أنا من جنين/ اسمي أمين/ في البارحة عبرت وجوه كالحة/ ذات الشمال مع اليمين/ قتلت أبي/ سحقت زهور الياسمين/ في كل زاوية دم/ حتى الأنين له أنين/ هي مجزرة/ هي مجزرة".

وكتب الشاعر جواد يونس عن جنين مفتخرًا ببطولاتها وصمودها يقول: "جنين يا منبع الأمجاد في وطني/ وموئل الصيد من فاس إلى عدن/ جنين يا سيف حق مشهرًا أبدًا/ في أوجه السفلة الغازين والخون".

وكان الشاعر محمود درويش قد تنبأ بمآلات القطاع وهو ليس شاعرًا فحسب بل مؤرخًا للانكسارات والبطولات والأوجاع والمجازر: "خاصرتها بالألغام تنفجر/ لا هو موت ولا هو انتحار/ إنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة/ منذ أربع سنوات ولحم غزة يتطاير شظايا قذائف".

وكما هو معروف فإن تاريخ إسرائيل حافل بالانتهاكات الجسيمة الدموية والإبادة والمجازر، وقد كانت مذبحة دير ياسين 1948 فاتحة للمجازر وللنكبة الفلسطينية، حيث حاصر الاحتلال القرية وقتل أهلها بالسلاح الأبيض وهم نيام، وكانت هذه المذبحة بداية للتطهير العرقي في فلسطين، وعملية إبادة وطرد جماعي نفذتها مجموعتا الإرغون وشتيرن الصهيونيتان في القرية غربي القدس وكان معظم ضحاياها من المدنيين الأطفال والنساء والعجزة وتقدر أعدادهم بالمئات.

وقد كتب الشاعر عبد الرزاق البرغوثي عنها يقول: "قلبي تفطّر والتاريخ يسرد لي/ عن قرية أقفرت من أهلها العرب/ فيها اليهود أقاموا شر مذبحة/ للطفل والشيخ والعذراء/ وا عجبي".

أما الشاعر ذياب ربيع فقد نظم قصيدة بعنوان دير ياسين قال فيها: "نامت على صدر الجبل تشكو إليه المحتمل/ أن ينثني الأعداء قصفًا بالقنابل فافتعل/ يا دير ياسين التي ضربوكِ بالغدر المثل/ ما زلتِ فينا لذة الأحقاد ثأرًا تشتعل/ ودماكِ يا أخت العلى قدسية لا تغتسل".

بعد شهرين من هذه المذبحة ارتكبت قوات الاحتلال مجزرة أخرى في بلدة الطنطورة الواقعة جنوب حيفا استكمالًا للتطهير العرقي بقوة السلاح والترهيب وقد نفذتها عصابات الهاغاناه لتهجير الأهالي، وتم فيها قصف البلدة من البحر قبل مداهمتها وقتل النساء والأطفال والرجال فيها ودفنهم في مقابر جماعية واعتقالات واسعة.

سقط مخيم تل الزعتر على أيدٍ وأسلحة عربية وإسرائيلية، ولكنه سيبقى جرحًا مفتوحًا يلاحق المجرمين في كل مكان (تل الزعتر، 13/8/1976، Getty) 


وتتالت المذابح فيما بعد من مذبحة قبية حيث قام الجنود الصهاينة بقيادة أرييل شارون باستباحة القرية بالضفة الغربية وقتلوا من فيها وهدموا المنازل والمدارس والمساجد. إلى مذبحة كفر قاسم 1956 والتي اكتسبت بُعدًا خاصًا لتزامنها مع العدوان الثلاثي على مصر، ونفّذها حرس الحدود الإسرائيلي ضد مواطنين فلسطينيين عزّل في هذه القرية وراح ضحيّتها أكثر من خمسين مدنيًا عربيًا، منهم 23 طفلًا دون سن الثامنة عشرة وقد حاولت حكومة إسرائيل بقيادة بن غوريون التستّر على هذه المجزرة وعدم نشرها.

وقد كانت هذه المذبحة إحدى المواضيع الهامة التي تناولها شعراء فلسطين بهدف توثيقها وفضح سياسات الاحتلال وإجرامه وإصراره على القتل والتهجير، فكتب الشاعر توفيق زيّاد يقول: "إن في الأفق صوتًا يمور/ هتاف الضحايا يشق القبور/ هتافٌ يهزّ الفضاء الكبير/ هو الشعب يذبحه المجرمون".

وصور بعض الشعراء المأساة حيث الأشلاء والدماء في كل مكان وكأن البشر أصبحوا طيورًا ذبيحة، يقول الشاعر حنّا أبو حنّا وهو من الجيل الأول لشعراء المقاومة: "ما زال يرتعد المساء لهول تلك المجزرة/ صور المآسي بالرصاص بمقلتيّ مصوّرة/ كتل من الأشلاء فاغرة الدماء معفرّة".

وكتب الشاعر سالم جبران: "الدم لم يجف والصرخة لا تزال/ تمزق الضمير/ والقبور مفتوحة/ في فمها أكثر من سؤال/ ولم يزل مدخل كفر قاسم مروعًا/ من هول تلك الليلة السوداء".

أما الشاعر سميح القاسم فقد كتب قبل أن يُقام النصب التذكاري مكان الجريمة يقول: " لا نُصب/ لا زهرة/ لا تذكار/ لا بيت شعر يؤنس القتلى ولا أشعار/ لا شيء/ يا للعار ".

وعبّر محمود درويش عن موقفه من هذه المجزرة في قصيدته "أزهار الدم" مؤكدًا على ضرورة مقاومة العدو وعدم الاستسلام والرضوخ للجلادين: "دمك المهدور ما زال وما زلنا نقاوم/ علمتني ضربة الجلاد أن أمشي على جرحي/ وأمشي/ ثم أمشي/ وأقاوم".

بعد ذلك وفي السبعينيات تواصلت المجازر بحق الفلسطينيين أثناء الحرب الأهلية في لبنان حيث وقعت مجزرة عين الرمانة في نيسان/ أبريل 1975 وسقط فيها شهداء أثناء مرور حافلة تنقلهم إلى مخيم تل الزعتر الذي تعرض أهله وساكنوه لمجازر كبرى ولأبشع عمليات القتل والتصفية لمدة 52 يومًا بعد محاصرة المخيم عام 1976 الذي استشهد  فيه أكثر من 4000 شهيد إضافة إلى آلاف الجرحى والمفقودين، وكتب عن هذه المجزرة المروعة شعراء فلسطينيون وعرب منهم الشاعر محمود درويش في قصيدته "أحمد الزعتر": "راح أحمد يلتقي بضلوعه ويديه/ كان الخطوة النجمة/ كان المخيم جسم أحمد/ صار الحصار هجوم أحمد/ والبحر طلقته الأخيرة".

وكتبت الشاعرة رحاب كنعان "خنساء فلسطين" والتي عاشت في المخيّم وفقدت في المجزرة أكثر من خمسين شخصًا من عائلتها تقول: "ضاع وجه أبي/ وتاهت صرخة أمي/ وتناثرت ضفائر أختي/ وبقايا أنامل أخوتي/ نامت الابتسامة/ وناحت عليها اليمامة/ وبقيت وحدي".

سقط مخيّم تل الزعتر على أيدٍ وأسلحة عربية وإسرائيلية، ولكنه سيبقى جرحًا مفتوحًا يلاحق المجرمين في كل مكان كما قال الشاعر معين بسيسو: "صار جدارك للشعراء جريدة/ يا جرحًا يتسع ويصبح هذا الوطن الأكبر/ والآن وذراعك ماسورة مدفع/ الآن بكل حمامة/ طارت من صدرك يا تل الزعتر/ أنا أقطع كفي/ أرسلها لك يا تل الزعتر برقية".

أما المجزرة المروعة الكبرى فكانت في مخيّمي صبرا وشاتيلا بلبنان في أيلول/ سبتمبر 1982 بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، حيث شهد المخيمان أعمال قتل جماعية وانتهاكات يندى لها الجبين استمرت لثلاثة أيام وراح ضحيتها مئات القتلى والجرحى والمفقودين وشكلت صدمة جماعية بعد أن قامت قوى وميليشيا لبنانية بالتعاون مع العدو بتطويق المخيمين وارتكاب الجرائم البشعة التي تركت كغيرها آثارًا نفسية واجتماعية وأخلاقية وسياسية ووطنية وأدبية كبيرة. يقول درويش في ملحمته الشعرية "مديح الظل العالي": "صبرا بقايا الكف في جسد القتيل/ ودعت فرسانها وزمانها واستسلمت للنوم من تعب/ ومن عرب رموها خلفهم/ صبرا تغني نصفها المفقود/ بين البحر والحرب الأخيرة".

وكتب الشاعر عدوان علي الصالح عنها يقول: "امنحيني الصبر يا صبرا امنحيني/ واجعلي الشمس تضيء/ في شكل حزين/ واعلنيها للورى أنه مهما فعلوا/ لن تخضعي/ لا لن تليني/ واكتبي أسماء من قد قتلوهم فيكِ يا صبرا/ على كل جبين".

إنها واحدة من أكبر جرائم العصر حيث استفاق فلسطينيو المخيمين واللبنانيون عليها، وقاوموا أبواب جهنم المفتوحة برًا وبحرًا وجوًا، عشرات الجثث تناثرت، صور وأشلاء لرجال ونساء وأطفال ممزوجة بالطين والدم، ودمار هائل وحصار مطبق على مدى ثمانية وثمانين يومًا في ذلك الخريف المرّ.

يقول الشاعر الشعبي الفلسطيني شاعر المخيمات "أبو عرب" عنها: "قومي يختي/ شوفي الجثث المبعثرة/ شوفي الجثث الموزعة في الطريق/ شوفي الأطفال مسبحين بدمهم/ عم يرضعوا من صدر جثة أمهم".

إنها حقائق لا يمكن دحضها رغم قساوتها ودمويتها، جرائم مروّعة ضد الإنسانية وكل القوانين والشرائع والأخلاق، وهذا ما دفع الشاعر اللبناني خليل حاوي آنذاك لحرق أشعاره، معلنًا نهاية دور الشعر ونهاية الإنسانية ونهاية حياته منتحرًا بعد أن قال: "إن ما يمكن أن نقدمه لفلسطين وأهلها هو الشهادة فقط".

هناك مجازر حدثت بسنوات مختلفة في خان يونس 1956 وما زالت مستمرة حتى الآن، وفي المسجد الأقصى 1990 عندما قتل الاحتلال المصلين داخل المسجد وهم يؤدون الصلاة، وفي المسجد الإبراهيمي 1994، إضافة إلى مجازر تعرض لها الفلسطينيون أثناء الانتداب البريطاني: في حيفا 1937 و1938 والقدس 1937 و1938 وفي العباسية 1947 ويافا 1948 وقلقيلية 1956 وجنين 2000، ومجازر أخرى أثناء الاشتباكات بين إسرائيل وغزة عام 2000 وذهب ضحيتها أعداد كبيرة من الشهداء والمصابين والمفقودين وأدت لنزوح وتهجير أعداد كبيرة من الفلسطينيين من منازلهم وقراهم وبلداتهم وأراضيهم التي يدافعون عنها برموش العين.

تتواصل المجازر وتستمر بأسلحة أكثر تطورًا وفتكًا وبإجرام لا حدود له ولا قوانين اشتباك، بينما يبقى المجرم حرًا طليقًا رغم كل القوانين الدولية واجتماعات مجلس الأمن والأمم المتحدة والجامعة العربية وقلق أميركا المترافق دائمًا بمد إسرائيل بأعتى الأسلحة وأكثرها حداثة وقتلًا وتدميرًا، وعجز الأهل والأشقاء والغرباء وتخاذلهم.

أما غزة وفلسطين وشعبها الصابر فما زالوا يعلمون العالم "بعض ما عندهم غير مبالين بالإذاعات العربية والأجنبية" حازمين أمرهم يخوضون حروبهم بعد أن ولى عصر العقل السياسي، فغزة: "تحرر نفسها من صفاتنا ولغتنا/ وحين نلتقي بها ذات حلم لن تعرفنا/ لأنها من مواليد النار/ ونحن من مواليد الانتظار/ والبكاء على الديار".

                                                                      [وللوجع بقية]

مراجع:

- الموسوعة الفلسطينية.
- المذابح الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني.
- ديوان الشهيد.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.