}

بغداد في ذاكرة عاشق مغترب

مها عبد الله مها عبد الله 10 فبراير 2024
استعادات بغداد في ذاكرة عاشق مغترب
يستقر الكاتب جمال حيدر في لندن حاليًا
كتاب "بغداد: ملامح مدينة في ذاكرة الستينات" يعبق بذكريات وأطياف ومشاعر دافئة، بثّها الكاتب جمال حيدر وهو يسترجع من ذاكرته ملامح مدينة بغداد في ستينيات القرن الماضي، حينما كان يومها طفلًا يلهو بين طرقاتها، ويستشعر بساطة الحي وألفة الجيران ودفء البيوت ولفح الأجواء وعراقة التاريخ، وهو يتطرّق إلى تفاصيل الحياة في المدينة العتيقة التي كانت آسرة بالمباني والعمارات والأنصبة التي صممها مهندسون أجانب إلى جانب مهندسين عراقيين آنذاك... وهي المدينة التي جمعت التناقض على الناصيتين! فبينما تمسّكت هنا بالقيم المحافظة وفضائل الأخلاق، وحافظت على تأدية طقوس العبادات وإقامة شعائر الدين في المساجد والحسينيات، لاحت من هناك مباني السينما ودور الكتب والمقاهي الشعبية التي كانت تحتفي بحوارات المثقفين في ما بينهم، وترصد كذلك تسكّع من لا عمل لهم، في الوقت الذي اصطفت فيه على الناحية الأخرى بارات الخمور، ومراقص السهرات، وبيوت الدعارة، لا سيما في الطرق الجانبية، أو الخلفية، للمدينة. لا يغفل الكاتب عن عرض جانب من الصراع الذي شهدته المدينة في تحولّها من الماضي إلى الحاضر والذي حمل بطبيعة الحال قيمًا مستجّدة تختلف عن تلك التي شكّلت نموذجًا حرًا عُرفت به المدينة، والتي ما لبثت أن استسلمت لجديد الحاضر وانزوى عنها ما قد مضى من عراقة!
إن من يؤرخ لهذا التراث العريق هو الأديب والمترجم العراقي جمال حيدر، والذي تنقل عنه شبكة المعلومات مولده في مدينة بغداد، وقد غادرها في سبعينيات القرن الماضي إثر ما تعرض له حزب اليسار الشيوعي في العراق من صراعات سياسية آنذاك. ويستقر حاليًا في مدينة لندن بعد تنقّله في مدن عدة، وهو حاصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية، ويتوزع إنتاجه بين النقد، وأدب الرواية، وأدب الرحلة، بالإضافة إلى أعماله الأخرى في الترجمة. أما غلاف الكتاب، فقد ازدان بصورة تعبيرية للفنان التشكيلي العراقي د. خالد القصاب، والذي هو ـ للمفارقة ـ طبيب حاصل على زمالة الجراحة من أحد معاهد نيويورك، وعلى درجة الأستاذية في كلية الطب بجامعة بغداد، بالإضافة إلى عضويته كمؤسس لجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين.
يرسم الكاتب ملامح مدينته العريقة في ستة فصول تنتهي بمعرض للصور. وهذه المراجعة تعتمد على طبعة الكتاب الأولى الصادرة عام 2002 عن المركز الثقافي العربي، وهي تحتوي على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
إثر الاحتلال البريطاني الذي جاء ذكره في الفصل الأول (أحياء)، تتقسّم مدينة بغداد إلى ما يقرب المئة محلّة، وقد كانت مقسّمة من ذي قبل إلى ألف مما كان يعرف بـ (العكد)، حيث تنوعت أسماؤها بأسماء الشخصيات البارزة فيها آنذاك، أو العوائل الأولى التي استوطنتها، أو أضرحة الأولياء ومراقدهم. فمن الأحياء التي انحصرت في جانب الرصافة، بين الأعظمية والكرادة: (باب الآغا، الحيدرخانة، صبابيغ الآل، الصابونجية، سوق حنون، فضوة عرب، أبو سيفين، خان لاوند). وبعد الحديث عن (الحيدرخانة)، وجامعه الذي كان يمثّل برلمانًا شعبيًا، و(كنيسة اللاتين) التي يكسوها إجلال وهي في جانب الرصافة، و(الصرافية) المرتبط في الذاكرة بالجسر الحديدي، و(باب الشيخ) الذي يستيقظ على نداءات الباعة وصخب السوق، و(مرقد الشيخ عبدالقادر الكيلاني) ومزارات السياح إليه وتطفّل الباعة عليهم، و(سوق الشواكة) ولسع روائح التوابل المختلطة بالريحان، و(خان السمك) المحاصر بأعين الأسماك البرّاقة، و(خان اللحم) المقدّرة لحومه ماليًا بما تملكه النساء في محافظهن الجلدية الصغيرة، يقول الكاتب في نبرة أسى: "ومنذ منتصف الستينات وقبله بقليل، امتد العمران الحديث ليقضم أطراف المدينة وبساتينها. طاول التشويه ذاكرة الأحياء البغدادية وتقاليدها، وانتشرت ظاهرة تشييد العمارات والشقق السكنية، فانبعثت أحياء جديدة انتفت فيها ملامح الحياة البغدادية، إذ أن ثمة اكتساحًا ديمغرافيًا بلا هوية ساهم في خروج المدينة عن ذاتها، فولدت المدينة الحديثة، بيت إثر بيت، وشارع إثر شارع، حتى قامت مدينة مغايرة على تخوم المدينة القديمة وماضيها".
في الفصل الثاني (أسواق)، يؤكد أن تاريخ مدينة بغداد هو في الأصل تاريخ أسواقها، حيث كانت موقعًا لأسواق تقام شهريًا قبل أن يخطط لبنائها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور.




ولكل تجارة فيها سوق متكاملة، فهناك سوق للفاكهة وسوق للأقمشة وسوق للقطن وسوق للأغنام وسوق للعطارة وسوق للصيارفة، و"على امتداد سوق البزازين تتكرر نسخة سوق شارع النهر، ولكن بصورة أقل بهرجة. إنها سوق الأحذية المجاورة للمدرسة المستنصرية... أحذية نسائية بكعوب عالية معلقة في واجهات زجاجية بدائية. ألوان تجذب الانتباه وأسعار مناسبة لا تقسو على جيوب ذوي الدخل المحدود، الخاوية أساسًا". غير أن الحقيقة الماثلة تشهد على أنه ما من "حي في بغداد من دون سوق طويلة تصل بين أطراف الأزقة"، بل إن أسواق بغداد نفسها "شبيهة بالمتاهة، تبدأ مع كل نهاية، وتمتد لتحول أحياء بأكملها إلى أسواق، تتفرع منها الدروب والحارات". ففي كل صباح، تتوافد عربات الخضار والفاكهة بينما يستريح الشيوخ على البسط الملونة والمفروشة فوق (دكّات) المحال المتراصة "وسط تجاذب الكائنات الغارقة في ضجيج المكان بحثًا عن البضاعة الطازجة والأقل ثمنًا، مستدعية طقوس المساومة المألوفة التي اعتادتها السوق".
ومع الحديث عن شوارع بغداد في الفصل الثالث (شوارع وميادين)، لا بد وأن يحتل الصدارة شارع الرشيد: "الرشيد... شارع ملتو ذو أسماء متعددة، أول من يغفو بأنينه المكتوم على وسادة المساء، وأول من ينفض عنه بقايا النوم كل صباح. ومع انبلاج وهجه، خطف شارع الرشيد الأضواء عن أحياء بغداد القديمة، ليغدو مركز المدينة الحديث بمتاجره ومقاهيه باعتباره مسرحًا متحركًا لأحداث عدة". فينقل الكاتب عن الرحالة أمين الريحاني وصفه للشارع أثناء العقد الثالث من القرن الماضي، بقوله: "إنه لشبيه بشارع في قرية أوروبية، والبلدة والمحلات الواقعة شرقًا منه، وإن كانت لا تتجاوز بمجملها المئة سنة، إلا أنها جد قديمة بما في ظاهرها، ولا يخلو بعض داخلها من ضيق الجادات واعوجاجها والتهدم فيها".
أما الفصل الرابع (المقاهي)، فيسكب حديثًا ذا نكهة مختلفة. فكما تعكس المقاهي عادة جانبًا مهمًا في ثقافة أي بلد، فقد "تركت مقاهي بغداد بصماتها الماثلة على الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية وتطوراتها، بعدما غدت ملتقى الأدباء والمفكرين والسياسيين، واحتلت كل منها مجالًا خاصًا بها". لم يقتصر الأمر على البعد الحضاري، بل كانت المقاهي في حد ذاتها تُضفي من جمال التصميم ما يبرز الهوية ويستقطب العامة، إذ أن "مقاهي بغداد عادة ما تشعرك بالانتماء الى العامة: سجادات مزركشة وغلايات مطلية بلون الذهب، مرايا ضخمة، مراوح سقفية تدور بتواصل، ولوحات قديمة تكاد تخرج من إطارها، في حين تزدان واجهة بعض المقاهي الشعبية بالآلات الموسيقية النحاسية التي تومض في عيون المارة وهي في انتظار المناسبة الخاصة بها". وكما تنوعت أسواق بغداد، تنوعت المقاهي باختلاف الأذواق والأمزجة والاهتمامات، فـ(مقهى أم كلثوم) كان يستقطب بمدخله الضيق عشاق كوكب الشرق، وهي تصدح بأغاني تهتز لها الرؤوس طربًا، بين كسير حب فاشل، وحالم في حب جديد، ومتطفلين بينهما. أما (مقهى الشابندر) والذي يُنسب إلى أسرة الشابندر، فقد كان ملتقى مرموقًا للشخصيات البارزة من السياسيين والمثقفين، والذي شهد تأسيس أول اتحاد للأدباء العراقيين، غير أن (مقهى البلابل) الواقع في محلة البارودية كان عذبًا بما يكفي وهو يستقطب روّاده من هواة الطيور، ويحتوي حديثهم حول أصنافها وأقفاصها وطرق صناعتها، والذي استمر في خدمته حتى مطلع الخمسينيات من القرن الماضي.
ثم ينساب الحديث أكثر عذوبة في الفصل الخامس (دجلة). إن الماء صانع الأحلام والمدن العظيمة، وهو مكمن الأسرار وراوي حكايات من عاش بقربه... لذا، تجود قريحة الكاتب وهو يحدّث في سحر النهر، قائلًا: "ليس من أحلام من دون ماء، وليس من مدن عظيمة من دون أنهار تسري في جوف تاريخها. وبغداد مدينة تغفو على جريان دجلة الوئيد، وتحيا مواسمها مع دورانه حولها. يجري النهر منذ عهود طويلة نحو نهايته الأزلية بهدوء ساهمًا يحدق في الأشياء المتناثرة حول شواطئه، مكتشفًا مكامنها السرية وحاملًا حكاياتها، ويتغلغل ببراءة في علاقات ناسها". إن هذا النهر يثير دهشة الطفل المترقّب وسط حياة متقلّبة، في وسطه الذي يحتضن القوارب الصغيرة، وفي موجه الذي يُطفئ ما أشعله الهدير بين ضفتيه... إنه هكذا "يدهش هدوء النهر وجريانه الانسيابي ذلك الطفل المحاصر بالتبدلات والتقلبات والوعود. تتهادى القوارب الصغيرة الملونة والمتجولة بين ضفتي دجلة بروح تائهة، وتنفذ إلى روحه... توقد شموع الخضر ثانية في عينيه بعد أن تطفئها الموجات الصغيرة العابثة". وليس النهر في مكنون سره وسحره وحده، بل هناك على ضفتيه تحتفي الحياة بعمارة وحضارة ومدنية، حيث "تطل على ضفتي النهر بيوت تختفي خلف شرفات خرافية! أفاريز وأعمدة ونقوش تصنع تلك الشناشيل المطلة على واجهة النهر. والشناشيل مفردة فارسية تعني المقصورة، كون الشناشيل في بنائها الأساسي تمثلت بمقصورات، ثم حورت إلى شرفة بمنزل، مطلة تسافر بالعين خارج حدود المنزل". ولأهمية النهر بُعد يرتبط وجدانيًا في علاقته بالمدينة وساكنيها، فقد "كانت لعمارة النهر والأبنية المقامة على ضفاف دجلة أهمية خاصة تبرز من خلال اهتمام المعماري بانفتاح المبنى على جبهة النهر أولًا، وانفتاح المدينة ذاتها على النهر، لما يوفره هذا الانفتاح من عوامل اجتماعية ومناخية ترتبط بعلاقة المدينة والناس بالنهر".
ويختم الفصل السادس (طقوس) حديث الكاتب الساهر. ففي نهار (رمضان) يموج الشارع بحركة الذاهبين والآيبين نحو إقامة الصلوات في الجوامع، حتى إذا ما اقترب موعد الإفطار قام البيت على قدم وساق في تجهيز المائدة بالأطباق الشعبية من "الحساء والتمر والفجل والشربت والزلابية والبقلاوة والمحلبي"، بينما يتجمّع الرجال بعد الإفطار، إما في الجوامع، أو التكايا، أو المقاهي، حتى يحين الليل، وهو يردد صدى إيقاع الطبّال في الأزقة لإيقاظ النائمين والاستعداد ليوم رمضاني جديد. وبعد أهزوجة الأطفال (المحية) في الأزقة وهم يطرقون الأبواب وينشدون "ماجينة يا ماجينة" طلبًا لحفنة حلويات يخبئونها في أكياسهم المصنوعة من القماش، يهلّ (العيد)، حيث "يبدأ فجر العيد بالتكبير الصادح من المساجد القريبة: الله أكبر الله أكبر ولله الحمد. حشد من الأصوات تهلل وراء المايكرفون، نغمات احتفالية تأتي بعد آذان الفجر، جلبة خفيفة للمصلين وهم في طريقهم إلى المساجد للصلاة". وفي (عاشوراء) تنصب مجالس العزاء وتُتلى ترانيم الحزن، وهو "حافل بكل تفاصيل الفاجعة التي ألمت بالحسين وصحبه في واقعة الطف". وفي (مدارس) بغداد العتيقة، تتبعثر الذكرى بين الطبشور الأبيض وبائعي الشطائر عند بوابة المدرسة وإرهاق اليوم الدراسي الأول، و"أساتذة قساة بوقار مصطنع ترافقهم عصيهم الخاصة، وآخرون أقل رهبة". وفي (دورة السنة) تُحمل صينية الشموع للاحتفال بعيد نوروز مطلع العام الجديد حسب التقويم الفارسي، أو كطقس موروث عن العباسيين، أو كما "يقرنه البعض باحتفالات البابليين بقدوم الربيع في مطلع الثلث الثاني من آذار".
ختامًا، ولأن الكاتب تجول في ذاكرة مدينته الساحرة بشوق، قد يجد القارئ روحه وكأنها تلبّست شكل المدينة وهو يحاول بدوره فك طلاسم ما قد يأسره من سحرها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.