التقمص هو مصطلح يعني لغويًا (ارتداء القميص)، وفلسفيًا يعني (تناسخ الأرواح)، وعقائديًا يعني (خلود الروح بعد فناء الجسد)، أما علميًا فقد عنى مؤلف كتاب "التقمص: أحاديث مع متقمصين- تجارب عمليّة"، د. تورفالد دتلفزن، بما أوتي من علم وخبرة وتجربة، إثبات يقينه الراسخ بفكرة الحياة بعد الموت. لذا، يأتي كتابه هذا فريدًا من نوعه، وهو يتناول بإسهاب حقيقة انتقال الروح من جسد إلى آخر في تعاقب مستمر ومن خلال حيوات متتالية، وهو موضوع أزلي قد شغل فكر الفلاسفة وعلماء النفس ورجال الدين منذ القدم، ابتداءً من حكماء اليونان في فترة ما قبل الميلاد، وحتى الأديان الشرقية كالبوذية والهندوسية والطاوية. يذكر المؤلف أن الفيلسوف وعالم الرياضيات فيثاغورس قد ادّعى لنفسه ثلاث حيوات عاشها سابقًا، منها حياته خلال حرب طروادة، وكذلك القيصر جوليان الذي ادّعى أنه عاصر السيد المسيح، وغيرهما أمثال أفلاطون وغوته وشوبنهاور وفيكتور هوغو ممن اعتقدوا بفكرة تناسخ الأرواح، وقد نُسب لهوراز، الشاعر الإغريقي الذي عاش في روما قبل الميلاد، قوله: "سوف لن أموت كليًا، فجزء جوهري من ذاتي يتملّص من القبر". ولما لفكرة تناسخ الأرواح من جدلية لا سيما عقائديًا، ينفي الناشر ابتداءً شبهة سعي الكتاب نحو نشر عقيدة جديدة، إنما يسعى لطرح نمط مغاير للتفكير عن نظم التفكير الطبيعي، والذي يتوجّب على كل فرد - في رأيه- أن يعتمده من أجل خوض حياة ليس للاعتزال فيها سبيل، وكما يؤكد "أما غاية هذا الطريق فهي الإنسان الكامل الحكيم".
ينقسم الكتاب إلى أربعة أجزاء رئيسية تتفرع عنها عدّة مواضيع، يخوض فيها المؤلف الألماني د. تورفالد دتلفزن من وجهة نظره كطبيب نفسي مختص في التنويم المغناطيسي. فيستعرض في الجزء الأول عددًا من الحالات العملية المتمثلة في الجلسات التحضيرية للأرواح، بينما يتطرق في الجزء الثاني إلى مفهوم الكارما وفن الموت والحياة بعده، في حين يعرض في الجزء الثالث الرأي العلمي الذي يتبناه الطب وعلم النفس وما وراء علم النفس من علوم الخوارق، حتى ينتهي في الجزء الرابع بالحديث عن الدين والطريق في الحياة.
وعن استعادة الكتاب، فتعتمد على الطبعة الأولى الصادرة عام 2002 عن دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، والذي عني بترجمته من لغته الأصلية الطبيب والمترجم والباحث السوري د. إلياس حاجوج، وهي مراجعة تشتمل على بعض الاقتباسات بما يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر):
يعبّر د. دتلفزن في مقدمة كتابه عن ذهوله، لا بل عن صدمته، فيما آلت إليه جلسة الترفيه المسائية التي قضاها مع أحد أصحابه في صيف ميونيخ 1968، عندما أجرى تجربة (النكوص في العمر) عن طريق تقنية التنويم المغناطيسي على عدد من المتطوعين، وما أسفرت عنه هذه التجربة من خبايا ونتائج تكشف يقينًا رحلة الروح في حياة تعقب حياة، ومعايشة الولادة المتكررة على كوكب الأرض. وفي إحداها، كم كان عجيبًا أن يتغاير خط يد (الوسيط) وهو تحت تأثير التنويم المغناطيسي في كتابة اسمه خلال مراحل عمره المختلفة، من الطفولة حتى الشباب، وقد وثّق د. دتلفزن هذه النتيجة بصور فوتوغرافية عزّز بها كتابه. وكم كان أعجب ذلك الحوار الذي دار بين المنوّم والوسيط عن تفاصيل حياته اليومية خلال مرحلة ما من عمره، والتي انتكص فيها الوسيط من خلال منوّمه، إلى المرحلة التي كان فيها جنينًا، والظلام المحيط به في تلك اللحظة، وحالتي (الضيق) و(الامتصاص) اللتين شعر بهما، فيما يشبه مرحلة المخاض على حد تعبيره، ومن ثم الخروج إلى النور والانتقال بعد ذلك إلى حياة جديدة، في شخصية مختلفة وظروف حياتية أخرى. رغم ذلك، يثير د. دتلفزن عددًا من الشكوك المحاطة بعملية النكوص العمري، كتعمّد الوسيط تمثيل دور المتقمص، أو إملاء المنوّم قوله للوسيط من خلال قوة الطاقة ومهارة التخاطر.
يأسف د. دتلفزن على اضطراره قطع علاقته - طوعًا أو كرهًا- مع عدد ممن خضعوا لتجربة التنويم المغناطيسي تحت إشرافه، إذ بدى الأمر محرجًا لهم بعد إسهابهم في الحديث وهم على مستوى اللاوعي، لا سيما أن عددًا منهم قد بدّل رأيه، وكذلك بعضًا من أصدقائه، بعد تلك التجربة! لذا، يستمر د. دتلفزن ليتحدث عن إشكالية التنويم المغناطيسي فيما يكتنفه من غموض وشبهات حول أمور السحر والشعوذة، الأمر الذي أدى إلى اقصائه طبيًا من الحقل العلاجي رغم منافعه العظيمة كما أثبتت التجارب العلمية.
وفي هذا يتطرق د. دتلفزن إلى مكتشف فن التنويم، الدكتور النمساوي (ميسمر)، عندما قام باستخدام بعض المغانط وضعها على جسد إحدى المريضات، وما أسفرت عنها التجربة من نجاح وشفاء قام بتجربتها فيما بعد على عدد كبير من مرضاه، الأمر الذي حفّزه على السفر إلى باريس في رحلة علمية بغية عرض اكتشافه -الذي عدّه باهرًا- على المختصين، إلا أنه وُصم بالدجل والنصب بعد أن أخفقت أكاديمية باريس في البرهنة على اكتشافه علميًا. يقود هذا الموقف الداحض لفكرة التنويم المغناطيسي د. دتلفزن، للدفاع عن علم التنجيم ككل ورفض وصمه بالدجل والشعوذة، وقد علم بأن الكثير من خصوم هذا العلم قد خاضوا فيه بغية محاربته وقد انتهى بهم المطاف إلى اعتناقه، فهو علم قائم على حسابات فلكية ثابتة ورسوم بيانية للسماء، تختلف الآراء حولها فقط فيما يتعلق بسلوك الأشخاص وأطباعهم وحاضرهم ومستقبلهم. وهنا يحدد د. دتلفزن ركائز ثلاث يقوم عليه أي علاج مرجّح في عصرنا الحاضر، وهي: طب بشري، تحليل نفسي، تشخيص تنجيمي. وعلى الرغم من قناعته بكفاءة علم التنجيم إلا أنه لم يقدّم الخدمة المطلوبة حتى الآن كما اعتقد، ذلك أن المنجمين تنقصهم المعرفة الطبية من جانب، والأطباء تنقصهم المعرفة التنجيمية من جانب آخر.
يبدي د. دتلفزن استنكاره من تسميتين بارزتين في مجال علم النفس العريض، إذ أن مضمونهما يخالف تسميتهما! فالسيكولوجيا لا تعدو أن تحوم في بحثها حول النفس، في حين أن الباراسيكولوجيا هي من تعنى بحقيقة النفس. وقد أدت النظرة الدونية للباراسيكولوجيين إلى بذلهم الكثير من المحاولات للبرهنة على الطاقات الروحانية والغيبية (كالتخاطر والاستبصار)، من خلال اخضاعها لطرق البحث العلمي واستخدام أدوات القياس المادية كالإحصاء، وهي الجهود التي اعتبرها د. دتلفزن بمثابة (الخسارة)، إذ كان ينبغي الوصول إلى درجة من الفهم أعمق، بدلًا من بحثها وظيفيًا وحسب! ثم يشرع في عرض عدد من الحالات التي عاشت هنا وهناك، مثل حالة (بريدي مورفي) ابنة المزارع الأيرلندي في القرن الماضي وربة المنزل الأميركية حاليًا. وكذلك، حالة (شانتي ديفي) الطفلة الهندية ذات التسعة أعوام المولودة في عام 1926، والقابعة الآن في منزل والديها في مدينة دلهي، والتي كانت زوجة سابقة لتاجر أقمشة في مدينة موترا وأم لطفل يُدعى (لوغدي)، وقد توفيت متأثرة بأعراض ما بعد الولادة، عام 1925. وحالة (عماد الأعور) الذي عاش حياتين في لبنان، الأولى في منطقة خربة والثانية في منطقة قرنايل. وفي حديثه عن الكارما، يرى د. دتلفزن أن المرء لا يُعفى مما لم يتم تسويته في حياته بعد مماته، إذ يصطحب معه مشاكله التي لم تُحل إلى حياته التالية، فما زرعه هنا يحصد ثماره هناك، وما لم يُستوفَ هنا حتمًا سيُستوفى هناك. وعن هذا يقول عالم الطبيعة والشاعر غوته: "لحظة الموت هي تلك اللحظة التي لا تغادر فيها الروح القوة المركزية الحاكمة إلا لتدخل ثانية في علاقات جديدة، لأنها خالدة بطبيعتها". وفي حين يشكّل الموت للبشرية الحدث الأسوأ، إلا أنه يُعتبر مكوّنًا جوهريًا للحياة ذاتها، فحتى يولد الإنسان من جديد هناك، عليه أن يتقبّل موته هنا. ويرى د. دتلفزن أن صراع الموت هو بمثابة كرامة للميت، وما يراه وقت احتضاره من تخيّلات إنما هي حديث عن انطباعات روحانية جديدة، لا يعكّرها سوى محاولات ذلك المتّشح بالرداء الأبيض وطاقم الإسعاف في إنعاشه... إنه "حوار أخير كبير بين الحياة والموت" وأن الصراع من أجل الموت يجب "أن يتم تسهيله بعون إنساني" حسب تعبيره.
ينصح د. دتلفزن المرء بالتصالح مع القدر من غير جبرية أو جمود، وقد اعتقد بمشروعية ما جاء به الإنسان البدائي من اسقاطات القدر الطيبة والشريرة على قوى خارجية أسماها الإله، ويرى أن في هذا خير الإنسان، إذ يستشعر ثواب الإله وعقابه ومسؤوليته الشخصية، الأمر الذي يفضي به إلى مرحلة التصالح الدائم. وعندما يبدأ في حديثه عن (الطب) بمقولة لعالم الفيزياء الألماني ماكس بلانك، يبدو التوحيد متأصلًا فيها كنتاج حتمي للعلم الصحيح. إذ يقول: "لا وجود للمادة بحد ذاتها! هناك فقط الروح المحيي... غير المرئي... الخالد... بوصفه أصل المادة... مع الخالق المنطوي على الأسرار الذي لا أخجل من تسميته (الله)".
يختم كتابه بنصيحة لكل باحث في أن يتعاطى مع كل ما في الحياة ويسترشد فيها طريقه خطوة خطوة... بوحي من نفسه طالما أنه قد خُلق عليها وعاش فيها... فلا لوم على من ادعى الجهل و لا لوم على من اختار... وهو من يتحمّل تبعات اختياره وحده، إن كان صحيحًا أو خاطئًا... فإن الجزاء من جنس العمل!