}

"التغريبة الفلسطينية" واستعادة الرواية الأصلية: بلاغة الفن الجميل

راسم المدهون 18 يوليه 2024
استعادات "التغريبة الفلسطينية" واستعادة الرواية الأصلية: بلاغة الفن الجميل
مشهد من مسلسل "التغريبة الفلسطينية"

حضور قضية فلسطين في السينما العربية أولًا، ومن بعدها الشاشة الصغيرة، ظلّ إلى اليوم محدودًا وقليل الفاعلية، ويتناول جوانب جزئية أو حتى هامشية من القضية لا تتناسب مع كثافة الحضور السياسي لفلسطين في الحياة العربية. فمنذ شاهدنا "فتاة من فلسطين" في السنة الأولى التي أعقبت النكبة عام 1948، ظلت فلسطين كقضية وواقع تغيب طويلًا لتحضر في صورة جزئية باهتة لا تلامس جوهر ما جرى ويجري، رغم استثناءات قليلة عشناها مع سينما مختلفة كما هي حال فيلم "المخدوعون" للمصري الراحل توفيق صالح عن رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس"، و"كفر قاسم" للبناني برهان علوية، وهما معًا من إنتاج "المؤسسة العامة للسينما" في سورية.

وما عاشته السينما عاشه التلفزيون، وإن تكن فلسطين قد حضرت في صور جزئية وثانوية في عدد من الأعمال التلفزيونية قبل أن تحضر كإطار روائي متكامل في مسلسل المخرج التونسي الراحل شوقي الماجري "الاجتياح" والذي تناول في صورة مباشرة وواقعية أحداثًا راهنة من الكفاح الفلسطيني الوطني. مع ذلك انفرد مسلسل "التغريبة الفلسطينية" بميزة نراها الأهم والأعظم وهي تقديم "الرواية الفلسطينية الحقيقية والتاريخية" للصراع الفلسطيني والعربي-الإسرائيلي منذ بداياته مع مطلع عهد الانتداب البريطاني على فلسطين وتوالي فصول عمليات التهويد بالرعاية والتمويل والتسليح البريطاني المباشر وغير المباشر.

"التغريبة الفلسطينية" هي بهذا المعنى سردية حقائق الصراع، وقراءة واقعية دقيقة لما يمكن أن نسميه تتبّعًا دراميًا لفصول التراجيديا الفلسطينية منذ بداياتها الأولى، وحتى الأيام القليلة التي أعقبت "معركة الكرامة" في الحادي والعشرين من آذار/ مارس 1968، وهي بهذا المعنى أيضًا "شهادة تاريخية" مزجت بين تغطية الأحداث السياسية الكبرى وحتى الثانوية وبين تقديم صور الناس، أهل القضية ومآلاتهم في أتون الصراع وما نتج عنه وترتب عليه من مآس لم تزل تتفاعل سلبا وإيجابا حتى اليوم.

العودة للرواية الأصلية للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي تعيدنا من جديد إلى أسباب لها علاقة بالكفاح الوطني الفلسطيني وبالذات المسلح حيث واجه هذا الكفاح منذ بداياته الأولى جدارًا عالميًا صلدًا يقوم على تبنّي الرواية الغربية الأميركية - الأوروبية والتي هي باختصار الرواية الصهيونية ذاتها وعنوانها الأبرز في السياسة الدولية اعتبار وجود دولة إسرائيل حقيقة مطلقة لا يجوز التشكيك فيها أو حتى مقاربتها، ولعل هذا السبب بالذات، كان الأهمّ وراء تبنّي منظمة التحرير الفلسطينية "البرنامج المرحلي" الذي يدعو للقبول بدولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967 وعودة اللاجئين على أمل أن يكون تبنّي هذا البرنامج السياسي نوعًا من "الالتحاق" بالشرعية الدولية ويضمن اعترافًا– ولو جزئيًا- بحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية ولم ينتبه الفلسطينيون لأهمية أن تظل الرواية الأصلية والحقيقية للصراع حاضرة ومتوثبة في كل المراحل السياسية.

مع ذلك أعتقد أن عوامل جزئية أخرى لعبت دورًا عظيمًا في جعل عودة الرواية الحقيقية للصراع شأنًا فاعلًا ومطلوبًا وقادرًا على تحفيز الإرادة الوطنية الفلسطينية أهمها الجدّية الكبرى لفعل الإرادة الفنية لتحقيق "التغريبة الفلسطينية" بدءًا من النص البارع والحيوي والمسكون بفكرة فنية عالية المقام وهي "استحضار الحياة" التي كانت في فلسطين قبل النكبة وليس مجرّد تقديم سردية حدثية تقوم على السرد الدرامي المجرد وشبه المحايد.

كان هذا ممكنًا في وجود النص الدرامي الهائل الحضور، والساطع في انتمائه لروح الشعب الفلسطيني ونسغ حياته الذي أبدعه وليد سيف والذي أرى - دون مبالغة- أنه استفاد من حيوية مضاعفة تقارب عبقرية الواقع بسبب من امتلاك سيف لموهبة الشعر، الشعر الذي نعرف جميعًا أنه كان تاريخيًا في صلب الدراما منذ البدايات الأولى للمسرح، والذي جعل مقاربة التراجيديا الواقعية لما حدث في فلسطين تقتضي وتستدرج تراجيديا فنية تحقّق حضور ما هو ساطع على نحو بهيّ، لعلنا نذكره اليوم في آلاف المشاهد الدرامية التي لا تُنسى: هنا تلمع في البال الأمكنة من مدن وقرى ومخيمات، وتلمع قوة الشخصيات الدرامية كما رسمها سيف وكما جاءت وثيقة الصلة بالتاريخ والواقع، ثم من خلال فرادة الحضور الكثيف لبلاغة المشهد في تعبيريته، والأهم أيضًا قوة بناء الشخصيات التي لا يعفيها تكوينها الوطني من "ارتداء" ملامحها الحقيقية التي تحدّد مواقفها وقناعاتها على نحو طبيعي ومنطقي.

هي تجربة بالغة الأهمية في الدراما العربية حققها الثنائي الشهير في الدراما العربية وليد سيف (إلى اليسار) وحاتم علي


أهم عوامل القوة للتغريبة الفلسطينية  فنيًا هي في السيناريو البديع، الرائق، والمفعم بالحيوية الذي أبدعه الشاعر وأحد أبرز الكتاب في مجال الدراما العربية وليد سيف، وكذلك الإبداع الكبير للمخرج الإستثنائي الراحل حاتم علي، إذ استعاد الشاعر وليد سيف صورة الحياة في فلسطين كما كانت بمطلع القرن العشرين، وبالذات صور الطبقات والفئات الاجتماعية وما فيها من تشابكات وافتراقات بين أجنحة المجتمع وفئاته: بلاغة الصورة النابضة التي قدمها وليد سيف مزجت بين حب الفلسطينيين لوطنهم وأرضهم وبين الظروف والقوانين القاسية التي فرضتها "سلطة الانتداب" التي جاءت إلى البلاد بهدف وحيد هو الإشراف على تسيير الأمور وتوجيهها نحو بناء "الوطن القومي اليهودي" في فلسطين وفقًا لوعد بلفور الشهير وأيضًا وفقًا للمصالح الاستعمارية لبريطانيا العظمى التي كانت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس. هي حياة أخذت مع كل مرحلة زمنية بعد ذلك تتصاعد حتى تحولت في سنوات الثلاثينيات حربًا يومية بين المجتمع الفلسطيني برمته وبين الانتداب البريطاني راعي الاستيطان الصهيوني وحاميه، وكانت ذروة ذلك ثورة القسام في 1935 وامتدادها الطبيعي اللاحق الثورة الكبرى عام 1936.

تبدو أهمية استحضار المكان في دراما تاريخية كالتغريبة الفلسطينية على صلة وشيجة بما يمكن أن تفعله مخيّلة مهندس الديكور وإبداعه، وقد رأينا الفنان المبدع ومهندس الديكور ناصر جليلي يتألق في رسم وتكوين المشاهد الفلسطينية على نحو حيوي جعل الدراما تقارب الحياة وجعل علاقة هذه الدراما بمخيلة المشاهد التلفزيوني ووعيه يتكاملان في لعبة تفاعل نؤمن أنها في صلب الدراما التلفزيونية وسياقاتها ومساراتها الحيوية. ذلك أيضًا يشير إلى أهمية الدور الكبير الذي لعبه مدير التصوير، الفنان أحمد إبراهيم أحمد.

هي سردية التاريخ بتعرجاته التي لا تستقيم، ولكنها بمعنى ما واضح وساطع "قصة فلسطين" وحكايتها الخالدة التي صارت مع عام 1948 التراجيديا الإنسانية الأعظم والأهم للبشرية المعاصرة.

أعتقد أن أبرز ما انتصرت عليه سردية وليد سيف وحاتم علي في التغريبة هي أن مُشاهد الشاشة الصغيرة الذي يأتي للمشاهدة مدفوعًا بالرغبة الحميمة في استكشاف أحداث مشوقة، مجهولة المسارات والنهايات، جاء هذه المرة لمشاهدة دراما يعرف مسبقًا نهايتها بل هو عاشها ويعيشها وهي فوق ذلك عنوانها البارز والساطع هو الهزيمة. أعتقد أن هذه النقطة بالذات وجدت تعويضها الفني والسياسي معًا في القراءة المختلفة للأحداث، والتي تطلبت الإحاطة بوجدان الإنسان الفلسطيني وتطور وعيه على نار المعارك التي لا تحصى، والتي من الممكن - بل والضروري- أن تمسك كل الوقت بخيط الدراما وخيط الواقع والتاريخ معًا وملاحظة العلاقة بينهما، على نحو يبدو في موضوع تراجيديا فلسطين كوطن وكشعب واضحة وتتطابق مع كونها مقاربة الدم. هي بمعنى ما تحقيق التشويق من خلال دفع المشاهد التلفزيوني إلى التحديق في الواقع الذي يعرف ولكن التحديق الواعي من أجل قراءة ما بين السطور في تاريخ عربي عاثر الحظ والمآل وجرى تغييبه عمدا على مدار عقود طويلة من الصراع الدامي وما شهده من حروب.

هي أيضًا تجربة بالغة الأهمية في الدراما العربية عمومًا، حققها الثنائي الشهير في الدراما العربية وليد سيف وحاتم علي جعلت مقاربة الواقع السياسي العربي لا تتناقض في أية صورة، مع حقيقة أن الدراما التلفزيونية تحمل هدفًا مشروعًا هو المتعة. وتحضرني هنا مقولة الكاتب الشهيد غسان كنفاني الذي قال غير مرة إن فلسطين كقضية وجود تحتاج إلى مرافعات فنية بارعة لا يكتفي محاموها بمجرّد كونها قضية عادلة ولا يركنون إلى ذلك. هي أهمية الفن الجميل، الناصع في حضوره، والمتوّج بالحلول الإخراجية البارعة والمبتكرة التي قدّمها الراحل الإستثنائي حاتم علي على مدار تجربته الفنية كلها والتي نعتقد أنها في "التغريبة" وصلت إلى واحدة من ذراها الكبرى التي جعلت هذا العمل التلفزيوني لا يتوقف عن التوهج ولا يتوقف عن الحضور في ذاكرة المشاهدين فيستعيدونه بين وقت ووقت من خلال العروض التي لا تحصى والتي تكاد تشمل خارطة القنوات الفضائية كلها على نحو بليغ ويدعو لتحية كل من ساهم في إنجاز التغريبة وجعلها تخرج في ذلك الإهاب الجميل من الفن والإبداع.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.