}

أدب المهاجرين الإيطالي: الأصوات النسائية 1

يوسف وقاص 22 يونيو 2017
تغطيات أدب المهاجرين الإيطالي: الأصوات النسائية 1
لوحة للفنانة المصرية شيماء عزيز

يوسف وقّاص

 

"كان دافعي للكتابة هو شعور يائس من أنني مختلفة. كانت أفكاري، في معظمها، تملك شكلاً مجرّداً لغاية ما تعلمت الكتابة وبدأت أكسي الأحرف وأجمع منها شِعراً كان ينمو في داخلي ... لم يكن ذلك صعباً كثيراً، لأنني كنت وما أزال أملك في داخلي ذاك البركان من الحبّ الذي كان ينتظر أن ينفجر إلى كلمات". فاليريا ماكاناشو.

1. الحضور النسائي

لعل من أبرز ملامح أدب المهاجرين الإيطالي هو الحضور النسائي الكثيف والفعّال وتبوؤه درجة عالية في فضاء الأدب الإيطالي المعاصر. فضاء يزدهر بألوان وأصوات تنصهر فيما بينها مشكّلة مهرجاناً يضجّ بألوان وتقاليد وثقافات شعوب قريبة وبعيدة، فرّقتها الحروب والاضطرابات الاجتماعية، وجمعتها الكلمة. وهذا التجمّع، مع ما يحمله من ملامح قسرية، إلا أنه في هذا البحث المضني عن "إتاكا"، يحاول دائما أن يلملم جراحه ويرسم تضاريس جديدة لمستقبله، وفوق كل شيء لرؤية هي في الأساس حلم الإنسان – العالم. وكان من أبرز شخصيات هذا الحضور، في البدايات، الجزائرية نصيرة شورى، التي ولدت في مرسيليا عام 1963 من أبوين جزائريين، وتعيش منذ عام 1990 في روما مع زوجها الإيطالي. في عام 1993 صدرت روايتها "كنت أريد أن أكون بيضاء" التي كتبتها بالاشتراك مع الصحافية أليسّاندرا أتّي دي سارّو وتتحدث عن تجربتها في الهجرة إلى إيطاليا. في مقابلة أجرتها معها غراتزييللا باراتي ونشرتها في كتاب: "استقصاء عبر نظرة غير غربية. السرد الأوتوبيوغرافي للنساء المهاجرات باللغة الإيطالية" (1)، تقول باراتي في المقدّمة، إن التجربة الوحيدة التي اتّسمت بإشكالية في المشاركة الكتابية ضمن أدب المهاجرين الإيطالي كانت بين الصحافية دي سارّو وشورى. هذه الأخيرة اشتكت نوعاً من التدخل من قبل الكاتبة المُشَارِكَة، التي غيّرت في الأسلوب وفي بعض أنماط الكتابة، بينما شورى كانت تفضّل أن يقتصر التدخل على التصحيح اللغوي فحسب".

في رواية "كنت أريد أن أكون بيضاء"، يبدو واضحاً منذ السطور الأولى أن اختلاف لون الجلد، لا تتقبّله المؤلفة بسهولة سوى بعد مراجعة للذات، قاسية وطويلة. الشعور بالذنب والخجل يطفوان عبر قسم لا بأس به من الرواية، اللون الداكن لا يمكن محوه، إنه ظاهر بقوة، بل يتحول إلى علامة من اللامبالاة تجاهها، والأدهى أنه يولّد حقداً وكراهية تجاه أبويها، مُذنِبَيْنّ لأنهما أتيا بها هكذا إلى هذا العالم. تقول شورى في مقطع من روايتها، ربّما الأكثر دراماتيكية: "ركضت إلى البيت بحمية كبيرة للبحث عن مرآة. وجدت واحدة في عمق أحد الأدراج: كانت صغيرة، مع خدش في الوسط تماماً. لا يهمّ – فكّرت – إنها ملائمة تماماً لما أحتاج إليه. تأمّلت نفسي طويلاً، ولمست خدّي بسبابة اليد اليمنى لأرى فيما إذا، لسحر ما، سأتمكّن من إزالة بعض من ذلك اللون الذي يغطيني كلّياً. [...] بقيت أشعر بالخجل من أمّي لمدة أسبوع كامل ومن لون جلدها، والآن فقط أعرف أنني لن أستطيع أبداً أن أخجل بما فيه الكفاية لأنني خجلت منها".

الاختلاف في هذه الرواية يتحوّل فوق كل شيء إلى مسألة قبول ذاتي، وبالتالي الانتقال إلى مرحلة الثقة بالنفس أو القيمة الذاتية. نصيرة شورى تخبرنا من خلال الرواية، عبر مسار شخصي وحميمي بامتياز، أن المشكلة الأخيرة لا تكمن بالضبط في كونها داكنة اللون، إنما في مقدرة العثور على اللون "الملائم" لكل مناسبة وظرف. ففي المجتمع التي تعيش فيه الممثلة، رغم أن الأمر يبقى كمشكلة مرتبطة بالعنصرية وبالتفرقة، اللون الداكن على كل حال مقبول بقدر ما يُقلّل من شأنه ويتقلص إلى كليشيه أو صورة نمطية.  

البطلة، التي تحلم باحتراف التمثيل، تنتبه فجأة أن اختلاف لونها يمكن أن يساعدها. اللون الداكن يمكن أن يمنحها تلك اللمسة من الغرابة لدرجة يتمّ فيها تفضيلها على الفتيات المرشحات. ولكن في هذه الحالة أيضاً، الأوهام سريعاً ما تزول: "مثل كل الفتيات، كنت أحلم أن أصبح ممثلة، كنت أحاول بيأس أن أصبح ممثلة، قمت بكل الاختبارات ولم أكن ملائمة أبداً. من جديد، مشكلة اللون – كان داكناً كثيراً أو فاتحاً كثيراً، لم أكن أملك أبداً اللون المناسب".   

والكتاب الآخر الذي أحدث ضجة كبيرة في البدايات (ولا يُعرف حتى الآن فيما إذا كان يجب تصنيفه ضمن الأقلام الذكورية أو النسوية، لأن الكاتب كان مُعدّلاً جنوسياً) هو الرواية الأتوبيوغرافية "برينسيسا" للبرازيلي فرناندو فارياس دي ألبوكرك الذي ولد في الريف البرازيلي عام 1963 وترعرع بلا أب في عائلة فقيرة.

في السابعة من العمر، تعرّض فرناندو لاعتداءات جنسية، وبعد فترة قصيرة من ذلك الحادث، هرب من البيت وبدأ يعمل كمساعد طباخ، ومن ثمّ انتقل إلى ممارسة الدعارة في المدن البرازيلية الكبرى بالاسم المستعار "برينسيسا". في عام 1988، بعد إقامة قصيرة في إسبانيا، انتقل إلى إيطاليا وأخذ يمارس نفس المهنة في شوارع مدينة ميلانو وأصبح مدمناً على المخدرات. من هناك انتقل إلى روما حيث قام بالاعتداء على امرأة حاولت أن تبتزّ نقوده وانتهى به الأمر في سجن ريبيبيا. في السجن، اكتشف بأنه مصاب بمرض نقص المناعة المكتسبة "الإيدز"، وهناك تعرّف أيضاً على راعٍ من سردينيا (من أولئك الذين كانوا يخطفون الصناعيين ورجال الأعمال ويطالبون بفدية مقابل إطلاق سراحهم)، جوفاني تامبوني، محكوم بالسجن المؤبد. الاثنان بدأا في تبادل كرّاسات مكتوبة بمزيج من البرتغالية، باللهجة السائدة في جزيرة سردينيا وبالإيطالية. باقتراح من تامبوني، بدأ فرناندو يكتب قصته لماوريتسيو يانّيللي، أحد أعضاء منظمة الألوية الحمراء، الذي كان موجوداً في نفس السجن، ويروّج لبعض المبادرات الأدبية بين السجناء. بمساعدة ماوريتسو يانّيللي، كتب فرناندو روايته البيوغرافية "برينسيسا" التي صدرت في عام 1994 من قبل تعاونية للنشر أسسها ريناتو كورتشو، أحد الزعماء البارزين لمنظمة الألوية الحمراء. للتنويه فقط، ولشرح أسباب وجود أعضاء هذه المنظمة بين السجناء المعتادين، أودّ أو أضيف أن الألوية الحمراء كانت منظمة ثورية يسارية شبه عسكرية، وكانت مسؤولة عن العديد من أعمال العنف، أهمها اختطاف وإعدام ألدو مورو، رئيس الوزراء آنذاك، عام 1978. بعد سنتين من هذا الحادث الذي هزّ المجتمع الإيطالي، تمكّنت الحكومة، وفق خطّة مدروسة، من تفكيك بنية المنظمة نهائياً بمعونة بعض القادة والأعضاء المعتقلين، وسمحت لمن وافق التوقيع على تصريح خطّي يعلن فيه تخلّيه عن "الكفاح المسلّح"، الانضمام لبرنامج إعادة تأهيل واسع مع امتيازات للخروج والعمل خارج نطاق السجن. 

 أثناء تقديم الكتاب في مهرجان "من سدوم إلى هوليوود" في مدينة تورينو، احتجّ أهالي ضحايا الألوية الحمراء على وجود ريناتو كورتشو في الصالة، وبالتالي لم يتمكن فرناندو من تقديم كتابه. مع ذلك، لاقت روايته نجاحاً كبيراً وتمّت ترجمتها لاحقاً إلى اللغات البرتغالية، الإسبانية، الألمانية واليونانية، واستوحى منها المغني الإيطالي الشهير فابريتسيو دي أندريا أغنية بعنوان "برينسيسا"، كتب كلماتها بالتعاون مع المغني إيفانو فوسّاتي. تمّ توظيف فرناندو لفترة من الوقت سكرتيراً في تعاونية النشر المذكورة، ولكنه سرعان ما ترك العمل وعاد إلى الشارع. في عام 1997 قام ببطولة الفيلم الوثائقي "شوارع برينسيسا" الذي أخرجه ستيفانو كونسيليو. عرض الفيلم في المهرجان العالمي للفنون السينمائية في البندقية وعلى القناة الحكومية الثانية راي 2. بعد طرده من إيطاليا، عاد فرناندو إلى البرازيل حيث انتحر في عام 2000.

في العام التالي، 2001، قام هنريك كولدمان بإخراج فيلم سينمائي مستوحى من سيرته الذاتية بعنوان "برينسيسا"، بطولة إنغريد دي سوسا، تشيزار بوتشي، لولو بيكوراري وماورو بيروفانو.

وإلى البدايات أيضاً، تعود أعمال غلاديس باساغوييتيا داتزا، من مواليد ليما (البيرو)، مجازة في علم البيولوجيا وتعيش في مدينة بيروجيا منذ سنوات طويلة. حازت غلاديس على أكثر من جائزة أدبية، محلية وعالمية، في الشعر، في البيرو، والبرازيل وإيطاليا، ونشرت مجموعاتها الشعرية في الأرجنتين، والمكسيك، والولايات المتحدة، ونيكاراغوا والبرتغال. من مجموعاتها الشعرية "رائحة الليمون" (1994)، "ذكريات في الحقيبة" (المجلد الثالث من مسابقة إكس & ترا 1997)، "الحب اللانهائي" (1986)، "غابة غير مرئية" (1997)، "ابتسامة النهر" (مجموعة قصصية 1995)، والمجموعة الشعرية الأخيرة "محيط من الضوء" (2013). في إحدى قصائدها التي تتصدّر مجموعتها هذه، في تماهٍ مع قصائد الهايكو، تصف غلاديس ماهية الشعر بالنسبة لها: عطاء الحبّ/ قوّة الأفكار/ ضوء الغناء. من كلماتها، نفهم أن الشعر هو قبل كل شيء تكريس وشهادة للحبّ، حبٌ طليق ويتّسم بالإيثار، يخاطب الروح ويوقظ ما هو أكثر شفافية وعمقاً في أنفسنا. ولكن الشعر هو قوّة وثمرة أفكار أيضاً حيث يتقصّى وجود الكائن في العالم، متوغلاً في خفاياه الغامضة ومضيئاً جوانبه الأكثر عتمة. من الخلاصة الكيميائية والفعّالة لهذه العناصر، يتدفّق غناء غلاديس، على شكل أفكار مستنيرة تنبض بكلمات تحمل معنى وجوهر حبّ يبدو وكأنه من المحال الوصول إليه.

هؤلاء وغيرهّن من الكاتبات يمثّلن اليوم نصف نتاج أدب المهاجرين تقريباً، وهي نسبة كبيرة بالمقارنة مع حضورهّن في الأدب الإيطالي المعاصر. وهذا العدد المرتفع من الجنس اللطيف بين كتّاب أدب المهاجرين الإيطالي، يعود إلى أسباب مختلفة، أولها انتماؤه إلى أدب يقع خارج إملاءات الصناعة الثقافية، ونتاجه ينحصر في ذاك الذي تسميه فرنكا سينوبولي "المرحلة الكارستية-الكلسية"، أو بالأحرى، المرحلة غير المتناسقة والمغمورة جزئياً من أدب المهاجرين. ورغم أن هذه الكتب ذات توزيع محدود، وعلى أي حال محطّ اهتمام نواة صغيرة من المهتمّين وبشكل أوسع قليلاً من القرّاء، إلا أنه أفسح بطريقة ما مساحة أكبر لدورهّن الريادي في إطار المشهد الثقافي الإيطالي بشكل عام.  

السبب الآخر للحضور النسوي القوي – حسب دراسات المراكز الاجتماعية المختلفة - له بعد تاريخي أيضاً. فإذا ما ألقينا نظرة على الإحصاءات في ما يتعلق ببلدان المنشأ وتدفقات الهجرة، نرى أن النساء هاجرن قبلاً إلى إيطاليا وشكّلن مجتمعات ذات أغلبية نسوية. ولكن هنالك أيضاً سبباً بسيكولوجياً: القسم الأكبر من الكاتبات ينحدرن من بلدان ذات ثقافة وتقاليد أبوية قوية، والهجرة بالنسبة لهنّ كانت صدمة قوية، فوق كل شيء في ما يخص القادمات من بلدان عربية أو من أحضان ثقافة وصائية كانت لا تسمح لهن التعبير بحرّية. إذن، الأمر يتعلق بتغييرات مضاعفة وفجائية: هؤلاء النسوة تركن مسقط رأسهنّ وأرغمن على تغيير جذري تقريباً في أنماط حياتهنّ، وخلال فترة قصيرة، تحولن من متلقيات سلبيات إلى عناصر نشطة وفعّالة. كخطوة أولى، اضطررن للعمل في مجتمع لا يمكن العيش فيه دون أن يكون المرء مُنتجاً، وهو ما أفسح لهنّ المجال لامتلاك وعي جديد، وتشكيل هوية جديدة، أكثر قوّة وتعقيداً، "بالضبط مثلما حدث لنسائنا المهاجرات في القرن التاسع عشر عندما تركن المجتمع الزراعي والأبوي الإيطالي لكي يعملن في بلدان أخرى"، تقول كريستينا ماوتشيري، ناقدة وباحثة.

إذن، نحن أمام مسار للتحرّر وإدراك جديد لاختلاف وغنى الذات، التي تجمع هؤلاء الكاتبات وتدفعهنّ للكتابة بلغة أخرى. والكتابة النسوية تتباعد في بعض الحالات عن تلك الذكورية، بالمواضيع أو القضايا، في تطور الأسلوب وفي مزيد من الإبداع الفني. الكاتبات يتنقلن عبر أجناس ولغات أدبية متنوّعة، من نصوص مسرحية مثل مونولوغ "آنا دي جيسوس" لكريستينا دي كالداس بريتو، إلى قصائد غنائية وشعرية، مثل أشعار البرازيلية روزانا كريسبيم دا كوستا والصومالية كريستينا علي فرح، أو روايات وسير ذاتية، مثل "روضة" لإيجابا شيخو، و"شعر غنائي من أريتريا" لرِفْقة شيباتو، إلى كتابة القصّة القصيرة، مثل قصص اليونانية هيلينا باراسكيفا والهندية ليلي-أمبر ليلى وديع.

لا يوجد شك، حسب كثير من النقاد، أن الصوت النسوي هو الجانب الأكثر إثارة ونضوجاً في أدب المهاجرين. فما يجمع بين الكاتبات المهاجرات، وبهذا يتميزن عن زملائهن من الكتّاب الذكور، هو الدرجة العالية من التعليم: كثير منهنّ أنهين دراستهنّ الجامعية، في إيطاليا أو في بلدانهنّ، ومعظمهنّ كنّ مثقفات قبل أن يهاجرن، ويمتلكن وعياً ومهارة كبيرة باللغة الإيطالية، إمّا لأنهنّ استوعبنها دون صعوبات (بالنسبة للكاتبات من الرعيل الأول) أو لأنهنّ اعتدن على سماعها منذ الصغر، وبالتالي تحولت إلى لغة أم ثانية (بالنسبة للرعيل الثاني ولأولاد الزيجات المختلطة في أفريقيا).

ويعتقد البروفيسور رفائيل تادّيو أن النساء يمتلكن ميزة أخرى أيضاً، وهي نضوجهنّ الكبير في الأسلوب، حيث نجد أنهنّ لا يتوانين عن استعراض أنفسهنّ بالتلاعب في الألفاظ، باستنباط تعابير وكلمات محدثة وذكية، وبتشكيل بنيات نحوية معقدة وأخطاء مقصودة لإسباغ نوع من التأثير الكوميدي على نصوصهنّ. أما في ما يتعلق بالقضايا التي يطرحنها، فهي بدورها مبتكرة وجذابة أيضاً، فنراهنّ يبتعدن عن الثيمات الكلاسيكية للحنين والنواح على الوطن المفقود، ويُعبّرن بواسطة الكتابة على ضرورة بناء واقع جديد، ووعي يرسّخ الثقة في نفوسهنّ ككاتبات ومهاجرات، مع ميول نقدية، لكنها ساخرة في معظم الأحيان، من المجتمع الإيطالي. هؤلاء الكاتبات على أي حال غير متجانسات ولا يمكننا أن نجمعهنّ، لا في الغايات ولا في الأسلوب ولا في المنشأ ضمن امتداد واحد: هنالك كاتبات من الجيل الأول والجيل الثاني، ينحدرن من المستعمرات السابقة وحالات منفردة ومنعزلة مع قليل ممّا يجمعهن، كاتبات ينتمين إلى عائلات مختلطة، إلى عائلات إيطالية أو أفريقية، وطبعاً مع اختلافات تؤدّي إلى اختيارات لغوية ومضامين مختلفة.       

2. الكاتبات من المستعمرات السابقة

لا شك أن مجموعة الكاتبات القادمات من المستعمرات الإيطالية السابقة يبدون، لأسباب جغرافية ولغوية، أكثر تجانساً. يضاف إلى ذلك، أن هجرتهنّ إلى إيطاليا، كانت أسهل من مواطني الدول الأفريقية الأخرى. من بين الأسماء البارزة لهذه المجموعة إيجابا شيخو وكريستينا علي فرح من الصومال، غابرييللا غيرماندي وإرمينيا ديل أورو ورفقة شيباتو من أريتريا. هؤلاء الكاتبات يمثّلن الميراث، دون حقد، لذاك الذي تركته الثقافة الإيطالية في بلدانهنّ، في المخيلة الجمعية وفي نمط الحياة، وما عانوه من الاستعمار الإيطالي بالأخص من قبل آبائهنّ أو أجدادهنّ، الذين ما زالوا يحملون آثاراً كثيرة منه. ويمكن العثور بسهولة على هذه الآثار في نصوص هؤلاء الكاتبات اللواتي يقدّمن شهادة حيّة عن الكولونيالية، ويسلّطن الضوء على فترة تاريخية غير معروفة كثيراً، يتعلّمن من خلالها حاضرهنّ وماضيهنّ. وبالإضافة إلى ذلك، نعثر أيضاً عبر قصصهنّ على علاقة قوية لا تزال تربط حتى الآن تلك المستعمرات السابقة مع إيطاليا. وخلافاً للكتّاب المهاجرين من الجنسين، إيطاليا بالنسبة لعائلات هؤلاء الكاتبات لم تكن جهة اعتباطية ولكنها معروفة مسبقاً، في لغة وفي ثقافة المُسْتَعْمِرين. النضوج الفني والأخلاقي الكبير لهؤلاء الكاتبات هو في الاختيار اللغوي المؤلم للكتابة بلغة المحتلّ متجاوزات أزمة الهوية أو تأنيب الضمير، ومستغلات على أيّ حال الدرجة العالية من إتقانهنّ للغة تعلموها في المدارس الإيطالية في بلدانهنّ أو من أحد الأبوين ممّن بقي من المستوطنين في أوطانهنّ بعد الاستقلال. من جهة أخرى، نجد أن معظم هؤلاء الكاتبات ينتمين إلى جيل شاب، من أولئك الذين قدموا في السبعينيات، ونتاجهم هو النتاج الأدبي الأول باللغة الإيطالية للجيل الثاني من الكتّاب المهاجرين. بعض منهنّ قضين معظم حياتهنّ في إيطاليا، أو ولدن هنا. إيجابا شيخو مثلاً، ولدت في إيطاليا من أبوين صوماليين، وبالتالي تنتمي إلى الجيل الثاني من المهاجرين. كريستينا علي فرح، تملك تأهيلاً لغوياً استثنائياً، ابنة زواج مختلط، ولدت في الصومال وارتادت المدرسة الإيطالية هناك. غابرييللا غيرماندي ولدت في إثيوبيا، وهي أيضاً ثمرة زواج مختلط.

فكما نرى، ما يجمع بينهنّ هو الرصيد اللغوي الجيد الذي يساهم في إغناء اللغة الإيطالية عبر تجارب جديدة وحالات من التهجين اللغوي، أسوة بالكتّاب من المستعمرات الفرنسية والإنكليزية السابقة، الذين قدّموا مساهمة كبيرة لأدب هاتين الدولتين. عملياً، نصوصهنّ لا تريد أن تكون مؤشراً لحركة أو لوضع موحّد، إنما تهدف إلى قيمة أدبية. الثيمات تنمّ عن نوع من الابتعاد عن أدب الشهود والأدب البيوغرافي الذي عانى منه الكتّاب المهاجرون الأوائل، على الرغم من أن هناك إشكاليات كالعنصرية والاندماج، ويبدو أن الشيء الأساسي بالنسبة لهنّ هو البحث عن هوية امرأة ومهاجرة في مجتمع ذكوري وعنصري، وتحليل العالم المحيط بهنّ بنظرة أكثر نضوجاً وبلا إحباط بالمقارنة مع الكتاب المهاجرين الآخرين. في روايتها "روضة"، والتي نالت نجاحاً كبيراً من قبل القراء والنقاد، إيجابا شيخو مثلاً، تحلّل العلاقة المُعقّدة مع إيطاليا، بلد مُسْتَعْمِرٌ، مكان الأحلام والآمال الخائبة، وترسمها بحذاقة كبيرة عبر قصة ثلاث نساء صوماليات، منقسمات ما بين رابط الحنين لأرضهنّ وثقافتهنّ، ومعاناتهنّ ورغبتهنّ في الاندماج الاجتماعي، لغاية ما يشعرن أنهنّ على مفرق عالَمَيْنِ، ليَخْتَرْنَ في النهاية نوع من الانتماء المزدوج.   

في هذا العمل، المؤلفة تجرّب لغة تراوح ما بين السرد النثري والمونولوغ المسرحي، وبأسلوب أكثر موضوعية وأكثر حميمية. أما كريستينا علي فرح، فقد نشرت قصائد في عدة مجلات ودوريات، وغنائيتها سلسة وتخلو من البلاغة، وتعتبر مثالاً ناضجاً للشعر النسوي في أدب المهاجرين. يوجد في شعرها ملخّص للعالم الغربي وذاك الأفريقي: الذكريات، الألوان والأساطير هي أفريقية، لتمتد مواضيعها حول العلاقة بين إيطاليا والصومال، حول مصير بلدها وحول مصيرها هي نفسها. في كل ذلك، تُعبّر في شعور قوي من الاختلاف، امتزاج الأوتوبيوغرافي مع التاريخ في أشعارها.

وغابرييللا غيرماندي أيضاً تعالج في قصصها إشكالية التعايش، سواء في المستعمرات السابقة، أو عبر التقاليد القديمة والمعتقدات التي فرضها الغرب. الكاتبة تحلّل، دون إرادة نقدية أو سياسية، الثقافة الحالية في إثيوبيا، التي تمتزج فيها المعتقدات الشعبية والعبادات الروحانية مع التقليد المسيحي، ميراث العالم الغربي. عملياً، نلمس في نصوصها كثيراً الرباط مع التقليد الشفاهي والأساطير الأفريقية. وهي، مثل كريستينا علي فرح، تنطلق من الشفاهية لكتابة قصصها، بينما لغتها تتبع إيقاعاً خاصاً باللهجة المحكية، مع إضافات مستمرة لكلمات وتعبيرات صومالية وإثيوبية.   

بهذه الطريقة، هؤلاء الكاتبات، يحاولن استعادة الذاكرة الشفاهية، ذاكرة أفريقيا التي ينقلها الرواة المسنّون، لئلا تندثر ولكي يتمّ الحفاظ عليه كإرث لا غنى عنه للأجيال القادمة. من بين الكاتبات الأخريات اللواتي ينحدرن من عائلات إيطالية وأقمن في المستوطنات، هنالك إرمينيا ديل أورو من أريتريا، ولوتشيانا كابريتّي من ليبيا، وشيرين رامزانالي فاضل من الصومال، اللواتي ينتمين إلى الجيل السابق، والمقاربة الأتوبيوغرافية لديهنّ هي أكثر قوة، وما يكتبنه هو تعبير عن هوية معقّدة، تم إثراؤها من ثقافات مختلفة عايشنها وما زلن يحتفظن بآثارها.



*كاتب من سورية يقيم في ميلانو 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.