}

الشعر وجذوة الحياة

ريتشارد رورتي 21 مارس 2022
ترجمات الشعر وجذوة الحياة
ريتشارد رورتي (1931 ـ 2007)

ليس الموت شاغلًا لريتشارد رورتي في هذه المقالة شديدة التّكثيف التي كتبها في أواخر حياته. ليس الموت في ذاته، على الأقل، بل ماهيّة الأفكار التي تنتاب المرء في الاحتضار، وكيفيّة استذكار تلك الأفكار والتّعبير عنها. هل تتولّد تلك الأفكار من ذاتها، وتفرض نفسها على الذاكرة والعقل، أم أنّ الذاكرة هي التي تستدعي "ما كان ذا مغزى"، في حياتنا؟ أو لعلّها تستدعي ما لم نعشه، وتمنّينا لو عشناه، ما لم نختبره وتمنّينا لو خبرناه، أو ربّما ما لم نعشه كفايةً واكتشفنا نقصاننا حين قاربت الحياة على "اكتمال" دورتها. ما ماهيّة تلك الأفكار؟ قد تكون أفكارًا دينيّة لدى معظم من يقترب من الموت، أو ربّما فلسفيّة لدى البعض، غير أنّ رورتي يفاجئنا ويفاجئ نفسه بأنّ أفكاره/ مشاعره/ ذاكرته في فترة الاحتضار كانت شعريّة. ليست "أفضل" القصائد بالضرورة، بل ما علق في الذاكرة، الذاكرة البعيدة لو شئنا الدقّة؛ قصائد يسمّيها رورتي "قصائد مهترئة"، أي تلك البالية من فرط استدعائها على الألسن والذاكرة. ليس ندمًا بقدر ما هي محاولة لملمة ما تناثر من الذاكرة حين ملأنا العقل والذاكرة بما "كان ذا مغزى"؛ محاولة لاستعادة ما مررنا به عبورًا في لهاثنا نحو "المجد"، محاولة لإحياء ما غفلنا عنه في حياتنا، وقد كان هو ما صاغ حياتنا؛ استعادة ما أهملناه في حياتنا التي لم نعشها كما ينبغي ربّما، أو كما تستحقّ ربّما؛ استعادة عيش ما لم نعشه، أو ما لم نعشه كفايةً، حتّى لو كانت حكايات مكرورة، نكاتًا سمجة، قصائد بالية.
نستعيد هذه المقالة في مناسبة قد تبدو ـ هي الأخرى ـ مكرورةً، مهترئة، بالية. نستعيدها في يوم الشعر العالميّ (21 آذار/ مارس)؛ بدأت الحياة شعرًا، ولعلّها تنتهي شعرًا.
نُشرت المقالة للمرة الأولى في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2007.
ريتشارد رورتي (1931 ـ 2007): فيلسوف أميركيّ عُرف بإحيائه لمدرسة "البراغماتيّة الأميركيّة"، وبتخصّصه في تاريخ الفلسفة، وفي الفلسفة التحليليّة الراهنة. ولد في نيويورك عام 1931 لأبوين مثقّفين يساريّين مناهضين لستالين. بدأ الدراسة الجامعيّة قبل أن يبلغ الخامسة عشرة، حيث درس البكالوريوس والماجستير في الفلسفة في جامعة شيكاغو، ثم حصل على الدكتوراة في الفلسفة من جامعة ييل (1956). نال منحة مؤسسة غغنهايم (1973)، ومنحة ماكارثر "منحة العبقريّة" (1981). كان أحد أشهر فلاسفة عصره، ومن أكثرهم إشكاليّة. درّس في جامعات: كليّة ولسلي، برنستون، ستانفورد. من أهم كتبه: "الفلسفة ومرآة الطبيعة" (1979)، وسلسلة "أوراق فلسفيّة: (1) "الموضوعيّة، النسبيّة، الحقيقة" (1991)، (2) "مقالات عن هايدغر وآخرين"، (3) "الحقيقة والتقدّم" (1998)، (4)؛ "الفلسفة سياسةً ثقافيّةً" (2007).
فارق الحياة عام 2007 بسبب مضاعفات سرطان البنكرياس.

(ترجمة وتقديم: يزن الحاج)





في مقالة بعنوان "البراغماتيّة والرومانتيكيّة"، حاولتُ إعادة طرح محاجّة [بيرسي] شِيلي "دفاعٌ عن الشّعر". في جوهر الرومانتيكيّة كان ادّعاءُ أنّ العقل لا يسير إلا في الدّروب التي شقّها الخيال أولًا. لا كلمات، لا عقل. لا خيال، لا كلمات جديدة. لا كلمات كهذه، لا تقُّدمَ أخلاقيًا أو فكريًا؛ هكذا قلتُ.




ختمتُ تلك المقالة بمعارضةِ قدرة الشّاعر على منحنا لغةً أغنى مع محاولة الفيلسوف اكتساب مفتاحٍ غير لغويّ إلى الحقيقة حقيقةً. كان حلم أفلاطون بمفتاح كهذا إنجازًا شعريًا عظيمًا في ذاته. ولكن مع وصول زمن شِيلي كان هذا الحلم قد اختُلِق؛ تبعًا لفهمي. نحن الآن أَقْدَرُ من أفلاطون على التّسليم بتناهينا ـ على الإقرار أنّنا لن نمسّ ما هو أعظم من أنفسنا. نأمل، بدلًا من ذلك، بأن تصبح الحياة البشريّة هنا على الأرض أغنى مع مرور القرون، لأنّ اللغة المُستخدَمة من أخلافنا البعيدين ستكون ذات موارد أكثر من موارد لغتنا. ستَثْبُت مفرداتنا مع مفرداتهم كما ثبتت مفردات أسلافنا البدائيّين مع مفرداتنا.
في تلك المقالة، كما في كتابات سابقة، استخدمتُ مفردة "الشعر" بمعنى واسع. مددتُ مصطلح هارولد بلوم عن "الشاعر القويّ" ليشمل كتّاب النّثر الذين ابتكروا ألعابًا لغويّةً لنا كي نلعب ـ أناس مثل أفلاطون، ونيوتن، وداروِينْ، وفرويد، فضلًا عن شعراء مثل [جون] ملتون، و[وليم] بليك. قد تضمّ تلك الألعاب معادلات رياضيّة، أو محاجّات استقرائيّة، أو سرديّات دراميّة، أو (في حالة الشعراء) ابتداعًا عروضيًا. ولكنّ التّمييز بين النّثر والشّعر كان غير ذي صلة بمقاصدي الفلسفيّة.
بُعيد انتهائي من "البراغماتيّة والرومانتيكيّة"، شُخّصتُ بسرطان بنكرياس غير قابل للجراحة. بعد بضعة أشهر من سماعي الخبر السيء، كنتُ أتسلّى بشرب القهوة مع ابني الأكبر، وزيارة قريب. سألني قريبي (وهو قسّ معمدانيّ) ما إذا كانت أفكاري قد مالت إلى موضوعات دينيّة؟ فرددت: لا. "طيّب، ماذا عن الفلسفة؟"، سأل ابني. "لا". رددتُ، لا الفلسفة التي كتبتُها، ولا تلك التي قرأتها بدت ذات مغزى خاص لوضعي. لم أجادِل محاجّة أبيقورس أنّ من غير العقلانيّ خشيةُ الموت، ولا مع إشارة هايدغر بأنّ الأنطوثيولوجيا تتولّد كمحاولةٍ للتملّص من فنائنا. لا الأتاراكسيا ataraxia (التحرّر من البلبلة)، ولا زاين تْسُمْ تُوت Sein zum Tode (الكينونة تجاه الموت) بدتا في صميم الموضوع.
"ألم يكن أيٌّ ممّا قرأته ذا نفع؟"، ألحّ ابني. "نعم"، وجدتُ نفسي أندفع قائلًا: "الشعر". "أيّ قصائد؟"، سألني. اقتبستُ اثنتين مهترئتين كنتُ قد انتزعتُهما من ذاكرتي، وغمرتاني ببهجة غريبة؛ الأسطر الأكثر ذيوعًا من قصيدة سوينبرن "حديقة بروسربينا":

نَحْمُدُ بصلاة شكر قصيرة
أيّ آلهة كانت
أنْ لا حياة إلى الأبد؛
أنْ لا موتى يُبعثون؛
أن أكثر نهرٍ مُرهَقٍ
سيتلوّى آمنًا إلى البحر.

وقصيدة [وولتر سافج] لاندور "في عيد ميلاده الخامس والسبعين":

الطّبيعةَ عشقتُ، وبعد الطّبيعة الفنّ؛
أدفأتُ كفيَّ أمام جذوة الحياة،
قد خمدتْ، وها أنا جاهز للرحيل.

وجدتُ سلواني في تلك التعرّجات البطيئة، وتلك الجمرات المحتضرة. أظنّ أن لا تأثير مماثلًا يمكن للنّثر أن يولّده. لا الصّور وحسب، بل القافيةُ والإيقاعُ أيضًا ضروريّان لأداء المهمّة. في أسطر كهذه، تتواطأ هذه العناصر الثلاثة لتوليد درجة تكثيف، وتأثير بالنّتيجة، لا يمكن لغير الشعر بلوغها. مقارنةً بالطّلقات الدّقيقة التي يبدعها الشّعراء، حتّى أفضل النّثر خبطُ عشواء.




مع أنّ جذاذات شعر متنوّعة عنت لي كثيرًا في لحظاتٍ بعينها من حياتي، ما كنتُ قادرًا أبدًا على كتابة أيٍّ منها بنفسي (ما خلا سونيتات مخربشة في أثناء اجتماعات جامعيّة مملّة ـ كنوعٍ من العبث). ولا أتابع أعمال الشعراء المعاصرين. حين أقرأ الشعر، غالبًا ما تكون قصائد مفضّلة من المراهقة. أظنّ أنّ علاقتي المتذبذبة بالشّعر، في هذا المعنى الأضيق، نتيجة تعقيدات أوديبيّة نتجت من كون أبي شاعرًا. (يُنظَر، جيمس رورتي، أطفال الشّمس، (ماكملان، 1926)).
أيًا يكن، أتمنّى الآن لو قضيتُ قسطًا أكبر من حياتي مع الشعر. ليس هذا لكوني أخشى أنّي قد فوتُّ حقائق عصيّة على التّعبير بالنّثر. ما من حقائق كهذه؛ ما من شيءٍ يتّصل بالموت عرفه سوينبرن، ولاندور، وأخفق أبيقورس، وهايدغر، في إدراكه. ولكنْ، كنتُ سأكتمل أكثر لو تمكّنتُ من ترديد قصائد مهترئة أخرى ـ كما كنتُ سأنال لو كان لديّ خِلّانٌ أكثر. الثّقافات ذات المفردات الأغنى أكثرُ بشريّةً ـ أبعد من البهيميّة ـ من ذات المفردات الأفقر؛ الرجال والنّساء أكثر بشريّةً حين تكون ذكرياتهم مغمورةً بالشّعر.

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
21 مارس 2022

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.