ينطوي كتاب "دموع الملح" لبيترو بارتولو وليديا تيلوتّا (ترجمة محمد أ. جمال، منشورات تكوين، 2020)، على سيرة ذاتية قد تُعرّف بصاحبها لا من خلاله، بل من خلال الآخرين الذين كرّس مسيرة حياته في خدمتهم بما استطاع، بل وفوق ما استطاع في بعض الأحيان.
هنا يتحدّث بيترو بارتولو Pietro Bartolo (1956)، طبيب من جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، والذي جعل منها نقطة تجمّع للاجئين الذين عقدوا الأمل على حياة خلف البحر فركبوه، حتى لَفَظَهم على شاطئه ولم يبتلعهم غدرًا كما غدرت بهم أوطانهم وابتزّهم المهربون فتوّلى مهمة استقبالهم كما عكف منذ تأسيس عيادة الجزيرة عام 1991 كحالات طارئة، بغية إسعافهم فور وصولهم، حتى استحق وبجدارة لقب (طبيب المهاجرين). لم يكن توفير طائرة إسعاف للجزيرة ابتداءً بالأمر الهيّن، فقد حارب خلال الخمس سنوات التي تولّى فيها منصبًا دبلوماسيًا في الحكومة المحلية كمستشار للصحة، من أجل الحصول على ميزانية العيادة البالغة ستة ملايين ليرة آنذاك، ما يسّر عملية تدشين الخدمة بعد ذلك وخفف وطأة العزلة على الجزيرة بساكنيها. يحصد د. بارتولو الأوسمة والتكريمات والجوائز العالمية نظير أعماله الطبية والإنسانية تجاه اللاجئين، ويُرّشح فيلم (حريق في البحر) الذي خصّ الجزيرة وأعماله فيها بجائزة الأوسكار عن أحسن فيلم وثائقي لعام 2017. يقول عنه شخصيًا: "لم يكن مجرد وثائقي، كان سردية معقّدة ذات وتيرة محسوبة يحكيها صوت هامس له جاذبية وحذق". ويستطرد معبّرًا عن شعور الانتصار الذي اعتراه فور إعلان حصول الفيلم على جائزة (الدب الذهبي)، قائلًا: "رسالة قوية نقية بلا شوائب وبلا إضافات لا طائل منها، تحطّم كل الأكاذيب والتحاملات المسبقة التي تحيط بالقضية الحقيقية... توقظ الوعي العام وتفتح عيون الناس". أما الصحافية ليديا تيلوتا Lidia Tilotta المختصّة ببرنامج يتعرّض لأخبار اللاجئين، والتي ساهمت في إعداد الكتاب بعد مقابلة أجرتها مع الطبيب، فتقول: "هذا الكتاب تسجيل لرواية شاهد عيان، نُقلت إلى الورق مثلما قيلت، بأبيضها وأسودها، بلا تنقية ولا زخرفة... ولم يكن ذلك سهلًا".
وبينما تعجّ شبكة المعلومات العالمية بمواد تحمد سيرته، يُبدع المترجم في نقل سيرته باحترافية بالغة، وهو الذي تذكر عنه الشبكة أيضًا أنه روائي ومترجم مصري، يطلّ من خلال شاشاتها لعرض موادّه الأدبية، ويحرص على أن يختصر اسمه الأوسط بحيث لا يُكتب اسمه كاملًا إلا بـ (محمد أ. جمال)، وذلك لتمييزه عن ملايين يحملون اسمه الأول والأخير معًا.
ومن السيرة التي جاءت في لغتها الأصلية بعنوان (Lacrime Di Sale) وهي تعرض محتواها فيما يقارب الصفحتين، أعرض في الأسطر التالية متفرقات عن صاحبها، مهنيًا وشخصيًا، وهي تحتوي على بعض الاقتباسات بما يخدم النص، مع كامل الاحترام لحقوق النشر:
ليس صحيحًا أن اعتياد تشريح الجثث يولّد شعورًا اعتياديًا نحوها، فالمهمة شاقة والألم المصاحب يستعصي على المزيد من التحمّل في كثير من الأحيان! فيوجّه الطبيب في (أمور لا تعتاد عليها) نوعًا من التوبيخ إلى من يظن بـ (روتينية) الفعل لا سيما من قِبل زملائه الأطباء، قائلًا: "أنت لا تعتاد أبدًا على رؤية أطفال موتى أو نساء لقين حتفهنّ أثناء الولادة على مركب يغرق، أطفالهن الصغار متدلين منهنّ بالحبال السرّية. لا تعتاد أبدًا على مهانة قصّ إصبع أو أذن جثة لتحليل شفرتها الجينية، حتى يصير للضحية اسم وهوية وليس مجرد رقم"... بينما تُصبح كل حقيبة خضراء تحمل جثة، بمثابة الحقيبة الأولى التي عليه شقّها بمشرطه، إذ أن "كل جثة تحمل علامات رحلتها الطويلة المؤسفة" حسب تعبيره المؤلم.
يتحدّث بيترو بارتولو، طبيب من جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، عن الجزيرة التي جعل منها نقطة تجمّع للاجئين الذين عقدوا الأمل على حياة خلف البحر فركبوه، حتى لَفَظَهم على شاطئه ولم يبتلعهم غدرًا كما غدرت بهم أوطانهم وابتزّهم المهربون فتوّلى مهمة استقبالهم |
يستمر الطبيب في (أمور لا تعتاد عليها) ليؤكد على أن ركوب البحر ليس هو العقبة الرئيسية في قرار اللاجئين، إنما الأخيرة! فبعد الهروب من الوطن واللجوء إلى الصحراء ابتداءً، تستعر أولى شرارات الجحيم! فشاحنة النصف نقل الصغيرة التي يُزّجون بها، والحرارة الخانقة، وخطر التعرّض للرمي خارجها لمجرد الجلوس بطريقة غير صحيحة ومواجهة الموت كنتيجة حتمية، والاضطرار إلى شرب الأبوال مع نفاد حصص المياه المخصصة... وغيرها من أشكال هوان يتم تكديسها حتى نقطة الوصول... "في النهاية تصل إلى ليبيا! تحسب الكابوس قد انتهى لكنه في الحقيقة بدأ للتو: معاملة سيئة، سجن، تعذيب. إن استطعت بشكل ما النجاة من كل هذا تصعد على متن القارب. حينها فقط، إن لم تمت في البحر الواسع واستطعت الوصول إلى وجهتك النهائية، بوسعك أن تأمل في حياة ربما تبدأ من جديد".
إن أقصى ما بيد الطبيب هو معالجة جراح الجسد، غير أن جراح الروح لا تُسعفها وصفة علاج ولا إجراء طبي! يقول هذا في (جروح لا تستطيع رؤيتها) وقد عاين شابًا نيجيريًا خسر خطيبته وأحلامهما التي نسجاها سوية بعد أن فقد (ذكورته) بجريمة بتر تعرّض لها - نكاية- على يد مجموعة من الأشقياء... وذلك عندما أخذوا بالتطاول عليه وعلى خطيبته بفظاظة وهما معًا في مكان ما، وبعد أن تصدّى لهم في حميّة!. يسأله المغدور في انكسار بعد أن قصّ عليه قصته بتفاصيلها المأساوية ما إذا كان من ثمة علاج يعيد له ما فقد غدرًا ويعيد له الحياة السعيدة من جديد! يقول الطبيب معقّبًا: "بحثتُ عن الشجاعة التي تمكنني من إخباره بالحقيقة وكدتُ ألّا أجدها! لم يكن هناك الكثير مما يمكن فعله له، حتى الأطراف الصناعية لن تفيد إلا في تحسين المظهر. لم يكن هناك أي ما يمكن قوله لإراحته أو لتشجيعه... في هذه اللحظة، شعرت أني بلا فائدة".
كذلك، يقابل الطبيب عائلات فلسطينية فرّت من الحرب الدامية في بلادها إلى سورية التي علقت في حرب لا تقل في ضراوتها عن حربهم، فاضطر أبناؤها لبدء دورة محنة ورحلة وحياة من جديد... أما العائلات السورية فوجدها الأشد مرارة في مواجهة حرب لم تكن في الحسبان، ما اضطر أفرادها للفرار بأرواحهم من وطن قد لا يستعيدون حياتهم فيه أبدًا... ويقابل أيضًا الكثير من اللاجئات المريضات اللاتي يطلبن منه وهن تحت الفحص بالأشعة فوق الصوتية طلبًا يكسر قلبه "إجهاض جنين لم يكن مجيئه نتيجة لحب، وإنما لاغتصاب"... فيذكر على سبيل المثال (قدس) اللاجئة النيجيرية ذات الخمسة عشر عامًا، وقد شكّت في حملها بينما نفت اغتصابها لا سيما من قِبل تجّار البشر الذين يبيعون النساء في سوق الدعارة! فيقول بعد التأكيد على عدم حملها وقد خضعت للفحص الطبي: "كان من الواضح للجميع أنها كذبت علينا! جسدها النحيل تعرض للاعتداء. أعتقد أن عدد النساء اللاتي يتعرضن للاعتداء الجنسي يتصاعد بشكل مفزع، خاصة وأن كثيرًا منهن تلقيّن حقن منع الحمل... وإن لم تكن الواحدة منهن حاملًا تصير أكثر ترددًا في الاعتراف بما عانت من وقوعه".
وفي (خيار لا رجعة فيه) يستقبل من خلال طائرة مروحية تابعة لجزيرة مالطا تسعة لاجئين أحياء تم توصيلهم بحقن الأوردة، وقد بدت بهم العيادة "كمستشفى ميداني ساعة حرب"، كان أشدّهم بؤسًا من نجا وحده دونًا عن بقية أفراد عائلته البالغ عددهم آنذاك اثنان وعشرون فردًا... ثم يعاين رجلًا سوريًّا ممدّدًا "يتدلى من وريده محقن" وتعكس عيناه نظرة خواء ما لها من قرار، وإلى جانبه زوجته... لا تختلف عيناها عن عينيه، وبحضنها طفلهما الرضيع ذو التسعة أشهر! لم يكن سر تلك النظرة سوى عذاب الضمير الذي اشتعل في صدره بعد أن قرر وهم يصارعون الموج إثر تحطّم القارب بإفلات يد ابنه ذي الثلاثة أعوام والذي كان متمسّكًا به، في تضحية من أجل إنقاذ طفله الرضيع المتعلق بصدره وزوجته معه، حيث الغرق لأربعتهم سيكون مصيرهم لا محالة لو استمر في خوض البحر ومعاندة أمواجه في محاولة لإنقاذ الجميع... "فتح يده اليمنى وأطلق سراح ابنه وشاهده يختفي أمام عينيه تحت الأمواج"، وما هي إلا دقائق حتى وصلت مروحيّات الإنقاذ! فلو تمسّك به للحظات لكان لا يزال بينهم... ثم يستمر الطبيب يروي ويروي، إذ لم تكن الجثث السبع التي حملها قارب الحارس المالي لميناء الجزيرة بمعيّة جثث أطفال أربع بدوا وكأنهم نائمين، سوى طبيب سوري وزوجته وأطفاله وستة من زملائه كانوا يعملون لديه في عيادته الخاصة قبل رحيلهم من وطنهم، وقد انقلب بهم القارب بعد إشرافهم على ولادة امرأة فاجأها المخاض في عرض البحر، حيث هرع الراكبون نحو المولود لرؤيته وقد تدافعوا فيما بينهم، ما أفقد القارب توازنه وغرق بمن عليه!
قد يكون من الصعب على الغير استيعاب قاعدة غير مكتوبة اعتنقها الطبيب ومن عاش مثله على جزيرة معزولة تنص على أنه "من غير المقبول - بل ليس من الوارد أصلًا- ترك إنسان آخر تحت رحمة الموج أيًّا كانت هويته"... ذلك "قانون البحر" الذي يبجّله الصيادون باحترام بالغ "إلى حدّ أنه بعدما منعت الحكومة الإيطالية انتشال المهاجرين من البحر إلى القوارب، يخالف الصيادون القانون باستمرار وينتهي بهم الحال دومًا في المحكمة". يقول الطبيب قوله هذا في (إرادة الموج) وهو يسرد قصة خاله الصيّاد الحاذق الذي جرف الموج قاربه إلى ميناء سوسة في تونس بعد أن تعرّض لأزمة قلبية مفاجئة أودت بحياته أثناء إبحاره، في مفارقة نحو قدره الذي شاء له أن يولد في سوسة ويموت فيها.
وبينما يتم استقبال عشرين طفلًا من اللاجئين مصابين بالجرب ما يستدعي مباشرة علاجهم على الفور، تنجم مشكلة بين الطبيب وبين كاهن أبرشية الجزيرة في ظل عدم توفرّ مكان ملائم لإسعافهم في حينها، الأمر الذي دعا الطبيب إلى مباشرة فحصهم في دورة المياه، حتى يتصالحا في النهاية وتتوطد بينهما علاقة متينة. يقود ذلك الموقف إلى طرح مسألة عقائدية تتأرجح بين الاعتقاد بإله من عدمه في خضم ما يأتي به القدر من شرور لا تنتهي، فيقول في (المشكلة ليست في الرب .. المشكلة في الإنسان): "كثيرًا ما يسألني البعض إن كان عملي مع اللاجئين قد زعزع إيماني بالرّب الذي يسمح بحدوث كل هذه المعاناة. الرب؟ ليس للرب علاقة بما يحدث... إن كان هناك من يُلام فهم البشر وليس الرب. البشر هم الجشعون الطماعون الذين يضعون ثقتهم فقط في المال والسلطة. أنا لا أتحدث عن المتاجرين بالبشر، وإنما عن أولئك الذين يسمحون بحدوث ذلك. أولئك الذين يرغبون في أن يعيش بقية العالم في فقر مدقع، الذين يغذّون الصراعات ويدعمونها ويمولونها! المشكلة في البشر وليست في الرب".
ختامًا... ما هي (دموع الملح) التي خصّها الطبيب لتصّف سيرته كاملة والتي ما ارتبطت سوى بدموع الآخرين؟ كانت تلك دموع والده الذي غلبه السرطان في آخر عمره، والذي ربّى وأمه سبعة أطفال من بينهم أخ معاق عقليًا، بمدخولهما المتواضع من مهنة الصيد صباحًا ومساءً، وأوصلا أحدهم إلى الجامعة حتى تخرّج طبيبًا وتزوج من حبيبته (ريتا) التي تخصصت في أمراض الدم... وحققا به رهانهما الوحيد! وقد ظل والده ذلك الصياد المتفاني في خدمة عائلته مقابل ضنك العيش، ورغم استصعاب الناس حالته الصحية المتدهورة، غير أن الصيد كان سلاحه الأوحد في مواجهة الوحش الذي كان يلتهمه ببطء، حسب تبريره!... يتذكره ابنه عندما كان يهرع لمساعدته كلما عاد بقاربه إلى الميناء محمّلًا بالوفير من الأسماك، فيقول عنه في (أبناء البحر ذاته): "عندما يعود للميناء بغنيمته، يكون وجهه عادة أبيض يغطيه الملح، تتناثر مياه البحر على الوجه الذي تحرقه الشمس وتترك خلفها قناعًا من الملح... قناعًا ينبئ ولا يخبئ، قناعًا يُظهر أصالة الوجود ولا يترك مجالًا للتزييف". وهو الآن يرى نفس القناع الملحيّ يغطي وجوه من رموا أنفسهم في دوامة البحر، جبرًا لا اختيارًا... فـ "أرى القناع نفسه على وجوه المهاجرين اليائسين، الذين قضوا أيامًا طوالًا في البحر، تتقاذفهم الأمواج... كلما رأيتهم بهذا الحال، أفكر في أبي .. كلهم أبناء البحر ذاته"... كانوا كأبيه، يصلون متعبين لكن غير مهزومين، فقد قرروا العيش مهما كان... حيث "كان أبي يعود للبيت كل مرة متعبًا، لكنه لم يعد مهزومًا قط... الآلام التي يشعر بها تزداد سوءًا، والدموع التي تجد لها مسارًا أحيانًا على وجنتيه، تتحلّل ويبقى ملحها على بشرته... كانت تلك هي دموع الملح".