}

عن أفلاطون والمحاكاة

فيليب غرانارولو 19 نوفمبر 2024
ترجمات عن أفلاطون والمحاكاة
(Getty)


ترجمة وتقديم: 
إسكندر حبش


مقدمة

السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن هو التالي: أليس من العبث أن نرغب في إعادة قراءة أفلاطون لكي نبني تفكيرنا بشكل أفضل على الواقع الافتراضي الذي يكتسب المزيد من الأرض كل يوم؟ هل أن العودة إلى خمسة وعشرين قرنا إلى الوراء، يشكّل فعلًا النهج المعقول عندما يتعلق الأمر بإخضاع الحقائق غير المسبوقة للتحليل، والتي يبدو أنه ليس لها مثيل في تاريخ البشرية؟

عديدون هم الفلاسفة الذين يعيدون اليوم قراءة واقعنا الراهن، عبر العودة إلى الفلسفة الإغريقية، وكأنهم بذلك، لا يحاولون فقط ربط عصور الفكر ببعضها البعض، بل أيضًا محاولة تقديم فكرة أن الفلسفة ليست في النهاية سوى هذه السلسلة المترابطة، التي نجدها منذ البدايات ولغاية الآن. بمعنى آخر، إن الاهتمام بالفلسفة الحيّة يكمن جزئيًا في الإجابة على هذه الأسئلة.

هذه المحاولة في الإجابة، نجدها عند الفيلسوف الفرنسي فيليب غرانارولو، وهو حاصل على دكتوراه في الآداب والأغريغاسيون في الفلسفة. مارس التدريس في عدد من الثانويات والجامعات، ومتخصص في فلسفة نيتشه، الذي كتب عنه العديد من الأعمال، لعل أبرزها "نيتشه: خمسة سيناريوهات للمستقبل" (Les Belles Lettres، 2014).

مقالته هذه التي نترجمها هنا، كانت صدرت في مجلة "i.Philo " بتاريخ 5- 12- 2013.

النص

النسخة الجيدة أو "الأيقونة" (icône)، من الكلمة اليونانية القديمة eikon والتي تعني "صورة"، تتعارض مع النسخة السيئة، من الكلمة اليونانية القديمة eidolon والتي يمكن ترجمتها إلى محاكاة "simulacrum". وحتى لو كان ذلك يعني تبسيط الصورة إلى حدّ ما، يمكننا القول منذ البداية أن أفلاطون يستنكر "الإيدولون" ويمتدح "الإيكون".

لكننا نواجه على الفور مفارقة أولى: لإدانة الصور الزائفة، يجب علينا أن نفترض أن الواقع نفسه "زائف" بمعنى ما، وأنه مجرد نسخة غير كاملة من الأصل، وليس الواقع نفسه. ولذلك ينبغي لنا أن نشارك أطروحة أفلاطون المثالية.

اليوم نحب أن نتحدث عن "الافتراضي". وهو ما يقودنا إلى مفارقة ثانية: "ما هو افتراضي هو ذلك الذي، من دون أن يكون حقيقيًا، يتمتع بالقوة وبطريقة فعلية تمامًا (أي غير محتملة)، بصفات (خصائص، كواليا) الواقعي" (كما يقول دوني بيرتييه، Denis Berthier). يعتمد هذا التعريف على أصل الكلمة (من اللاتينية virtus -virtue-)، وكذلك على الاستخدامات التقنية للمصطلح في تعبيرات مثل الصورة الافتراضية، والواقع الافتراضي، والبيئة الافتراضية، وما إلى ذلك.

النموذج الأولي للافتراضي هو الانعكاس في المرآة. إن انعكاس الشيء موجود بالفعل، سواء كنت هناك لأدركه أم لا. ولذلك فإن له حقيقة "في حدّ ذاته". نحن نفهم بسهولة في نفس الوقت أن التأثيرات الحقيقية يمكن أن تنتج عن كائن افتراضي، بحيث يكون الإدراك الذي لدينا عنه وعلاقتنا الكاملة به حقيقيًا جدًا، تمامًا مثل الانعكاس في المجال البصري أو الصدى في المجال السمعي. وهكذا نفهم أنه يمكننا استخدام الواقع الافتراضي لعلاج الرهاب على سبيل المثال. وتكمن أهمية هذا التعريف في أنه يؤكد على الافتراضي باعتباره تجربة حقيقية وفعلية، وليس تجربة محتملة. ويجب أن نضيف إليها أنها تجربة تتوسطها دائمًا واجهة تقنية.

دعونا نعود إلى تمييزنا الأولي بين الأيقونات والمحاكاة.

قادت الجماليا (الاستيتيقا) أفلاطون إلى الاعتراف بالفنون فقط بنسخة من النموذج المثالي (لفكرة)، نسخة أمينة بما يكفي لتعكس (ضمن حدود العالم المعقول) الأصل، وصادقة بما يكفي لجعله واضحًا. أنها مجرد نسخة. وهذا هو السبب الرئيسي الذي جعل أفلاطون، على الرغم من احترامه للفن المصري، لا يكنّ لديه سوى ازدراء الفنانين اليونانيين في عصره.

دعونا لا ننسى أن عصر أفلاطون كان عصر اختراع الخداع البصري، ووهم العمق من خلال لعبة الضوء والظل. ومن خلال التحسن الفني، أنتج الفن اليوناني أشياء كان من الصعب على نحو متزايد تمييزها عن الأشياء الحقيقية. في نظر أفلاطون، هذه التطورات، التي أُعجب بها عمومًا باعتبارها مراحل حاسمة في تاريخ الرسم، جعلت الفن بشكل غير محسوس دواءً، أو منبهًا، أو "فارماكون" (كلمة تعني اللون والمخدر معًا في اللغة اليونانية)، وهو التناقض أو الازدواجية إذا أردتم، الذي لم يفشل أفلاطون في استغلاله.

إن إدمان المراهقين لدينا، ولكن أيضًا عدد لا بأس به من البالغين، لألعاب الفيديو، والشبكات الاجتماعية على شبكة الإنترنت، هو دليل على الوضوح الأفلاطوني (Getty)


إن "الأصنام" التي ينتجها الفن تستحق الإدانة بمجرد أن تصبح صورًا زائفة، أي كائنات تنتج الوهم. على عكس النسخة التي تظهر كنسخة، فإن المحاكاة هي نسخة تبذل قصارى جهدها بحيث لا يمكن تمييزها عن الأصل. إن المحاكاة تقلب الترتيب الوجودي الذي يجب أن يرفعنا من النسخة إلى النموذج، من خلال توريطنا في علاقة النسخة بالنسخة. هذا الإنتاج للصور المضللة، هذا الوهم، يميّز كلًا من الرسام، منتج الصور المحاكاة، والسفسطائي، مبتكر الخطابات الكاذبة، والذي يربطه أفلاطون بانتظام في حواراته. عالم المكياج، عالم التزوير: الأشياء الزائفة، المعرفة الزائفة.

يدين أفلاطون المسرح بشدة لنفس السبب: المسرح لا يكتفي بمحاكاة عالم الأحاسيس (من خلال أزيائه، وديكوراته)، بل يحاكي عالم المشاعر (العواطف، البطولة، الفرح، الألم... إلخ). روسو، في رسالته إلى دالمبير، تناول الإدانة الأفلاطونية: "الأداة الوحيدة التي تعمل على تنقية المشاعر هي العقل، والعقل ليس له أي تأثير في المسرح"، كما كتب.

قد تبدو الإدانة الأفلاطونية مفرطة، وكثيرًا ما تمت محاكمتها. ومع ذلك، ألا ينبغي لنا أن نلاحظ أنها تأخذ معنى جديدًا، وقوة لا مثيل لها، في القرن العشرين، بل وأكثر من ذلك في القرن الحادي والعشرين، أي في الوقت الذي تتضاعف فيه صور المحاكاة بشكل كبير، عصر "المجتمع المشهد" (غي ديبور)، والتلفزيون، والصور المجسمة، وألعاب تمثيل الأدوار على الإنترنت، وما إلى ذلك... وما إلى ذلك؟ لاحظ فنسنت ديكومب هذا في عمله الصغير بعنوان الأفلاطونية (P.U.F., 1985): "ليست نسخة ولا نموذجًا، فالمحاكاة هي رفض التمييز بين الأصل وتقليده". وقد سبقه جيل دولوز الذي عبّر عن نفسه بهذه المصطلحات في منطق الحواس (Éditions de Minuit, 1969): "هناك في المحاكاة صيرورة مجنونة، صيرورة غير محدودة، صيرورة تخريبية، بارعة في التهرب من المتساوي، من الحد، من المماثل".

لقد دخلنا عالم المحاكاة هذا الذي أعلن عنه أفلاطون: إن إدمان المراهقين لدينا، ولكن أيضًا عدد لا بأس به من البالغين، لألعاب الفيديو، والشبكات الاجتماعية على شبكة الإنترنت، هو دليل على الوضوح الأفلاطوني. إن خلق عالم حساس مصقول، أكثر "كمالًا" من العالم الحساس "الحقيقي" (دعونا نفكر في صور عارضات الأزياء في مجلاتنا وفي إعلاناتنا)، يسجن الموضوع في شبكة يصعب تمزيقها إربًا.

ولكن إذا ما اتبعنا أفلاطون، ألا ينبغي لنا أيضًا أن ندين الفنون في نفس الوقت الذي ندين فيه الحقائق الافتراضية التي تطغى علينا؟ هل يمكننا إدانة المحاكاة من دون مشاركة الإدانة الأفلاطونية للفن؟ إنه سؤال صعب بالفعل.

في تاريخ الأفكار، استمرت مسألة المحاكاة في الظهور مرة أخرى مثل هاجس بين جميع أولئك الذين وضعوا الجمال في قلب تأملاتهم.  وإلا فإن المحاكاة ليست سوى تكرار بسيط للواقع المعقول، وسيكون من السهل إظهار أن الفن لم يكن أبدًا بهذه الازدواجية. طوال تاريخ الفن، ساهمت الأعراف والمصنوعات والتقنيات في إنتاج أعمال لم تكن أبدًا تكرارًا خالصًا وبسيطًا للواقع المعقول. وإلا فإن المحاكاة هي إنتاج لموضوع حساس داخل العالم الحساس، إنها شعرية تكون إما في انسجام أو قطيعة مع إبداعات الطبيعة. ومن ثم يصبح من الواضح أن المفهوم الأفلاطوني للفن أعمق ممّا يبدو للوهلة الأولى.

ثمة ثلاثة تكوينات رئيسية تظهر عندئذ:

(1) جمال العالم "الكون" هو جمال الانعكاس، جمال النسخة. نهاية الفن تتجاوز جمال المحسوس، فمن خلال المحسوس يكون واقعا متفوقا يستهدف (رغم كل ما يميزهم، فإن أفلاطون وكانط وهيغل يجسدون هذا التكوين الأول).

(2) جمال الفن يتعارض مع قبح العالم. إن اكتشافات العلم وتطور الإلحاد يقودنا إلى الاعتقاد بأن العالم قبيح، بلا نظام، بلا انسجام، بلا نهاية. آلة سخيفة تجعل السعي البشري مثير للسخرية. فالجمال الذي يستهدفه الفن هو إذًا خلق خالص، بلا نموذج. نهاية الفن تكمن في الإحساس، فيغمره بالتناغم الذي حرم منه. يُعدّ بودلير أحد أبرز ممثلي هذا التكوين الثاني الخاص بالحداثة: كتب: "الطبيعة قبيحة، وأنا أفضل وحوش خيالي على التفاهة الإيجابية". ثم تحرك المحدثون في اتجاه بطولة الخلق: ألفريد دي فينيي، وأندريه مالرو، وألبير كامو. أي اختراع بشري يتفوق على الطبيعة: يحيا الافتراضي!

(3) جمال العالم حقيقي جدًا، لكنه ليس جمال الانعكاس بأي حال من الأحوال. هذا ما قاله فريدريش نيتشه: "المظهر بالنسبة لي هو الحياة والفعل نفسه، الحياة التي تسخر من نفسها بما يكفي لتجعلني أشعر أنه لا يوجد شيء هناك سوى المظهر، والإرادة، ورقصة الجن وأكثر من ذلك" (المعرفة الجذلة، المقطع 54، "الوعي والمظهر").

مع نيتشه، ولكن أيضًا مع معاصرنا مارسيل كونشي الذي بنى في عمله "بيرون أو المظهر" مفهوم "المظهر المطلق"، لم يعد هناك أدنى مكان للتمييز بين الوجود والظهور. ونتيجة لذلك، انهارت المعارضة الأفلاطونية. فهل يغرق كل شيء إذًا في اللامبالاة العدمية؟ لا بالطبع. ومع ذلك، يجب على الفيلسوف بعد ذلك بناء معايير أخرى تجعل من الممكن إعطاء الأولوية لـ"الحقائق" أو "المظاهر" (كما يرغب المرء). لكن عرض هذه المعايير لا يمكن أن يقع ضمن نطاق هذا العرض الموجز. 

 

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
19 نوفمبر 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.