}

هل يمكنُ للكتابة أن تجعلنا في صحّة أفضل؟

ديفيد روبسُن 6 يونيو 2024
ترجمات هل يمكنُ للكتابة أن تجعلنا في صحّة أفضل؟
(Getty)


ترجمة: لطفية الدليمي

مثلَ كثيرين من رفقائي المراهقين، غالبًا ما شعرتُ في سنوات مراهقتي أنّ كرّاسة يومياتي هي الصديق الأقرب لي. كنتُ في سنوات المراهقة أنسحبُ إلى غرفة نومي وأنا بمزاج معتلّ؛ لكن حالما كانت العبارات التي أكتبها في كرّاسة اليوميات تتّخذ شكلها المطلوب على الورقة فإنّ المشكلة التي كنتُ رازحًا تحت عبئها الثقيل، وبغضّ النظر عن مدى رؤيتي لها بكونها أقرب لمعضلة كارثية وجودية عظمى، كانت تتبدّدُ وتتلاشى من عقلي. لم أكن بالتأكيد قادرًا على تصفير كلّ حزن أو جعله منسيًا في العدم؛ لكنّي في الأقل كنتُ أشعر عقب ممارسة كتابة يومياتي بأنني أكثر هدوءًا، كما لو أنّ همًّا ثقيلًا انزاح عن صدري.

مثل هذه البرهات المدهشة التي جلبتها لي الكتابة دومًا ما ترافقت في عقلي بمشهد في أحد أجزاء رواية هاري بوتر، وهو الجزء المسمّى هاري بوتر وكأس النار Harry Potter and the Goblet of Fire، وفيه يعمدُ مدير المدرسة في منطقة هوغوارتز، ألبوس دمبلدور، إلى استخلاص الذكريات الحزينة والمشوّشة لسكينة الروح بواسطة عصاه السحرية ويضعها في وعاء ضحل رقيق يدعى "المفكّر"، وهذا المفكّر هو ما يجعله يرى الأمور بطريقة أكثر عقلانية وبعيدَا عن العاطفة المتأججة. الكتابة بالنسبة لي وفّرت راحة وسكينة لعقلي وروحي مثلما فعلت عصا دمبلدور السحرية.    

كُتّابُ اليوميات، عبر التاريخ، اختبروا الحالة ذاتها من السكينة. "عندما أكتب أستطيعُ إيقاف كلّ ما هو مبعث قلق لي. حينها تختفي أحزاني، وتحلّق روحي بعد أن تستعيد صفاءها وألقها": هذا ما اختبرته آن فرانك** وكتبت عنه. أما بقدر ما يختصُّ الأمر بي ككاتب خيال علمي فلطالما ملأتني السعادة كلّما اكتشفتُ أنّ ممارستي الكتابية لم تسهمْ في تسكين روحي المضطربة فحسب، بل تستطيع الارتقاء بأحوالنا الجسدية كذلك.

البروفسور جيمس بنبيكر وطالبته خريجة الدراسات العليا ساندرا بيل كانا أوّل من قدّم عرضًا لهذه الحقيقة في ثمانينيات القرن العشرين. طلب الاثنان من مجموعة طلبة كتابة مقالة قصيرة تستغرق خمس عشرة دقيقة لأربعة أيام متتالية. البعضُ من المشاركين تشجّعوا للكتابة عن "التجربة الأكثر إيلامًا وتعويقًا لحياتهم"، وقد ساعدتهم هذه التجربة الكتابية غير المسبوقة بالنسبة لهم على استكشاف عمق الأفكار والمشاعر الخبيئة في عقولهم وأرواحهم. آخرون من المشاركين طُلِب إليهم الكتابة عن موضوعات بديهية وعادية للغاية مثل وصف غرف النوم التي ينامون فيها أو الأحذية التي يرتدونها. الطلبة في المجموعة الأولى وصفوا مشاعر الذنب التي تلبّستهم بسبب موت جدّة لأحدهم مثلًا، أو مشاعر الغضب بسبب طلاق أبويهم، أو مشاعر العذاب بسبب أوضاعهم الجنسية. عملية مواجهة هؤلاء لمشاعرهم الحقيقية لم تكن بالأمر اليسير، والعديد منهم غادروا مختبر الدكتور بنبيكير- حيث تجري اختبارات الكتابة- وهم يشعرون بحزن أقوى ممّا كانوا عليه ساعة دخلوا المختبر وشرعوا في الكتابة. لكنّ الغريب في الأمر، وبرغم حقيقة حزنهم البيّن، أنّ هؤلاء وعلى مدى الستة شهور اللاحقة قاموا بعدد من المراجعات للمركز الصحي الطلابي يقاربُ نصف عدد زيارات الطلبة من المجاميع الأخرى (تسمّى المجموعة الضابطة Control Group التي كتب أفرادها عن موضوعات عادية ليس منها الذكريات الحزينة والمعيقة).

قد يبدو هذا الأمر أقرب إلى سحر عصيّ على التصديق؛ لكنّ الكَرَبَ الانفعالي - من أيّ نوع كان- يمكن أن يدمّر النظام المناعي للانسان. المعنى الدقيق والواضح لهذا الأمر هو أنّ الضغط الانفعالي له مفاعيله السيئة على الجهاز المناعي من حيث إنه يجعله أقلّ كفاءة في التعامل مع العلل الالتهابية Infection. هنا مكمن السحر في قدرة الكتابة التعبيرية على التأثير في أنفسنا وأرواحنا: لو أنّ الكتابة التعبيرية استطاعت آخر المطاف جعلنا أكثر هدوءًا وتناغمًا مع أرواحنا فيمكن لها - الكتابة التعبيرية- حينئذ أن تستعيد قدرات دفاعاتنا الجسدية (أو بكلمات تقنية واضحة: نظامنا المناعي) وتجعلها تعمل بكامل طاقتها، وهذا هو بالضبط ما كشفت عنه دراسة البروفسور بينبيكر وزملاؤه مستعينين باختبارات الدم. بيّنت الاختبارات أنّ أفراد المجموعة الذين عبّروا عن مشاعرهم الدفينة لأربعة أيام متتالية صارت كريات الدم البيضاء لديهم تشهد تكاثرًا بمعدّل أسرع كاستجابة للغزاة الاجانب (فايروسات أو بكتيريا مرضية...). بالإضافة إلى هذا الأمر كشفت دراسات لاحقة أنّ الكتابة التعبيرية تستطيع التعجيل بزمن التعافي عقب عملية أخذ خزعة Biopsy، فضلًا عن أنها تبدو قادرة على تخفيض ضغط الدم وتحسين كفاءة عمل الرئة.

قد تكون العلاقة بين الإجهاد Stress والمرض واضحة؛ لكنّ ما ليس له وضوح مماثل هو قدرة الكتابة على امتلاك خاصية تطهّرية cathartic. هذا سؤال عصيّ على الإجابة السهلة الميسّرة أو الاختزالية. أحد الاحتمالات الممكنة هو أنّ تفريغ عقولنا من أفكار معيقة لنا عبر كتابتها يتيحُ لعقولنا قدرة إضافية - كانت معطّلة فيما سبق- في التفكير بموضوعات جديدة. يمكن وضع هذه الحقيقة موضع الاختبار بطريقة بسيطة للغاية: نعرف من خبرتنا اليومية أنّ كتابة لائحة بما نريد فعله -لائحة تسوّق مثلًا أو واجبات منزلية أو وظيفية- أمرٌ من شأنه تحرير القدرات الإدراكية من الضغوط المباشرة وجعلها تتفرّغ للتعامل مع فعاليات أخرى أكثر أهمية من الفعاليات اليومية العادية والبديهية. التسويغ بسيط: عندما نكتب مثل هذه اللائحة فإنّنا نعمل على تقليل حجم المعلومات التي تجول في عقولنا. هذا الفعل - تسجيل لائحة يومية بالمهام المطلوبة- يخفّف الإجهاد، ولو حصل أننا كتبنا لائحة بالمهام المطلوبة منّا في اليوم التالي قبل النوم فيمكن لهذا الفعل أن يحسّن نومنا كثيرًا.

ديفيد روبسُن هو مؤلف لكتب عديدة آخرها: The Expectation Effect


الكتابة التعبيرية يمكن أن تكون لها القدرة ذاتها في تخفيف العبء الواقع على عقولنا عبر تقليل مناسيب الاجترار السلبي للأفكار، ومن ثمّ تحرير الذاكرة الفعّالة من هذا العبء وتخصيصها للتعامل مع الأفكار والأشياء الأكثر أهمية من القضايا العادية والبديهية واليومية العابرة. هذه الحقيقة تتماشى مع تجربتي الشخصية. عندما أشعرُ بأنني واقعٌ تحت عبء إجهاد يجعلني مكتئبًا فحينها كلّ مصادر قلقي وتوجّسي تتجمّعُ في مركز عقلي وتصدّني عن أي مصدر من مصادر البهجة التي أعرفها - مثل القراءة-؛ لكن بعد أن أكتب بعض الشيء في كراسة يومياتي تبدأ شياطين الكآبة والإجهاد في عقلي بالتراجع نحو مواقع خلفية بعد أن أكون قد حجبت عنها الاهتمام الذي كان مستوليًا على عقلي قبل الشروع بالكتابة.

ثمة أمر مماثل في أهميته لما سبق. كتابةُ ما يبعث على قلقنا وتوجّساتنا يمكن أن يخلق فينا حسًّا من التباعد النفسي Psychological Distance؛ الأمر الذي يتيحُ لنا اتخاذ موقف أفضل تسويغًا من حيث المقاربة الفلسفية تجاه معضلاتنا.

لو أنّنا على سبيل المثال تأمّلنا في الأذى الذي سبّبه آخرون لنا فقد يكون من الأيسر لنا - بدلًا من التفكير المباشر في وجهة نظرنا- أن نفكّر في وجهات نظر المسبّبين لتلك الآلام لنا، أو أن نفكّر في الدرس المستفاد من تلك التجربة والذي قد يساعدنا في التصرّف بطريقة أفضل في المستقبل.

بالإضافة إلى كلّ ما سبق ربّما نكون قادرين في بعض الحالات على رؤية الجوانب الفكاهية من الموضوعات، أو على الأقل يمكنُ لنا أن نتحمّل مسؤولية ما حصل لنا بطريقة تبعدنا عن التفكير بالمآلات السيئة وتجعل الموضوع كله أخف وطأة. كتبت نورا إيفرون Nora Ephron في هذا الشأن: "عندما تنزلق على الأرض بفعل قشرة موز فإنّ الناس يتضاحكون على سقطتك؛ لكن عندما تكتب عن واقعة سقطتك وتخبر الناس عنها بذاتك فحينئذ يكون الضحك نصيبك أنت وحدك". الكتابة التعبيرية لها هذه القدرة العظيمة في مساعدتنا على حيازة هذا التحوّل العقلي في حياتنا الشخصية.

ليس مِنْ طريقة كتابية مفردة ووحيدة تصلح للجميع. الكتابة التعبيرية ليست سوى وسيلة واحدة بين وسائل عدّة، وقد يجد عديدون منّا فكرة كتابة ما يعيق أرواحهم وعقولهم أو يستثيرها أمرًا محبطًا لهم؛ لكن لو أردتَ ضمّ الكتابة إلى مجموعة أدواتك العقلية الشخصية فثمّة بعض الطرق - المؤسسة على شواهد متراكمة- يمكنها تعظيم الفوائد المتحصّلة من هذه الفعالية الكتابية.

من غير المجازفة بخسارة الكثير من تلقائية الكتابة، فمن الأفضل أن تسعى لأن تمنح كتابتك هيكلًا سرديًا، كأنْ تقدّم صورة للخلفية الذهنية والمادية لما تكتب بشأنه مترافقًا مع سلسلة الوقائع التي قادت إليه. هذا أوّل المتطلّبات. الأمر الثاني: كن دقيقًا بشأن المشاعر التي تختبرها وقت الكتابة. أهي اضطراب أم إحباط؟ أهي خيبة أمل أم تحرّر من أوهام سيطرت على حياتك؟ إنّ فعل تشخيص وتحديد وتبئير هذه المشاعر بكيفية دقيقة يمكن أن يجعل بصيرتك أكثر شفافية ومقدرة في ولوج المناطق البعيدة من عقلك. ثالثًا وأخيرًا: تفكّرْ في كيف أنّ الحالة التي تكتب عنها تؤكّدُ خواصك الطيّبة والأفكار والأشياء التي تقدّرُها أكثر من سواها. قد تكون تكتبُ بشأن صلابتك النفسية، أو لطفك وتعاطفك مع الآخرين، أو قد تصبح مدركًا وعلى نحو فجائي لأهمية صداقات محدّدة في حياتك. لو كنتَ قلقًا على نحو مكثّفٍ قبل الشروع بالكتابة فيمكنك أن تختار رسالة من صديق لك يمنحك فيها نصيحة طيّبة لتكون مدخلًا ليومياتك. هذا التمرين الكتابي له القدرة على تعزيز منسوب التعاطف الذاتي فيك ومن ثمّ يقود إلى تخفيض مناسيب الإجهاد والكَرْب.

إلى جانب كلّ ما ذكرتُ بشأن كتابة اليوميات فإنني أجدُ فائدة كبرى في تدوين تلك اللحظات السعيدة والمبهجة من حياتي. قد يكون قلقي عندما كنتُ مراهقًا قد مضى بعيدًا ورائي وغاب في الأفق البعيد؛ لكنّ تدوين يومياتي لم يزل مصدر سلوى لي، ومع تعاظم معرفتي بالأدب النفسي فقد باتت لي القدرة اليوم على توظيف هذه اليوميات لتحقيق الغاية القصوى المتوخّاة منها. في أيّ وقت أشعر فيه بقلّة حيلتي وطغيان حالة الكرْب والإجهاد على عقلي وروحي فإنّ بضع دقائق أقضيها في الكتابة كفيلةٌ باستعادة شعوري بأنّ العالم لم يزل مكانًا يمكن التعامل معه مهما كانت وسائلنا محدودة وفقيرة الإمكانات.


قراءات إضافية:
    

 - Opening Up by Writing It Down by James W Pennebaker and Joshua M Smyth (Guilford)
- The Extended Mind: The Power of Thinking Outside the Brain by Annie Murphy Paul (Mariner)
- Write It All Down: How to Put Your Life on the Page by Cathy Rentzenbrink (Bluebird)

  

*ديفيد روبسُن David Robson: حاصل على درجة جامعية (بكالوريوس) في الرياضيات من جامعة كامبردج. متخصص في الكتابة عن الحالات المتطرّفة في الدماغ والجسد والسلوك البشري. يكتب في مواقع ومدوّنات عالمية مهمة فضلًا عن صحف عالمية مثل "غارديان" و"أتلانتك". وهو مؤلف لكتب عديدة آخرها: The Expectation Effect: How Your Mindset Can Transform Your Life

** آن فرانك Ann Frank: كاتبة ألمانية تعدُّ مذكراتها عن الحرب والمعنونة بـ"يوميات فتاة صغيرة" مصدرًا للعديد من المسرحيات والأفلام (المترجمة).

الموضوع المترجم أعلاه منشور في صحيفة "غارديان" البريطانية بتاريخ 24 نيسان/ أبريل 2023 ضمن سلسلة The Big Idea الأسبوعية. العنوان الأصلي للموضوع باللغة الإنكليزية هو:

Can writing make you healthier?

  

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.