ترجمة: لطفية الدليمي
لديّ أفكارٌ متصارعة بشأن تناسي الماضي وقمع المشاعر السلبية. هل أنّ توثيق تجاربنا السيئة عن طريق الكتابة الشخصية، أو اليوميات، أو الشعر يساعدُنا حقًا على المدى الطويل؟...
جوناثان دي (1962- .....)
روائي وكاتب أميركي
اعتمد الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط معظم حياته على خادم رجل يعتني بشؤونه المنزلية. كان اسمُ الرجل مارتن لامب، وقد عُني به كانط عناية كبرى واهتمّ بأدق تفاصيل معيشه اليومي. عُرِفَ عن كانط صرامتُهُ وتقشّفُهُ؛ لذا فإنّ رعايته الاستثنائية لخادمه لم تكن لتنسيه كونه فيلسوفًا تتأسّسُ فلسفته الكاملة على فعل الأمر الصائب. لأربعين سنة حافظ الاثنان (الفيلسوف وخادمه) على مواثيق العلاقة الطيبة بينهما حتى اشتبكت حياة أحدهما بالآخر اشتباكًا وثيقًا يكاد يستحيلُ معه فكّ الروابط المتينة بينهما. حافظ كلّ منهما (كانط: الفيلسوف ذو المزاج الصارم، وخادمُهُ المخلص في أداء واجباته إلى أبعد حدود الإخلاص) على ديمومة العلاقة الوثقى بينهما؛ لكن حصل يومًا ما أن انقلبت موازينُ العلاقة الطيبة التي تجمعهما لسبب غير معروف بالتحديد. التاريخ من جانبه لا يقدّمُ لنا تسويغًا قاطعًا بشأن التفاصيل التي أطاحت علاقة الود المتبادل بينهما، ربما قد يكون أحد الأسباب ثمالة جاوزت الحدود المقبولة أو فعل سرقة من جانب الخادم. كان الفعل من السوء بحيث لم يبق أمام كانط من سبيل سوى صرف خادمه. هذه الفعلة قادت كانط لأن يستحيل كائنًا محطّمًا. العيش المستديم لأربعين سنة غير منقطعة مع إنسان آخر هو أمرٌ أقربُ لعلاقة محبّة متأصلة، وصرفُ مارتن الخادم كان أقرب لعملية طلاق بين زوجين؛ لذا عمد كانط إلى كتابة ملحوظة على قصاصة من الورق وضعها أمام ناظريه على مكتبه لتكون مرئية له دومًا. كتب على القصاصة "إنسَ مارتن"؛ لكنه لم يستطعْ نسيان مارتن أبدًا.
قد يبدو الأمر مع ما فعله كانط سخيفًا، وهو بالطبع كذلك. أنت لن تستطيع بسهولة دفعَ ذاتك لنسيان شيء ما أو أحدٍ ما. الحقيقة هي أنّك كلما جاهدتَ أكثر في فعل النسيان فسيكون الأمر أشقّ عليك؛ لكنّك تستطيعُ في أقلّ الأفعال الممكنة أن تكبح نفسك عن إعادة بثّ الحياة في ذكرياتك التي تبتغي نسيانها. عندما يحصل لك أمرٌ سيء، حتى لو بلغ حدّ الصدمة القاسية، فكم يتوجّبُ عليك محاولةُ المضي في حياتك من غير تلفّت إلى الماضي؟ وكم يتوجّبُ عليك محاولة فكّ ارتباطك بذلك الماضي المكتنف بالصدمات النفسية القاسية؟ ليست لديّ شهادة جامعية في علم النفس، ولستُ معالجًا نفسيًا؛ لذا سأعتمدُ مقاربة فلسفية في معالجة هذه المعضلة وسأطرحُ سؤالًا: كم هي أهمية ماضينا بالنسبة لمستقبلنا؟ هل كان يتوجّبُ على كانط محاولةُ نسيان مارتن أم حملُ ذاكرته المؤلمة لتصبح جزءًا لا ينفصل من كينونته؟ هل يتوجّبُ على الكاتب جوناثان دي (الذي اقتبستُ منه في مفتتح مقالتي هذه) أن يتخلى عن ماضيه أم أن ينقّبَ في أعماقه ليواجه أحداثًا ماكثة في قعر النسيان؟
لكي نجيب على أمثال هذه التساؤلات (ولها نظائر عديدة بالتأكيد) سننظرُ مليًّا في جوابيْن مختلفيْن ومتقاطعيْن بكيفية متطرفة. الجواب الأول يقدّمه لنا فريدريك نيتشه، الذي يرى بأنّ التناسي، أحيانًا، هو فعلٌ ينطوي على خلق الذات Self-Creation. الجواب الثاني يقدّمه لنا إدموند برك Edmund Burke، وهو جواب مثير للفضول وربما يمثلُ رأيًا يحتملُ محاججة إشكالية. يرى برك أنّ إعادة بعث الحياة في ماضينا، أحيانًا، هي تجربة محبّبة وتستحقُّ عبء محاولة تجربتها.
نيتشه: عِشْ مثل الحيوانات
للفلاسفة علاقة مدهشة مثيرة للفضول مع الحيوانات. بعض الفلاسفة مثل جون ستِوارت مِلْ يرون الحيوانات مصدرًا باعثًا على الشفقة. عندما كتب مِلْ: "من الأفضل للمرء أن يكون إنسانًا غير راضٍ بحياته من أن يكون خنزيرًا سعيدًا بحياته"، فهو إنّما كان يحاججُ بأنّ الذكاء البشري والمَلَكات العقلية العليا للإنسان هي ما يمكنُ أن تجعلنا سعداء بطريقة فائقة للتصوّر؛ لكن في ذات الوقت الذي أورد فيه مِل ملاحظته السابقة كان نيتشه يقدّمُ أطروحة حجاجية مناقضة تمامًا لأطروحة ملْ. كتبَ نيتشه في هذا الشأن:
"راقب الماشية التي تعتاشُ على العشب القريب منك. إنها لا تعرفُ ما عساه الأمس أو اليوم أن يكونا. إنها تتنقّلُ في المكان بحريتها الكاملة، تأكل، ترتاح، تهضم ما أكلت، ثم تعيد الكرّة متى ما شاءت من الصباح إلى المساء وعلى مدار كلّ الأيام. كلّ ما تحبّه أو تكرهه منوطٌ بصورة وثيقة مع حالها في لحظتها الحاضرة التي تعيشها. لا تعرف الكآبة السوداوية (الميلانخوليا) أو الإرهاق النفسي طريقًا إليها. أن يكون الإنسان شاهدًا على هذه الحالة أمرٌ عسيرٌ عليه لأنّه عزّز في دواخله فكرة أنّ الإنسان أفضل من الحيوان؛ وبرغم ذلك ترى الإنسان ينظر إلى الحيوان بنظرة حاسدة مَردُّها سعادة الأخير".
توجد حالةٌ من الراهنية الداخلية في عيش اللحظة الحاضرة لدى الحيوان. الحيوانات ليست مهمومة بقلق الماضي، وهي لا تهتمُ بأخطاء الماضي والمنعطفات غير الصائبة في تاريخها. هي لا تدرك شيئًا سوى المضي قدمًا في حياتها. الحيوانات لا تحني أجسادها حتى تلامس الأرض بسبب "العبء المظلم وغير المنظور" لذاكرتها، وبدلًا من ذلك هي تعيشُ ما يدعوه نيتشه "نمطًا لا تاريخيًا". التاريخ ليس بذي قيمة لها. بالطبع ما مِنْ أحدٍ يستطيع عيش حياة ذات معنى من غير تذكّر أشياء أو وقائع محدّدة إلى حدودٍ ما في الأقلّ مهما تضاءلت تلك الحدود. الأبقار قد تقضي يومها بكامله وهي تمضغُ الحشائش؛ لكنّي لستُ بقرة، وليست لي القدرة على تغيير هذا الواقع (كينونتي البشرية). جوابُ نيتشه هو نوعٌ من إعادة التكييف العقلي التي تنطوي في ثناياها على استراتيجية عون ذاتي مفيدة. تصوّر الماضي وكأنّه موردٌ من المنافع التي يتوجّبُ التنقيب عنها واستغلالها.
لديك مكتبة كاملة من الذكريات، بعضها صادم، وبعضها الآخر باعث على البهجة. بعضها عديم الفائدة ولا غاية فيه، وبعضها ينطوي على فائدة عظمى. يرى نيتشه أننا يجبُ "أن نقسر الماضي على أن نأخذ منه ما نشاء فحسب، نستعيدُ ما هو مصدرُ بهجة وسعادة لنا". نحنُ - كبشر- بوسعنا استخدامُ الماضي واستعادته في حياتنا مثل إكسير الحياة الشافي؛ لكن لو كان الماضي سُمًّا يضعِفُ حياتنا فحينئذ يتوجّبُ علينا نسيانُهُ والمضي قدمًا في الحياة.
لذا فإنّ كلًا من دي ونيتشه سيسأل: هل احتفاظك بسجلّ يومياتك الماضية يجعلُ منك كائنًا أفضل وأقوى، يحيا حياة أكثر امتلاءً؟ لو كان الجواب بالإيجاب فامضِ وواظب على تدوين يومياتك التي ستصبح ماضيًا في يوم ما. تنفّسها واجعلها "تذوب في سائل دمك". أما لو تركتك مكسور الفؤاد، خائفًا، متوترًا ماكثًا تحت أعباء ثقيلة فانسَ أمرها ببساطة.
بِرك: جمالُ الذكريات الصادمة
قبل قرنٍ أو ما يقربُ من القرن قبل نيتشه يقدّمُ الفيلسوف الأنكلو- أيرلندي إدموند برك Edmund Burke مقاربة مثيرة حول موضوعة الماضي الأليم. كتب متسائلًا: ماذا لو كانت ثمّة منفعة جمالية من استعادة ذكرياتنا الصادمة؟ بالنسبة لِـ (برك) فإنّ "السامي The Sublime" هو خبرة جمالية قادرة على اجتراح الغبطة Delight في أنفسنا. قصد برك بالغبطة أمرًا يختلف عن البهجة Pleasure. قصد "نوعًا خاصًا من الرعب اللذيذ، شكلًا من سكينة الروح العميقة المقترنة بالهلع، السكينة التي وهي تسعى للحفاظ على الذات فهي تمثّلُ أقوى أشكال الشغف التي يمكن أن يختبرها المرء في كلّ حياته. الغاية من الغبطة هي البحث الحثيث عن السامي". ما قصده برك بالسامي أمرٌ شبيه بالوقوف أسفل شلال مياه عظيم دافق وسط عاصفة رعدية كاسحة. إنها الهتافات الصاخبة التي تصدح بها الحناجر وسط الملاعب الرياضية الضخمة. إنها ما تشعر به وأنت تطيل النظر في شساعة الليل المرصّع بالنجوم. إنها تذوّقٌ وتقدير عالٍ للحوادث المقترنة بالفظاعة وأنت ماكثٌ في موضع آمن.
قبل قرنٍ أو ما يقربُ من القرن قبل نيتشه يقدّمُ الفيلسوف الأنكلو- أيرلندي إدموند برك مقاربة مثيرة حول موضوعة الماضي الأليم |
الخبرات الصادمة والماضي الكسير أمران ينطويان على الفظاعة. إنّهما ممزّقان للحياة، وغالبًا ما يجعلان حياة المرء كسيرة وكأنها عبء ثقيل على القلب. لكن يتوجّبُ في كل الأحوال أن لا نتغافل عن حقيقة أنهما ماضٍ مضى وانقضى ولم يعودا - في ذاتهما أو بمفاعيلهما الجانبية- مصدر تهديد لنا؛ لذا عندما نحفرُ عميقًا ونتأمّلُ في هذه التجارب الصادمة فنحنُ نشهدُ لحظة نتقابلُ فيها مع "السامي" في حياتنا. نحنُ في هذه البرهة نجد أنفسنا منجذبين نحو الجمال الرهيب لمكامن الظلام في دواخلنا. نحنُ كلّما استذكرنا ذكرياتنا الماضية الصادمة نكون كمن أزال قشرة الجرح الخارجية لكي يعيد عيش تلك الذكريات لأننا نجدُ متعة جمالية في هذا الأمر. اللذة المازوخية التي نتحصّلُها من الحفر عميقًا في تجاربنا الماضية ليست بالحكمة الجديدة؛ إذ غالبًا ما نجدها في الفلسفة القديمة وكذلك لدى فرويد؛ لكنّ مقاربة برك لها بكونها نوعًا من التجربة الجمالية الرهيبة تبقى مثيرة وغير مسبوقة. إنها تتعاملُ مع ماضينا كلُقيةٍ آثارية يتوجّبُ علينا تقديرها حقّ قدرها تمامًا مثلما نفعل مع قطع آثارية نفيسة مركونة في المتاحف.
ذكرياتنا الصادمة: نحفرُ فيها أم ندفنها عميقًا؟
كما هي الحال السائدة غالب الأحوال في مثل هذا النوع من المعضلات فإنّ الكثير من طبيعة الخيار يعتمدُ على ما لا نعرفه (بمعنى ما نجهله). نحنُ لا نعرف تمامًا ما هي "التجارب السيئة" التي يحكي عنها دي، كما لا نعرف ما الذي يحدث داخل عقله عندما يستذكرُ هذه الذكريات.
في ختام هذه المناقشة أعتقدُ أنّ نصيحة نيتشه تبدو لي متماسكة متينة التسويغ. إنها ترقى في جوهرها إلى الخبرة التي يحتويها المَثَلُ القائل: "إذا وجدت نفسك بحال أفضل عند نسيان تاريخك فانسَهُ، ولو جعلك أقوى فتذكّرْهُ". يصحُّ هذا الأمر مع الوقائع اليومية على شاكلة الاحتفاظ بيوميات تواظبُ على التدوين فيها، أو الحديث مع الأصدقاء. يمكن أن يخدم استذكار الماضي أيضًا كعلاج نفسي. ذكرياتنا في النهاية هي ليست سوى حكايات، والحكايات تبدو فعّالة كعلاج نفسي كما دلّتنا خبرة متراكمة. كلّ من أعرفه تقريبًا من الأصدقاء وسبق له التعامل مع ذكرياته كحكايات ذات محتوى علاجي أكّد لي نجاح هذه التجربة وأنّه جنى منها فائدة كبرى على المستويين العقلي والنفسي. لكنّ اختبار نيتشه يمكن توظيفه بنجاح أيضًا. عقب ستّة أشهر أو سنة أو أي زمن آخر سيكون من المفيد لك أن تتساءل: "هل أنا اليوم شخصٌ أفضلُ من ذي قبلُ بعد أن ألِفْتُ الحديث عن ماضيّ؟". لو كان بالإيجاب فالمنطقي أن تمضي في حديثك هذا؛ أما لو كان الجواب سلبيًا فربما يكون الوقت قد حان لك لكي تجرّب أمرًا آخر. ربما آن الأوان لكي تنسى تاريخك بدلًا من المضي في المعاناة المترتبة على استذكاره.
(*) جوني ثومسون Jonny Thomson: درّس الفلسفة في جامعة أكسفورد لأكثر من عقد من الزمن قبل أن يتفرّغ للكتابة. يكتب في موضوعات الفلسفة واللاهوت (الثيولوجيا) وعلم النفس (السيكولوجيا)، وأحيانًا يتناول أيضًا موضوعات أخرى. حاز كتابه الاول Mini Philosophy على مقروئية واسعة وتُرجم إلى عشرين لغة وصار من أفضل المبيعات (بيست سيلر). نُشِر كتابه الثاني Mini Big Ideas عام 2023.
(**) الموضوع المترجم أعلاه منشور في موقع BIG THINK الإلكتروني ضمن سلسلة Everyday Philosophy بتاريخ 28 حزيران/ يونيو 2024. العنوان الأصلي للمادة باللغة الإنكليزية:
Is it better to forget your past or keep revisiting it?