}

يونغ: العمارة أداةً لتمثيل النفس البشرية

ديفيد بوركنهاجن 4 سبتمبر 2024
ترجمات يونغ: العمارة أداةً لتمثيل النفس البشرية
كارل يونغ (1875 ــ 1961)
ترجمة: سارة حبيب


يمكن لمقاربة كارل يونغ للعمارة أن تكون مصدر تحريض لنا: كيف نخلق مساحات للأبعاد المنسيّة من عقولنا؟
العمارة مادية، ملموسة ومحسوسة. إنها إسمنت، فولاذ وزجاج. إنها خشب، قرميد وحجر. إنها تأوينا وتحمينا من خلال تقسيم المساحات الواسعة للحيز المادي. في جوهرها، العمارة توجد في العالم الخارجي، وتعمل فيه. فما الذي يمكن أن تقوله عن عوالمنا الداخلية؟ بالنسبة إلى كارل يونغ، يمكنها أن تقول "كل شيء".
خلال حياته، وإلى حين وفاته عام 1961، استخدم يونغ العمارة كأداة مفاهيمية لدراسة بنية النفس البشرية. في الحقيقة، كان الحلم الذي رآه يونغ عن منزل متعدد الطوابق هو ما ساعده على تطوير فكرته عن اللاوعي الجمعيّ. فاستكشاف يونغ لمنزل الحلم هذا أظهر من العمق ما جعل يونغ يبدأ بفهم نفسه كمهندس معماري نوعًا ما. في بدايات القرن العشرين، صمم يونغ منزلين على ضفاف بحيرة زيورخ، لا لتلبية احتياجاته اليومية فحسب، بل كذلك للتعبير عن أبعاد عقله الواعي واللاواعي. ورغم أن هذه المنازل محجوبة اليوم بالأثر الدائم لكتاباته، فإنها كانت جوهرية لعمله وحياته. بالنسبة إلى يونغ، يمكن أن يُفهَم اللاوعي على نحو جزئي فحسب من خلال الكلمات، المشاعر، الأحلام أو النظريات. فهو يتطلب أيضًا وجودًا في الحيّز المادي؛ بنية تقسّم رحابة العالم الخارجي. كانت العمارة، بطرق كثيرة، موجودة في صميم التحليل النفسي في القرن العشرين. بالنسبة إلى يونغ، لا يمكن التفكير بعوالمنا الداخلية من دون العمارة.

البرج في بولينغن المطل على بحيرة زيورخ 


منزل يونغ الأول خطر له في أثناء حلم رآه عام 1909. خلال سفره عبر الولايات المتحدة في جولة لإلقاء محاضرات مع زميله المحلل النفسي سيغموند فرويد، حلم يونغ أنه كان في صالونِ منزل مكون من طابقين. كانت الغرفة مؤثّثة بقطع أثاث عتيقة ولوحات معلقة على الجدران. وأثناء استكشافه للصالون، وجد مجموعة من السلالم تؤدي إلى قبو. بدا كل شيء أقدم بكثير في هذا المستوى الأخفض. وبدا أن الأثاث والأرضيات المصنوعة من القرميد الأحمر تنتمي إلى العصور الوسطى. في نهاية المطاف، وجد بابًا ضخمًا ينفتح على درج حجري يؤدي نزولًا إلى غرفة عتيقة مقنطرة. كانت الجدران والأرضية فيها مصنوعة من بلاط حجري وقرميد يعود إلى الحقبة الرومانية. وجد يونغ حلقة معدنية موصولة بواحدة من البلاطات على الأرض. وأظهر سحبُ الحلقة، ورفعُ البلاطة درجًا آخر يؤدي للأسفل أكثر. باتباع الدرج الضيق نزولًا إلى المستوى الأدنى من المنزل، وصل يونغ إلى كهف محفور في قاعدة صخرية. وقد غطّى غبار كثيف الأرضية التي وجد عليها عظامًا وأواني فخارية مكسورة مبعثرة كما لو أنها بقايا ثقافة من مرحلة ما قبل التاريخ. في الغبار، وجد يونغ جمجمتين شبه متحللتين. ثم استيقظَ.




لبقية حياته، كان يونغ يزور منزل الحلم مرة بعد أخرى هذا ليعبّر عن أفكاره حول بنية النفس البشرية. لقد مثّل الصالون وعي الأنا، الحيّز الذي نسكنه أغلب الأحيان ونُسكِن فيه أفضل أشيائنا؛ الأشياء التي نريد أن يراها الآخرون. لكن هذا الطابق مبنيّ فوق طبقات أقدم، تمثّل كل واحدة منها عصرًا هامًا من التاريخ الفكري: العصور الوسطى، العصر الروماني والعصر الإغريقي، وصولًا إلى ما قبل التاريخ. فسّر يونغ المستوى الأدنى من المنزل على أنه يعني أن كلّ المعرفة التاريخية قائمة على جذور بدائية. بكلمات أخرى، أظهرت عمارةُ منزل الحلم ليونغ أننا جميعًا، بغضّ النظر عمّا نؤمن به بشكل واع، نتشارك مجموعة من المعتقدات اللاواعية السابقة للتاريخ. سمّى يونغ هذه الطبقة من النفس "اللاوعي الجمعي"، واعتبرها النواة الأعمق للبشرية.
في كتابه السيري الذاتي "ذكريات، أحلام، تأملات" الذي نُشر أول مرة بالألمانية عام 1961، كتب يونغ:
على هذا النحو، شكّل حلمي نوعًا من مخطط بنيوي للنفس البشرية؛ لقد افترض شيئًا ذا طبيعة غير شخصية بتاتًا يشكّل أساس تلك النفس. الحلمclicked"(1)" كما يقولون في الإنكليزية ــ وأصبح بالنسبة إليّ صورة توجيهية... لقد كان أول تلميح لي عن بداهة جمعيّة تحت النفس الشخصية.

مدخل منزل يونغ في كوسناخت


أثبت اللاوعي الجمعي، الذي استُلهِم من حلم معماري، أنه واحد من أكثر مفاهيم يونغ تأثيرًا. وفقًا ليونغ، أجزاءُ ذاتنا التي نحن واعون بها ــ أجزاء تشكّل معًا وعي الأنا عندنا ــ تتأثر بصور وأساطير موجودة سابقًا، دعاها يونغ "archetypes" (الأنماط البدائية أو الأولية). وهي تشمل أنماطًا بدائية مثل الرجل العجوز الحكيم، الأم العظيمة، شجرة الحياة، الأبدية، والمقدّس. اعتقد يونغ أن أسس الفكر هذه، العتيقة الموجودة سابقًا، قوية بما يكفي لتعيد توجيه عملياتنا الواعية وتؤثر عليها حتى اليوم، بما في ذلك أفكارنا عن الذات. إنها تسكن اللاوعي الجمعي، وتشكّل مستوى عالميًا أدنى يفهم البشر من خلاله العالم حولهم.
رغم أن كثيرًا من الأفكار التي طورها يونغ وفرويد في بدايات القرن العشرين لم تكن مبنية على العلم التجريبي (وكان يُعبَّر عنها غالبًا باستخدام تعابير مختَرعة من دون تعاريف موضوعية، ما يجعل من المستحيل دحضها باستخدام المنهج العلمي)، فإن نظريتهما العامة عن اللاوعي استمرت. وبعد أكثر من قرن، لا يزال تأثير أفكار يونغ عن اللاوعي الجمعي ملموسًا من خلال تصورات شعبية عن العقل اللاواعي والحاجة لعلاجات التحليل النفسي. كثير من الناس حول العالم لا يزالون يتلقون مساعدة من معالجين نفسيين يستخدمون مفهوم العقل اللاواعي لتفسير ارتباطات كامنة تؤثر على السلوك. الأكثر من ذلك، أفكار يونغ عن اللاوعي الجمعي والأنماط البدائية تبقى مفيدة لشرح تكرار سرديات ثقافية شائعة في روايات شعبية، أفلام شعبية، وحتى حملات سياسية، مثل ميلنا نحو سرديات البطل، أو دعمنا لرجال سياسة أقوياء. كل ذلك بسبب تجربة معمارية أتت ليونغ في حلم.
أظهر منزل الحلم ليونغ أن العمارة يمكن أن تكون أداة مفاهيمية لفهم بنية النفس البشرية. وربما يجب ألا يكون هذا مفاجئًا. لأنه في عام 1908، في السنة السابقة لحلم يونغ، كان يونغ قد تولى دور مهندس معماري، بمساعدة ابن عمه المهندس المعماري إرنست روبرت فيشتر بأن صمّم منزلًا لعائلته على ضفاف بحيرة زيورخ في بلدة كوسناخت السويسرية قرب مدينة زيورخ. كانت واجهة منزل يونغ في كوسناخت كبيرة وفخمة، مثل قصر، ولا تزال قائمة حتى اليوم. والبناء نفسه مدفوع باتجاه حافة البحيرة ويتميز بحديقة كبيرة أنيقة تشكّل فناءً أماميًا. يمشي الزوار ممرًا مستقيمًا إلى الباب الأمامي الموصول بمرقب فخم مكون من ثلاثة طوابق، ويشرف على كل من يدخل. وقد صمم يونغ المساحات الداخلية لأجل الجوانب الأكثر أهمية من حياته الشخصية والمهنية. فبنى مكتبة كبيرة مليئة بالكتب وحيزًا مكتبيًا مغلقًا مع نوافذ زجاجية ملونة تحجب كل المناظر الخارجية لكي يتمكن من التركيز على عمله. في منزله في كوسناخت، أنشأ يونغ أسرته، قدم استشارة لمرضاه، واستضاف ضيوفًا. لقد لبّى المنزل احتياجاته كأب وكخبير كثير الانشغال. وعكس إحساسه الموحد بالذات؛ إلى أن بدأت هويته بالانقسام إلى اثنين.

منزل يونغ في كوسناخت 


عام 1913، بدأ يونغ يعاني من هلوسات ويسمع أصواتًا. في بعض الأوقات، كانت هذه التجارب تشتد إلى ما قد ندعوه اليوم "نوبات ذهانية". ولأنه لم يكن ذلك الشخص الذي يتهرب من الجوانب الأكثر ظلمة للعقل، بحث يونغ عن معنى هذه الاضطرابات العقلية. وخلال السنوات الست التالية، حرّض الهلوسات من خلال عمليات دعاها "الخيال الفعّال"(2)، ومثل رسامِ خرائطٍ لـِ"العالم الجديد" وصف كل ما رآه في دفاتر ملاحظات. ثم، في نهاية المطاف، جمع يونغ ملاحظاته في مخطوط ضخم عَنْونه "الكتاب الأحمر". كان "الكتاب الأحمر" في جزء منه بمثابة مانيفستو شخصي، وفي جزء آخر ملحمةً هوميرية، إذ كان يصف رحلة يونغ عبر المشاهد الحلمية المتغيرة لعقله اللاواعي وهو يراقب الأنماط البدائية، الرموز الدينية، والأشكال القديمة. في أحد المقاطع، يدخل يونغ في نقاش حاد مع روحه. في مقطع آخر، يتصارع مع المنافع الإبداعية للجنون. كانت تلك مرحلة مضطربة وكثيرة النتاج. وهي الفترة التي أشار إليها يونغ لاحقًا بوصفها "مواجهته مع اللاوعي". وهذه الفترة، أيضًا، سيكون لها في آخر المطاف العمارةُ الخاصة بها: منزلٌ ثالث.



تغير شيء جوهري في يونغ بعد هذه الفترة التي أسفرت عن "الكتاب الأحمر". لقد خلق منبعَ عملٍ سيعود إليه لبقية حياته. وأحدثت هذه الفترة أيضًا تغييرات في ظروفه المعيشية. فعلى الرغم من أن جلّ خيالات يونغ الفعّالة حدثت في منزله في كوسناخت، كان في حاجة لأن يهرب من شكليات مواجهة العامة، ومن التركيبة التحليلية لذلك المنزل، على الأقل بشكل دوري. لذلك، عام 1923، صمّم بيتًا آخر في بلدة بولينغن على بعد حوالي 30 كم من كوسناخت، بعيدًا عن زيورخ تقريبًا بقدر ما يمكننا الذهاب على طول شاطئ البحيرة. زار يونغ منزله في بولينغن الذي دعاه  Tower/ البرج، ليلتجئ من العامة، عازلًا نفسه فيه ليتابع انشغاله بلا وعيه.
من الخارج، من الصعب فهم تركيبة منزل بولينغن. على عكس المنزل في كوسناخت الذي يرحّب بالزوار بحديقة طويلة ومرقب، المدخل الأمامي لمنزل بولينغن عبارة عن حائط حجري مع باب خشبي سميك. ثمة أيضًا أربعة أبراج، لكل منها أبعاد خاصة بها، وهي تتعاقب حول ساحة. ليس ثمة إشارات واضحة لمكان وجود المطبخ، غرفة المعيشة، أو غرف النوم، هذا إن كانت موجودة أساسًا. هكذا، وفي حين أن تصميم منزل كوسناخت منطقي وحاسم، يبدو تصميم منزل بولينغن غريبًا وفوضويًا. وقد تكوّن شكل المنزل مع الإضافات التي بناها يونغ في مراحل عديدة على مدى ما يزيد عن عقد. كانت البنية الأولية مسكنًا بدائيًا، دائريًا، من طابق واحد مع مدفأة في الوسط. ثم، تم بناء جناح جديد. ثم برج أكبر. في كل مرة، كان يونغ يربط بنى جديدة بالبنى القديمة، مثل أقواس ماندالا. لم تكن هذه البناءات الإضافية نتيجة مكاسب مالية مفاجئة. بالأحرى، بنى يونغ بنى جديدة بعد أحداث حياتية كبرى. بعد موت والدته، اشترى الأرض التي سيُبنى عليها المنزل. بعد موت زوجته، أضاف طابقًا ثانيًا يطل على مناظر مترامية من البحيرة. كانت أبعاد جديدة تضاف إلى شخصيته، وكذلك كانت أبعاد تضاف إلى منزله في بولينغن. في النتيجة، كانت خلاصة المنزل رمزًا لعودته إلى كليّته النفسية:
الكلمات والورق، على أية حال، لم تبدُ حقيقية بما يكفي بالنسبة إلي؛ كنتُ في حاجة لشيء أكثر. كان عليّ أن أنجز نوعًا من التمثيل الحجري لأفكاري الباطنية، وللمعرفة التي اكتسبتُها. أو، بكلمات أخرى، كان عليّ أن أصنع اعتراف إيمانٍ حجري. تلك كانت بداية "البرج"، المنزل الذي بنيتُه لنفسي في بولينغن.
معًا، يمثّل منزلا يونغ على ضفاف بحيرة زيورخ جانبي عقله: الوعي واللاوعي. منزله في كوسناخت لاءم مساعيه الموجَّهة بالأنا، بما فيها إنشاء عائلة، إدارة عمل، ووضع قناع يقيه مواجهة العامة. أما منزله في بولينغن فكان، على العكس، حيّزًا لعقله اللاواعي. كان بدائيًا ومعزولًا، مع تركيبة دائرية حمت داخلًا خاصًا من العامة. كان منزل بولينغن كائنًا حيًا نما مع نمو شخصية يونغ. فقد أضيفت إضافات إليه بعد أحداث حياتية رئيسية، مانحة شكلًا لتطور يونغ النفسي.
كان ذلك فعلَ ضرورة وجودية. لقد ساعد يونغ على تحقيق اكتمال نفسيّ. وتمامًا كما أن هدف العلاج النفسي هو دمج المحتوى اللاواعي مع العقل الواعي من أجل حل الصراعات العقلية، استخدم يونغ العمارة كأداة لتمثيل نفسه في حيّز مادي، لتنظيم النسخ المختلفة من نفسه، وإخراج نفسه من المرض العقلي. لقد كانت أداة خطرت له عام 1909، إذ ظهرت إمكانياتها له وهو يهبط أدراج منزلِ حلمٍ ويدخل الطابق الذي يعلوه الغبار لللاوعي الجمعي. والعمارة أيضًا أداة لا تزال متوفرة اليوم. فلأولئك الذين لم يفهموا اللاوعي الخاص بهم، مقاربةُ يونغ للعمارة مصدر تحريض: كيف نخلق مساحات للأبعاد المنسية من عقولنا؟

هوامش:
clicked (1): تقال بالإنكليزية للدلالة على أن شيئًا ما يُفهَم أو يصبح واضحًا فجأة، كما لو أن أجزاءه وتفاصيله تتجمع في الذهن فيتسوعبها بلحظة.
(2) الخيال الفعّال: عملية طورها يونغ للوصول إلى اللاوعي في أثناء اليقظة، وردم الفجوة بين العقلين الواعي واللاواعي، وذلك باستخدام تقنيات معينة تتيح لمحتويات العقل اللاواعي أن تعبّر عن نفسها، أو ما يوصف بعملية "الحلم بعينين مفتوحتين".

(*) ديفيد بوركنهاجن: حاصل على دكتوراة في علم النفس من جامعة واترلو. زميل ما بعد الدكتوراة في مركز ماثيسون لأبحاث وتعليم الصحة العقلية في جامعة كالجاري، كندا.

رابط النص الأصلي:
https://psyche.co/ideas/for-jung-architecture-was-a-tool-to-represent-the-psyche

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.