}

ذكرى صاحب "صخب البحيرة" الذي تجنب الكلام الزائد

هشام أصلان 19 يوليه 2017
هنا/الآن ذكرى صاحب "صخب البحيرة" الذي تجنب الكلام الزائد
محمد البساطي

(1)

بالرغم من حضوره الكبير في وجدان أبناء جيله، وبعض أبناء الأجيال التالية، لم يشغل الكاتب الكبير محمد البساطي، حيًا وراحلًا، صفحات الصحافة الثقافية المصرية كثيرًا، حتى قبل انطفائها الملحوظ في السنوات الأخيرة. يوم الجمعة الماضي مرت ذكراه السادسة مرور الكرام ككل المرات السابقة. الهدوء يناسبه وليس التجاهل. الأمر لم يخلُ من خبر هنا أو هناك، وقليل جدًا من الاحتفاء على فيسبوك.

في يوليو 2012، رحل صاحب "بيوت وراء الأشجار" وسط هوجة رحيل أخذت، في الفترة نفسها، عددًا لا بأس به من كُتّاب السيتينيات، الذين، على تجاوزهم السبعين، شعرنا أنهم رحلوا شبابًا. وكان قبلها بأيام فاز بجائزة الدولة التقديرية، ما أثار موجة كوميديا سوداء وسخرية مريرة. لم يلحق حتى بأيام قليلة من السعادة بالجائزة، حيث اشتد المرض وداهمته الغيبوبة بعد يوم أو اثنين من إعلانها.

(2)

"تتهادى مياه البحيرة لدى اقترابها من البحر. شاطئها البعيد الذي يغيب في الأفق ينبثق مسربلًا بالضباب، ثم يبين بلونه الرمادي الباهت كاشفًا عن تعرجاته ونتوءاته، وينثني في انحناءة حادة داكنًا بلون الطين. تزداد كثافة الغاب والعُشب باقتراب شاطئيها. يمضيان متعرجين. يُشكلان مجرى قليل الاتساع يسيل الطين لزجًا على ضفتيه، ويختفي الغاب باقترابه من البحر حيث ينبسط شاطئه الرملي بصخوره القاتمة".

هذا المدخل الشعري لرواية البساطي "صخب البحيرة"، ربما يصلح مدخلًا في الوقت نفسه لحياته بأكملها، حيث نشأ على ضفاف بحيرة المنزلة، في دلتا مصر، وامتصّ محيطها لتخرج قصصًا وروايات ذات نفس خاص، عبر علاقة فريدة باللغة، وتقنيات سرد لا تجتهد في سبيل التجريب بقدر ما تحاول إيجاد حلولها الخاصة.

تلك الرواية تحديدًا، يعتبرها كثيرون قلب أعماله الأدبية، ذلك أنها اقتنصت من  بشر عاديين حواديت أحالتهم نماذج إنسانية متفردة، وخلدت أماكنها. استغرق عبرها في عالمه، ما جعلها في نظر البعض الأقرب، ضمن رواياته، إلى واقعه الحياتي.

رغم أن معظم أعماله تدور في أجواء الريف وتفاصيله وناسه الذين لا تشغلهم القضايا الكبرى، إلا أن "صخب البحيرة" هي الرواية التي عاش مع أبطالها في محافظة الدقهلية، مكان مولده في 1937، قبل أن يحصل على بكالوريوس التجارة، ويعمل في الجهاز المركزي للمحاسبات، ما وفر له حياة "مستورة" عفّته، بقدر ولو قليل، عن إهدار جزء من طاقته الأدبية في الكتابة للصحافة، ككثيرين من الكتاب العرب.

مثل عدد من أبناء جيله، دخل محمد البساطي إلى عالم الرواية بنفس القاص، متخذًا الحذف والاختصار طريقة.

في "صخب البحيرة" أراد، وفق ما قاله في أحد الحوارات الصحافية، أن يحكي "عن صياد عجوز تائه، فانتهيت منه، لكني وجدت عالمًا موازيًا يتنامى ويتصاعد في رأسي، فصولًا متتالية حتى اكتملت في صورة رواية".

تلك العوالم الموازية التي تحدث عنها، جاءت بشخصيات لا تقل أسطورية عن ذلك الصياد العجوز محور الرواية، فتجد "امرأة جمعة"، التي تذهب للبحر عند النوة لتجمع الأشياء التي فقدها آخرون من حلي وملابس، يحسدها عليها نساء القرية، وتجد رجال البحيرة الذين يأتون منها ويعودون إليها في ظروف غامضة، وصندوقًا سحريًا تخرج منه كلمات بلغة غير معروفة. حكايات تحتار فيها، ولا تعرف إن كانت هي المحظوظة بكاتبها، أم أنه هو المحظوظ بوجودها داخل عالمه.

لم يكن البساطي يتحمل فكرة الرواية الكبيرة: "دائمًا أجد أن أجمل الروايات التي قرأتها، ذات حجم صغير، فالإيجاز مهم جدًا، والكلام الزائد من شأنه أن يقلب كيان الكتابة، ويحدث نتوءات تشوهه".

(3)

عندما جاء خبر رحيله عن 75 عامًا، قال الأصدقاء إنه استراح. كانت معاناته مع سرطان الكبد قد طالت، وازدادت الآلام حتى دخوله الغيبوبة، وكان رافضًا لتدخل الدولة في نفقات العلاج. غير أن عدم اتساقه مع الدولة ومعارضتها لم يأت عبر الصراخ والهتافات المثيرة لعناوين الأخبار، حتى في الواقعة الوحيدة التي أتته فيها فرصة إطلاق الكلمات الرنانة، لم يفعل واكتفى بالتجاهل والاستغناء.

كان يشرف على سلسلة "أصوات أدبية"، التابعة لوزارة الثقافة عندما اندلعت الأزمة الشهيرة المعروفة إعلاميًا بـ"أزمة الروايات الثلاث". وقتها أصدرت السلسلة برئاسة تحريره ثلاث روايات هي: "أحلام محرمة" لمحمود حامد، "أبناء الخطأ الرومانسي" لياسر شعبان، و"قبل وبعد" لتوفيق عبد الرحمن. وأثارت الإصدارات حفيظة أحد أعضاء البرلمان وقدم استجوابًا لوزير الثقافة فاروق حسني، الذي أخذ موقفًا غريبًا، وصادر نُسخ الروايات. لم يولول البساطي، لكنه قاطع وزارة الثقافة تمامًا، وباتت الدولة هي المهمشة من جانبه وليس العكس.

(4)

طالت أيام المرض بمحمد البساطي، وصار منطويًا بعدما كان مبتعدًا. تسمع أن معنوياته مرتفعة، لكنك لا تراه إلا نادرا، كان يأبى أن يحمّل الآخرين أعباءً.

سيرحل هادئًا، وسيأتي العزاء، في الحقيقة، هزيلًا. عدد قليل من الكتاب والأصدقاء، ومقاعد كثيرة خالية. توقع الرحيل ليس مبررًا، وقد تكون طبيعته، التي مالت إلى عدم الضجيج في كل شيء، الحياة والمواقف، وفي الرحيل.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.