}

يحيى الطاهر عبدالله في ذكرى ميلاده: وردة جيل

هشام أصلان 9 مايو 2023
استعادات يحيى الطاهر عبدالله في ذكرى ميلاده: وردة جيل
يحيى الطاهر عبدالله


"يا يحيى يا عجبان يا فصيح، يا رقصة يا زغروتة

اتمكن الموت من الريح، وفرغت الحدوتة

كنا شقايق على البعد، وعالقرب شأن الشقايق

أنا كنت راسم على بعد، وخانتني فيك الدقايق"

لم أنس هذا المقطع منذ سمعته قبل أكثر من عشر سنوات، وذهبت كثيرًا أحاول العثور على نسخة كاملة من تلك القصيدة المدهشة دون جدوى، بينما ذاكرتي بالكاد تحتفظ بكلمات متناثرة من بقيتها.

كنا في شرفة جريدة "الشروق" وقت جاءت سيرة شعر عبد الرحمن الأبنودي، وتذكر الكاتب والصحافي حمدي عبد الرحيم قصيدة كتبها الأبنودي في رثاء صديقه التاريخي، الكاتب الأيقوني يحيى الطاهر عبدالله، وألقاها حمدي كاملة على مسامعنا، ولم أكن سمعت عن تلك القصيدة أبدًا قبل ذلك، ولاحظت أن جميع من كانوا في الجلسة يسمعونها مثلي للمرة الأولى، وكان أشهر ما كُتب في رثاء يحيى مقطع ﻷمل دنقل من قصيدته "الجنوبي" يعرفه أغلب المهتمين ويستدعونه دائمًا:

"ليت أسماء تعرف أن أباها صعد لم يمت، وهل يموت الذي كان يحيا كأن الحياة أبد...".

كان غريبًا أن جميعنا لم يسمع من قبل بقصيدة الأبنودي، خصوصًا أنها في رثاء أحد أبرز وأشهر كتاب القصة المصرية والعربية، والذي تتناقل الأجيال الحكايات عن كتابته وحياته وصولًا لوقائع رحيله في حادث السيارة الشهير.

وحدث أن وقعت القصيدة على تلقينا بالانبهار البالغ، وذهبت كلما تذكرتها أبحث عنها على مواقع الإنترنت أو أسأل الأصدقاء من الأجيال الأسبق لو أنها نُشرت في أي من دواوين أو كتب الأبنودي، لكنه كان دائمًا بحث من دون جدوى، وكأن الأبنودي قالها لحمدي عبد الرحيم في أذنه، فيما لا أعرف حتى الآن لماذا تاه عني سؤال حمدي نفسه حول أين قرأ القصيدة أو أين سمعها.

وفي لقاء مع أسماء يحيى الطاهر عبدالله، التي أيضًا قضت شيئًا من طفولتها في بيت الأبنودي، حكيت لها عن القصيدة وسألتها إن كانت تعرفها أو تعرف أين نُشرت، فقالت لي إن القصيدة نُشرت في مجلة "خطوة"، وهي مجلة أدبية غير دورية تأسست سنة 1980، وكان يحيى الطاهر عبدالله شارك في تأسيسها، وأن قصيدة الأبنودي نُشرت في العدد الثالث والذي صدر سنة 1982، وهو عدد تذكاري جاء بالكامل محتفيًا بيحيى بعد رحيله، وكانت المفاجأة الأجمل أن أهدتني أسماء نسخة من هذا العدد، الذي سأكتشف بمجرد التقليب فيه أنني بصدد كنز أدبي.

كانوا شبابًا، بينما يراودني سؤال حول إحساسهم بما كانوا يقومون به من نشاط وتصورهم حول ما ستؤول إليه قيمتهم في كتاب التاريخ الثقافي جُملة

طلبت من أسماء أن تنشر القصيدة في فيسبوك لأنها ليست متوفرة نهائيًا، وبالفعل صارت متاحة وإن لم يعرف أحد حتى هذه اللحظة سببًا لعدم نشر الأبنودي إياها في أي من دواوينه برغم جمالها الفادح فنيًا وأهميتها تاريخيًا في سياق مناسبة كتابتها.

قبل يومين مرت ذكرى ميلاد يحيى الطاهر الخامسة والثمانون، وللمفارقة أن ذكرى ميلاده ورحيله تأتيان في الشهر نفسه، وللمفارقة الثانية، أنه نفس شهر ميلاد ورحيل الأبنودي.

**

"آخر حروف الأبجدية، أول حروف اسم يحيى

للموت كمان عبقرية، تموت لو الاسم يحيى"

قصيدة الأبنودي نُشرت في العدد الثالث والذي صدر سنة 1982، وهو عدد تذكاري جاء بالكامل محتفيًا بيحيى بعد رحيله


ولا تأتي أهمية عدد مجلة "خطوة" فقط من كونه احتفى بأحد أبرز كتاب جيل الستينيات، الجيل الأكثر تأثيرًا في الثقافة العربية، لكن أهميته تأتي من كونه يجمع، في نحو مائة وعشرين صفحة، مجموعة كبيرة من الكتابات لرموز الأدب المصري في إحدى ألمع لحظاته تاريخيًا، كتبوا جميعًا في موضوع واحد عبر عدة أنواع أدبية، بين الدراسة النقدية والمقال الأدبي والقصيدة الرثائية بالفصحى والعامية المصرية والشهادة الإنسانية والمقال الذي يشبه تحقيقًا استقصائيًا يقرأ أحوال الثقافة انطلاقًا من أثر رحيل يحيى.

مبدئيًا تكونت هيئة تحرير "خطوة" من هؤلاء: أمينة رشيد، بدر الرفاعي، سيد البحراوي، وعز الدين نجيب. وشارك في إصدار وجمع مادة هذا العدد بالتحديد أسماء بحجم: إدوار الخراط، بهاء طاهر، صبري حافظ، محمد هشام، ويوسف أبو رية.

كانوا شبابًا، بينما يراودني سؤال حول إحساسهم بما كانوا يقومون به من نشاط وتصورهم حول ما ستؤول إليه قيمتهم في كتاب التاريخ الثقافي جُملة، وتذكرت أن السؤال نفسه راودني حين توفرت لي صور فوتوغرافية لعدد من الفعاليات الثقافية تضم أسماء كهذه مجتمعين على منصة حديث واحدة.

وفضلًا عن أسماء هيئة التحرير ومنسقي إصدار هذا العدد، أتى الفهرس متخمًا بأسماء أغلبها ليس أقل، لدينا، على سبيل المثال لا الحصر، كتابات لـ: شكري عياد، لطيفة الزيات، صلاح عيسى، محمد صالح، حسين حمودة، رجب الصاوي، حسين حمودة، عبد المنعم رمضان، شاكر عبد الحميد، براء الخطيب، توفيق حنا، نعيم عطية، ومدحت الجيار، وغيرهم.

هنا مجموعة كبيرة وقيمة من الرؤى لمرحلة ثقافية بارزة في التاريخ العربي، انطلقت جميعها من الحديث عن كاتب بالغ الأثر، وعلاقته بالمناخ العام والمشهد الأدبي الذي سيصير الأبرز ربما حتى قبل سنوات قليلة، وصفحات تعد إحدى الخرائط الواضحة لتلك اللحظة الأدبية المعروف لدى جميع المهتمين مدى أهميتها وأثرها الثقافي على المكتبة والقارئ العربي حتى لحظتنا الراهنة.

**

"يا موت وتعبته تأجيل، يا موت ودي موته ظلومه

ليلة انقطف وردة الجيل، شمتت كلاب الحكومة"

**

إضافة إلى ما سبق، تجدر الإشارة إلى أحد أهم موضوعات عدد مجلة "خطوة"، وهو الموضوع الذي نسمع فيه صوت يحيى يتحدث عن نفسه وحياته ومفاهيمه الثقافية والأدبية، حيث الحوار الصحافي الوحيد الذي أجري معه، وأجراه الكاتب والناقد الفني المعروف، والصحافي الشاب وقتها، سمير غريب، لمجلة "المستقبل العربي"، وأعادت "خطوة" نشره في عددها التذكاري. تحدث يحيى في هذا الحوار عن ذائقته الأدبية ورؤيته لأقرانه من كُتاب الستينيات وعلاقته بكتابات لسابقين على جيله مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيى حقي، وتصوره الشخصي لأسئلة الكتابة وانشغالاته ككاتب من حيث الشكل القصصي والأسلوب واللغة وكيفية معالجة الهم الشخصي أدبيًا. يقول عن إحساسه بما قدمه أدبيًا من بدايته حتى إجراء الحوار قبل رحيله بعام تقريبًا: "أنا كاتب حققت لنفسي فرحي الخاص بما كتبت ويكفيني هذا".

يقول الأبنودي في قصيدته البديعة "عدودة تحت نعش يحيى الطاهر عبدالله":

"وبرغم باعنا القصير، رغم الزمن مش بتاعنا

هتعيش معانا وتكبر، وهتضيع لو احنا ضعنا

وهيعيش عذابك يا خيه، قناديل وسكة وغاية

دى مش نهايتك يا يحيى، يمكن تكون دى البداية".

وقد كان. عاش أبناء الجيل ولم يضيعوا، وعاش معهم يحيى ولم يضع، وكانت البداية.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.