اقرأ أيضًا: أن تكون اليوم قيمًا على المعارض في العالم العربي
لم يتحْ لعبد الله الحريري تكوين في الخط، كما كان الأمر مثلاً مع أحمد الشرقاوي. كان تكوينه التشكيلي في مدرسة الدار البيضاء في أواخر الستينيات، ثم الغرافيك بروما في بداية السبعينيات مسايرة للموضة السارية آنذاك. حيث حظيت الفنون الغرافيكية بانتشار كبير، نظراً إلى ملاءمتها للطبيعة الساخنة للثقافة العربية، بتفاعلاتها وتناقضاتها، وإلى اندماجها في تطور الفنون البصرية والتواصلية عموماً. كما لم يكن الرجل من المهووسين بالهوية والنضال. لهذا بدأت أعماله بنرجسية جمالية عبّر عنها بتوظيف حروف معينة، كالعين والحاء، اللتين تشيران لاسمه. وهو مسعى ينمّ عن همّ فني أكثر منه إيديولوجي.
بدأ الأمر إذن، بالحرف ولم يتجاوزه للحروفية، فالحريري، يعشق الحرف في تجريديته الجمالية، باعتباره مكوناً مستقلاً عن المعنى. ومن هنا كان وعيه حاسماً، منذ البداية، في الاختيار: أعني أنه فنان يوظّف الحرف من غير أن يعني ذلك أنه يتجاوزه إلى أسلوب معين كالحروفية. هذا التحديد ظلّ ملازماً له لحدّ اليوم. وهو لكي يُبين عن هذه المقصدية، كان يحول الحرف إلى مكون زخرفي محض، سوف يتزاوج والمكونات الزخرفية الأخرى، كالزليج والأشكال الهندسية، التي انطلق منها في البدايات. ولا غرو في ذلك، فالفنان كان قد تابع أيضاً، في أواخر مسيره التكويني، دراسته في مجالي العمارة والتصميم.
اقرأ أيضًا: منيرة الصلح، شهرزاد بصرية
الزخرفي هنا، لا يعني، من منظورنا، الحذلقة المصطنعة التي تأتي للتزيين والتجميل والتحسين، وإنما هي مكونات من صميم الاختيار الجمالي التشكيلي. والمعروف أن الفنون العربية والإسلامية أغلبها زخرفي وأقلُّها تصويري، ومن ثم كانت الهوية البصرية الكلاسيكية لدينا هوية زخرفية قد تنحو منحى تصويرياً.
هذا الوعي المزدوج بالأهمية الزخرفية للحرف وبأبعاده الحضارية من جهة، وبحدوده التعبيرية من جهة ثانية، هو الذي جعل تجربة الحريري ذات فرادة خاصة، بحيث وجدت موقعاً خصوصياً لها في التشكيل المغربي والعربي. وتأتي فرادتها من كونها مزاوجة خصبة بين التشكيل الحروفي والتشكيل الصباغي. وهذا الطابع التجريدي المتشاكل هو الذي يمنح للوحات الحريري طابعيْن يكادان يكونان مفارقين لبعضهما: الطابع المرح الذي يجعل من تفاعل الحرف والتشكيل عبارة عن تشكيلات موسيقية تتشاكل فيها الألوان وتتراقص فيه الحروف وفقاً لإيقاع صاعد أو نازل، بحيث تبدو اللوحة وكأنها تعلن ميلاد أفق مفتوح، جسده المساحات اللونية، وعمقه التفاعل الدقيق بين تماوجات الحروف التي تخضع لمنظور الغياب في الفضاء.
اقرأ أيضًا: ليلى العلوي، أما كان بوسعها أن تغافل الموت؟
ثم، هناك المقابل "المأساوي" لهذه اللعبة، بحيث تغيب الألوان الفاتحة المرحة، لتترك المكان لتناسخ للرمادي والغمر والأسود. ويتحول تقاطر الحروف إلى شبه انفجار تتناثر فيه شظاياها وكأنها تخضع لمهب ريح عاتية.
وبين المنزعيْن نلحظ تلك القدرة الفريدة للحريري، على تشكيل المساحات بخفة روحية تكاد تجعل منها سماوات باطنة للوحة فيها تسرح المكونات الحرفية وغيرها. وهذه المكونات قد تكون عبارة عن دائرة أو تخطيطات عمودية أو مائلة يحوّلها الفنان إلى تشكيلات غرافيكية تمنح للوحة تناظماً وتوازناً يجعلها أشبه بالمقطوعة الموسيقية. بل بين هذا وذاك، نلحظ نفحة صوفية سوف تسيطر على عمل الفنان في السنوات الأخيرة. لذا صار الحريري يتغنى تشكيلياً بكلمات رمزية صوفية مثل "هو" (المعبرة عن الغائب الحاضر أو الذات الإلهية)، بحيث أضحى فضاء اللوحة مجالاً يمزج بين الفرحة الروحية والأسئلة المتافيزيقية القلقة. هذا المنزع الصوفي سيتجسد في التعبيرية الشطحية، كما في النبرات اللونية الشفافة والحزينة معاً.
وليس من قبيل المصادفة أن يكون معرض الحريري المقبل دائراً حول "الأعمال بالأسود". فالحقيقة أن هذا الفنان أبدع لوحات بالأسود ذات قيمة جمالية استثنائية، لأنها تبين عن عمقه المركب والمأساوي من جهة، وتكشف من جهة أخرى عن قدراته الغرافيكية التي لا تحتاج للألوان وتستغني عنها عنوة قصد بناء عالم مبني على الكثافة التعبيرية والإقلالية (المنيمالزم) اللونية.
فمع اللون الأسود تتحول عملية التشكيل إلى تخطيطات وعلامات وتناظمات رقْشية (زخرفية) تستحيل معها الحروف نفسها إلى كيانات لا معنى لها إلا ما يمنحه لها نظرنا. وهو مسعى يتوافق بشكل واضح مع منظور الفنان وتجريده للحرف من المعنى المعطى والاحتفاظ منه بالمعنى الرمزي.