}

الفلسفة نمطًا للفكر... الفكر نمطًا للوجود

فريد الزاهي 25 مارس 2024
آراء الفلسفة نمطًا للفكر... الفكر نمطًا للوجود
موريس ميرلوبونتي وجان بول سارتر

يكشف التاريخ بين الفينة والأخرى عن نوادر (لا بالمعنى الفكاهي) نطل منها على الجانب الخلفي من حياة كتاب وشعراء ومفكرين لا نكون على علم به، وتمنحنا وعيًا جديدًا بهشاشة أو قوة أصحابها، كما بعذابات وآلام أو لحظات سعادة لم تش بها كتاباتهم. لهذا يكون الأرشيف كنزًا يفصح بعْديًا عن أمور وقضايا ولحظات قد تغير نظرتنا لصاحبها أو تؤكدها، أو على الأقل يكشف عن مناطق ظل لا يعرفها إلا من عايشوه. هذا ما فكرت به وأنا أقرأ رسالة طريفة وجهها موريس ميرلوبونتي لسارتر على الأرجح عام 1930، في عز شبابهما. وهي من الطرافة والعمق بحيث آثرت أن أترجمها هنا كاملة:

"عزيزي جان بول، رفيقي القديم،
لا تلمني إن أنا استعدت الحدث المؤلم الذي حكيت لي عنه ذات مساء في مطعم "السِّلِكت"، بعد أن رأيت الحسناء "ك." تغادر طاولتك فجأة. سألخص الأمر.
صرخت حينئذ: "يا له من فشل ذريع"، بينما أخذتُ مكانها لأواسيك بكأس "نيغروني" قوي. وتابعتَ: "أنت تعلم جيدًا (وأنا أيضًا) أنني لا أتمتع بهيئة الشاب الغاوي، ولا بمهاراتك في الرقص. مع ذلك، كان كل شيء قد انطلق بشكل جيد! فبعد أن أنصتُّ إليها وهي تحكي لي عن تجربتها كعارضة أزياء وفنانة، انطلقتُ في توضيح النظرة المزدوجة التي حددت وجودها: كونها موضوعًا لعين الرسام، ومحاولة يائسة لفهم ذاتية الآخرين عندما ترسمهم... لقد كانت مفتونة بكلامي المعسول، وهو ما لمسته فيها جيدًا. لكنها، كما رأيتَ، نهضت فجأة من دون أن تنبس بكلمة واحدة، متذرّعةً بأن لديها موعدًا عاجلًا. يا له من سوء نية"!
اسمعني، وأنا أقول لك ذلك بصراحة، لقد أخطأت المعاملة. أنت لست أبولون، وهو ما تقوله بنفسك أيضًا، غير أنك شخص جذاب للغاية وحركي ومرح (حتى حين تقلّد البطة دونالد). وفي إمكانك جذب النساء كافة. أنت تعلم، بالمناسبة، أن بيفر فضلتك عليّ ـ فلقد وجدتني لطيفًا مغاليًا في اللطف، على ما يبدو. لكن فلسفتك في الغواية خاطئة. أنت مهووس بالنظرة وامتلاك الآخر، وهو ما تعلم أنه أمر مستحيل. وأنت تضع نفسك في موقف مؤلم حين تكون وجهًا لوجه: أنت مهووس بنظرة الآخر لها، والأمر متروك لك لإسعادها. أو العكس. ثق بي، إنها تفهم الأمر تمامًا. إما أنها تستسلم، لكنها ستظل تشعر بالاستياء من انتصارك، أو... أنها تفرّ منك.
لديَّ قناعة مختلفة تمامًا في هذا الأمر، أي تقريبًا رؤية للعالم. قد لا تصدقني، لكن عندما تصبح تلك القناعة تكتيكًا، فإن هذه الطريقة تنجح في كل الحالات. لذلك لا تكشفْها لأحد. فالعلاقة مع الآخرين، والتي تتضمن أيضًا العلاقة مع من يهواها قلبك، لا يمكن حلها بشكل ثنائي. نحن دائمًا أكثر من اثنين، حتى أثناء اللقاءات الثنائية في حدائق لوكسمبورغ. نحن لسنا بيننا فقط، ثمة العالم الذي يعانقنا. وجسدنا يستعرض نفسه فيه، ويسكنه كاستمرار لوجودنا. ونحن نبدي عن نوايانا، وحركاتنا، ومعانينا فيه. والمشكل هو أن الشخص الذي تحاول أن تحبه يعبّر عن كيانه الجسدي في العالم. فكيف يمكننا أن نجمع بينهما، بل أن نوحد بينهما، من دون أن يتصادما؟ الرهان يكمن في فتح عالم مشترك، هو عالمكما. كيف القيام بذلك؟ الأمر ليس في غاية الصعوبة. في منعطف الشارع، أثناء تجوالكما، أشرْ إلى المنحنى الشهواني للواجهة، والمظهر الغامض للباب، والضوء الخافت لغرفة الخادمة. ارسم خريطة ستصبح خريطة تجوالكما. فهذه الخريطة لها بالفعل رائحة رحلة حج مستقبلية إلى مسقط رأس حبك. افتح أيضًا مستقبلًا نابضًا بالحياة، مصنوعًا من الاكتشافات والمغامرات غير المتوقعة. بالجملة، نحِّ نفسك، لكن اجعلها تخمن هذا العالم اللذيذ. ستصبح أنت العبّار إليه: ولن يكون عليها سوى أن تطلب منك السماح لها بولوجه. صدقني، لا يمكنها إلا أن تكون راغبة في ذلك. وسوف تعبران إليه معًا.

 




إنها معجزة الوجود في العالم: لقد انتزعتَ نفسك من مقابلة ثقيلة وجهًا لوجه، ولم ترسم سوى إمكانية وجود علاقة كهربائية ومرغوبة مع الأشياء. يا سارتر، عليك أن تعلم أن أفضل طريقة للإغواء هي الفينومينولوجيا، تلك التي تفتح وعينا المتجسد على الأشياء. وأنا أحلم بأن أصف يومًا ما هذا التشابك بين أجسادنا والعالم، الذي لم يعد متنافيًا، لأن العالم جسد. لكن كفى من الثرثرة، سأهرع إلى موعد (لا، أيها الرجل العجوز، ليس مع السيدة "ك."!). الجحيم ليس هو الآخرون".

الرسالة
إنها أكثر من رسالة، أو هي رسالة بالمعنى النبوئي للكلمة، تلك التي تكشف لسارتر أن الحياة في العالم لا تحتمل التعقيد، وهي ليست أكثر تعقيدًا من فكرنا الذي يحللها ويفككها ويعيد تركيبها. بل هي درس في علاقة الفلسفة بالحياة، حين تغدو الفلسفة حياة في الحياة. وهكذا نفهم لماذا كان سارتر يغطي على هشاشته الداخلية بالكتابة في المجالات كافة، وبالنشاط السياسي، وبالتنقل من موقع فكري إلى آخر. إننا هنا أمام مفكر مقلّ أدرك منذ بداياته أن الفكر إدراك واستكشاف للجسد ولجسد العالم، وظل يشكل، في نظرته للجسد والحواس والفن، خلفية كانت وراء التجديد في مجال الأنثربولوجيا والفكر الفلسفي، في مقابل فكر أثار ضجات وصراعات ومارس التلفيق بين الأنطولوجيا والماركسية، ونظّر للعبث الوجودي، ثم انطفأ كما لو كان فقط فكرًا انتقاليًا.
قد يقول قائل، وما علاقة هذه الرسالة الشخصية بالفكر؟ صحيح أننا نصادف خيبات الحب والغواية، والميلانخوليا الناتجة عنهما لدى مفكرين وكتاب نعشق فكرهم. وأصحّ من ذلك أن أغلب الأغاني "العاطفية" التي نعشق لا تتحدث عن الغواية الناجحة والحب الأكيد، بقدر ما تعلن عن الخيبة والفقدان والهجر... بيد أن الفلسفة والفكر اللذين لا يكونان ناظمين لحياة صاحبهما قد لا يصلحان البتة لينتظما حياة الآخرين. ما الفائدة من فكر يطور المخيلة والقدرات البرهانية والاستدلالية والتجريد ولا يكون نبراسًا هاديًا لحياة صاحبه، أو متلقيه، فيغدو نمط حياة؟ أن تكون الفلسفة والفكر بقوتهما القاهرة فقط غلافًا لهشاشتنا أمر يقودنا إلى نوع من السكيزوفرينيا غالبًا ما نلاحظها لدى عدد من المفكرين، أي ذلك الفصام بين الفكر والحياة. والملاءمة بين الجانبين لا يكون إراديًا فقط، وإنما نابعًا من قدرة الحياة الشخصية على تمثل الفكر الذي بدوره يستهدي بها ويمتح منها قوته وجدته الباهرة.
لنلاحظ أن ميرلوبونتي الفينومينولوجي حطم أوهام سارتر الوجودي نقديًا، لا بالانطلاق من فلسفته، وإنما فقط من واقعة شخصية كان شاهدًا عليها. وعوض أن يمر عليها مرور الكرام ويراها نافلة من نوافل الحياة، جعلها بوابة لتشخيص فكر سارتر في علاقته بفشله الذريع في غواية امرأة. وليس من قبيل الغرور أن يصرح ميرلوبونتي: "يا سارتر، عليك أن تعلم أن أفضل طريقة للإغواء هي الفينومينولوجيا، تلك التي تفتح وعينا المتجسد على الأشياء". فليس همه فقط أن يعلن له نجاعة الفينومينولوجيا كنظرية للغواية، ذلك أن سارتر يملك أيضًا خلفية فينومينولوجية يمتحها من هوسرل (الوعي القصدي)، خلافًا للفينومينولوجيا التي تتشكل من الوعي المتجسد، أي الوعي غير المتعالي (الترنسندتالي). الذات التي يؤمن بها ميرلوبونتي ذات مدركة ومتجسدة تدخل في علاقة مع جسدية العالم، لا ذات متعالية تحول الحياة إلى وعي. وفي هذه المفارقة بالضبط تكون الفلسفة (هنا الفينومونولوجيا) سبيلًا للسعادة وللتوافق بين الذات والعالم. إن ما حدث لسارتر هنا يذكرنا بشكل أو بآخر بحياة كانط الذي عاش وحيدًا في قوقعة فلسفته الذاتية النقدية، المرسومة سلفًا في الوعي، من غير أن يعيش تجربة الحب.

من الفلسفة شفاءً من العالم إلى الفلسفة نمطًا للحياة في العالم

تشارك كل من جان بول سارتر، وموريس ميرلوبونتي، رئاسة تحرير  مجلة "الأزمنة الحديثة" قبل أن يفترقا




بعد أن ظلت الفلسفة تعد في العالم الحديث والمعاصر عبارة عن تفكير في العالم قد يأخذ أحيانًا أشكال تدخّل سياسي، بدأ الحديث في الآونة الأخيرة في الفلسفة الغربية عن التداوي بالفلسفة، لينتقل أيضًا إلى فكرنا العربي. فالفلسفة، منذ ما قبل السقراطيين، مرورًا بسقراط وأفلاطون والرواقيين، وصولًا إلى نيتشه وفتغنشتاين، وغيرهما من المحدثين، كانت عبارة عن علاج روحي للنفس وآلام الحياة. وقد خصص لذلك جون غرايش كتابًا ضخمًا (العيش بالتفلسف، ترجمه شوقي الزين، 2019) يستعيد فيه تلك العلاقة الجدلية بين الفلسفة نمطًا للمعرفة والتفلسف، نمطًا للوجود، يؤدي إلى ضرب من العلاج الفلسفي من العاهات والأمراض. فإذا كانت الفلسفة تفكيرًا في الوجود، فإن التفلسف سلوك معيش ينصهر في معضلات الحياة، ويسعى إلى حلها. الأمر لا يتعلق بتحويل الفلسفة إلى علم نفس، وإنما إلى دمجها في شرنقة الحياة لتكون ممارسة وجودية لا تمارين تأملية فكرية فحسب. هذا الطابع العلاجي هو ما يستعيد المغربي سعيد ناشيد، بنبرة شامانية، وإن بالحماسة نفسها، في كتاب "التداوي بالفلسفة" (2018)، والذي يستهله بهذا القول: "إذا لم تنفعك الفلسفة في مواجهة أشد ظروف الحياة قسوة وضراوة، فمعناه أن دراستك لها ـ إن كنت تدرسها ـ مجرد مضيعة للوقت، وعليك أن تعيد النظر في أسلوب التعلّم".
قد لا يسعفنا الشعر والفلسفة في الغواية والحب، فما أكثر خيبات العشق لدى كبار الشعراء والمفكرين والفلاسفة، غير أنهما يمنحان لهما طابع المغامرة الحسية التي تغدو فكرًا. وقد لا يسعفاننا أحيانًا في مجاوزة كروب الحياة، غير أنهما قد يتساميان بالألم والعذاب ليحولاهما إلى متعة. بيد أن درس ميرلوبونتي أعمق من نظرة سقراط والرواقيين، وأقرب إلى منظور نيتشه. إنه يدعو سارتر (ونحن معه) إلى أن نستبطن فكرنا ليتحول إلى قلبنا النابض اليقظ في جسدنا، وفي جسد العالم. حينئذ، تنهدّ الهوة مع العالم، كما مع الآخر، بحيث يغدو الفكر آلة ذكية منصهرة في الجسد والحياة تقودنا بأقل الخسارات في المسالك الوعرة لغابة الوجود.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.