}

ريما بالي: الحبّ هو أول ضحايا الحرب

ميسون شقير ميسون شقير 15 يوليه 2023
حوارات ريما بالي: الحبّ هو أول ضحايا الحرب
بالي: أشدّ ما يخيفني أن تفقد الرواية ألقها
أصبحت الرواية السورية، مثلها مثل الفلسطينية، بمثابة الحارسة الأمينة لتاريخٍ من لحم ودم، تاريخ من الوجع والقهر والانهزام والظلم، وهي أيضًا الحاملة لتفاصيل أحلام الحياة في وطن حرّ معافى تسوده العدالة والحرية، تلك الأحلام التي شُنقت بحبال سرتها قبل أن تولد، والتي لا تزال تغافل نومنا، وتجبرنا على الصراخ.
الرواية السورية والفلسطينية، أيضًا، هي ما تجمعه المخيلة والموهبة، من بقايا تلك الجرة الفخارية المطرزة بتطريزات الثوب في جنين وحلب وحمص والقدس، والتي سقطت منا على الحدود ونحن هاربين.
ومن اللافت للنظر حضور عدد كبير من الروائيات السوريات المعاصرات، الأمر الذي قاد إلى تأنيث السرد السوري، وأعطاه طعمًا خاصًا، كطعم طبخ الأم الذي لا يفنى ولا يرحل عن قلوبنا، مهما قادتنا الطرق إلى طعام غريب وجاف.
ومن الروائيات السوريات اللاتي ساهمن في تأنيث السرد السوري تطالعنا الروائية ريما بالي، المقيمة حاليًا في مدريد، والقادمة من سبيل حلب، ومن قلعتها، والتي تكتب كمن يغني موشحًا عن كل ما حلّ بنا، وكمن يرقص على أغنيته بحركات تدهش وتوقظ في القلب نبضه الذي خفت.
رصيد ريما بالي أربع روايات هي رواية "ميلاجرو"، و"غدي الأزرق"، التي تمت ترجمتها إلى اللغة الإسبانية، ورواية "خاتم سليمى"، وأخيرًا رواية "ناي في التخت الغربي" التي صدرت أخيرًا، أربع روايات تتنافس في ما بينها بقدرة الرواية على الوصول إلى الأعماق المخفية، وفي قدرتها على ترجمة ما نخاف أن نترجمه فينا، والروايات الأربع، في الحقيقة، تفوز.
للدخول في عالم الروائية ولحمها ودمها هنا حوار مع ريما بالي:



(*) هل الرواية، في رأيك، هي حامل حقيقي حي للتاريخ يجعله من لحم ودم، أم أنها قطعة مكثفة من الحياة؟
هي هذا وذاك، فهي حامل حقيقي حي للتاريخ، نعم، ولكن من يضمن أن التاريخ المجسد في أي رواية حقيقي؟ أليست الرواية تعبر عن وجهة نظر المؤلف؟ هل يختلف التاريخ حسب وجهات النظر؟ لا، ونعم؛ لا عندما ننظر إليه على أنه أحداث ووقائع جرت في زمان ما، ونعم، عندما نفهم أن قراءة هذه الأحداث تختلف بحسب زاوية الرؤية. مثلًا، لا يختلف اثنان على أن الحرب قامت في سورية، ولكن قراءة هذه الحرب هي عملية قد يختلف عليها العشرات، هي ذلك اللحم والدم الذي يجبله كل روائي من تراب التاريخ ليكتب روايته حسب رؤيته الخاصة. كما أن الرواية تتجاوز وظيفة حامل للتاريخ إلى كونها حاملًا للمستقبل أيضًا، ومرة أخرى، حسب رؤية الروائي. أما كونها "قطعة مكثفة من الحياة"، فهو تعبير حقيقي أيضًا وبديع، وأضيف عليه أن الرواية هي كائن حر لا حدود لإمكانياته، قد تكون قطعة من هذه الحياة، وقد تكون أيضًا قطعة من خيال لم يوجد قط في الحياة، فتصبح حياة بحد ذاتها، فإذا كانت الرواية قطعة من الحياة، فإن الحياة أيضًا بكل ما فيها، ليست إلا قطعة من رواية، لأنه في النهاية، كل ما في الحياة يفنى ولا يبقى إلا هذه الروايات، (وهذه أيضًا إجابة أخرى لسؤال كيف نلوذ بالكتابة من الفناء).

(*) اعتدت أن تختاري لرواياتك عناوين ذكية تحيل إلى السؤال والدهشة اللذين يمثلان سرّ العمل الإبداعي. هل تعتقدين أن للعنوان قيمة حقيقية؟
العنوان هو العتبة الأولية للعمل، وما يبقى في ذهن القارئ. يهمني أن يكون كما ذكرت ذكيًا، وأنيقًا وجذابًا أيضًا، العنوان الباهت يبخس الرواية حقها، لكن في النهاية، الرواية الجيدة لا يعيبها عنوانها، والعنوان الجميل لا يشفع لرواية رديئة.

(*) هل تعتقدين أن الحرية التي نجدها الآن في تغريبتنا الإجبارية في هذه البلاد الغريبة عن لهاثنا ولغتنا وآثار أقدامنا هي سجن آخر للروح، سجن الغربة ذو السماء المفتوحة؟
الحرية لا تعرف الغربة، وهي المكسب الأهم في تغريبتنا التي تعج بالخسارات والجروح. هذه البلاد الغريبة كما ذكرت عن لهاثنا ولغتنا وآثار أقدامنا تجعلنا نلهث بشكل جديد ولهاثنا هنا يؤلم صدورنا، تفرض علينا لغة جديدة نحشر كلماتها وقواعدها بصعوبة في أذهاننا المتعبة، وتفتح أمامنا طرقًا قاسية نجاهد لتترك أقدامنا آثارًا عليها، وماذا عن حرية أرواحنا؟ ومتى كانت أرواحنا حرة؟ وهي التي حملت سلاسلها معها من أوطانها، إذا كانت الغربة سجنًا ذا سماء مفتوحة، فالوطن لطالما كان سجنًا بدون سماء، وأنا أدرب روحي اليوم على التحليق في هذه السماء المتاحة لعلها يومًا تتخلص من قيودها.

(*) في رأيك، هل يختلف تقييم القارئ للعمل الروائي باختلاف الزمان والمكان؟
بعض القراء يغلبهم انفعالهم العاطفي، ويملي عليهم تقييمهم للرواية حسب ما لامست من أوتار حساسة، وما داست على جروح مؤلمة في وجدانهم وذاكرتهم، تمتعهم القراءة عن الأمكنة التي ألفوها والأزمنة التي عاصروها بغض النظر عن القيمة الأدبية والفنية للعمل ككل.




أما القارئ المخضرم، فقد يستمتع برواية لا تمت بأية صلة لزمانه ومكانه ويمنحها تقييمًا عاليًا، لأنه يقرأها في مستويات عميقة، وفي المستويات العميقة، البشر كلهم متشابهون، ومعاناتهم واحدة تقريبًا، مهما اختلف الزمان والمكان.

(*) هل نستطيع، في رأيك، أن نقول إننا نلوذ بالكتابة من الإحساس العميق بالعجز والفناء والعدم؟
كأنك سألتني لماذا تكتبين وأجبتِ نفسك بلساني، ولو فعلت فلن أجيبك إلا بتلك الكلمات التي صغت منها سؤالك الجميل. نعم، وأشكرك على كلمة إننا وليس أنت، فأنت كشاعرة، وكسورية، تفهمين ذلك الشعور العميق بالعجز والفناء والعدم. أكاد أجزم أن كل مبدع، أو فنان، هو ليس إلا إنسان يشعر أكثر من غيره بالعجز، فيخترع عالمه الخاص لينجو. لست أزعم أنني مبدعة، وأن ما أكتبه فنًا جيدًا حسب المقاييس المتعارف عليها، لكن ما أنا متأكدة منه أن الكتابة التي أنجزها، بغض النظر عن مستواها، هي دفة النجاة التي تنقذني من الغرق، هي قدرتي الوحيدة وقوتي التي تدفع عني الإحساس بالعجز، هي الوجود الذي أحتال به على الفناء الذي أخاله يتربص بي ليبتلعني، ثم يبصقني في العدم، كأنني لم أكن.

(*) في رواياتك، حاولت أن تخلقي الحب كناجٍ وحيد من الحرب، وكمعادل لقسوتها، هل تراهنين على الحب؟ 
لا ينجو أحد من الحرب، ولا حتى الحب، بل إن الحب هو أول الضحايا. وفي رواياتي التي غصّت بقصص الحب لم يكن الحب ولا مرة سليمّا وصحيحًا معافى، بل كان دائمًا جريحًا ومشوهًا، أصابته شظايا الحرب بإعاقة ما، أو أفقدته الأهلية، لكنه بقي موجودًا وحيًا ولو في غرف الإنعاش. أنا أؤمن أن الحب هو أحلى وأثمن ما في الحياة، هو سببها ومسببها، لكنني أراهن على الإنسان، الذي إن لم يجد حبًا يعيش من أجله يخترع واحدًا، والذي يتمسك بحبه ليعيش، مثلًا، أنا وأنت، لو لم نتمسك بحب الكتابة، لكنا سقطنا في بئر العدم.

(*) إلى من تدين ريما بالي بتكوين وعيها الثقافي والإبداعي؟
إلى المطالعة طبعًا، ومن دفعني إليها وهو والدي، وما تعرفت إليه من خلالها من فكر وفلسفة وتنوع وجهات نظر. مكتبة والدي المتواضعة والمتنوعة كانت حجر الأساس، جبران خليل جبران، نيتشه، سارتر، وبعض كلاسيكيات الأدب العالمي والعربي.

(*) حين نكتب عن تجربة الاستبداد والظلم التي عاشتها وتعيشها بلادنا، وعن تجربة الحرب والتشرد والاغتراب، هل نحن نتحرر من التجربة ونواجهها، أم أننا نعيش التجربة التي نفعل ما في وسعنا لنسيانها؟
نواجه التجربة، ولكن لا نتحرر منها، نعيش التجربة ولا ننساها، ولن ننساها، هي تلك السلاسل التي ذكرتها سابقًا وسربلت أرواحنا. خروجنا من البلاد لا يعني أن التجربة انتهت لنجرب نسيانها، لأنه بكل بساطة، جزء من أرواحنا ما زال يعيش هناك، وقطع من قلوبنا. نحن نكتب لنتخلص من ثقل السكوت. نكتب كي نترك وثيقة للتاريخ برؤيتنا وأصواتنا، نحن المهزومين، مقابل الوثائق التي سيكتبها المنتصرون (باعتبار أن التاريخ يكتبه المنتصر). يذكرني السؤال بجملة وردت في رواية "غدي الأزرق" على لسان إحدى الشخصيات: " إذا لم نكتب هذا الآن، فلأي سبب، إذًا، اخترعت الكتابة".

(*) ككل مغترب، نعاني من انشطار الهوية، ومن حالة الفصام الدائم بين مرجعيتنا الثقافية الأولى، الوطن الذي ربانا ثم أكل قلوبنا، وبين ما نعيشه في بلاد غريبة آوتنا وحمت حقنا في الحياة. ما تأثير هذا التشظي على ما يمكن أن نقدم من أدب، وهل هي ميزة إضافية إلى جانب كونها جرحًا نازفًا؟
دعيني أولًا أشيد بجمال تعبيرك الفاتن: الوطن الذي ربانا ثم أكل قلوبنا.
وثانيًا، هذا الذي يبدو تشظيًا هو عينه البنية الثابتة الصلبة التي يقوم عليها الأدب الجيد، وما ينزف من ذلك الجرح ليس إلا مدادًا يغمس الإبداع فيه ريشته ليرسم قطعًا فنية لا تنسى. إن تجاوزنا تجربتنا ونظرنا إلى تاريخ الأدب على مر الأزمنة، نجد أن قسمًا مهمًا من أعظم الأدباء هم أشخاص عانوا من ذلك الفصام وانشطار الهوية، وأبدعوا روائعهم في المنافي.

(*) تتميز رواياتك بالرشاقة والسلاسة، وتقديم ما تريدين بطريقة شفافة وذكية. هل تعتقدين أن الإسهاب في المباشرة، وقلة الحرفية في السرد، تفقد الرواية سحرها؟
أتعامل مع روايتي ككاتبة حسب وجهة نظري كقارئة. وكما تعرفين، فكل قارئ له ذائقة أدبية خاصة. وحسب ذائقتي الأدبية، لا تروق لي الروايات التي تسهب في المباشرة. هذه، لا تؤثر فيّ، ولا تحرض ذهني ووجداني، ولا تبقى في ذاكرتي. لذلك، عندما أكتب، أحرص على الابتعاد عن المباشرة، وأحب لعبة الرموز، وهذا ما تمتعني كتابته، كما تمتعني قراءته.




أما قلة الحرفية في السرد، فتصيب الرواية ككل في مقتل، وليس فقط سحرها.

(*) ما الذي يعنيه لك أن تترجم روايتك "غدي الأزرق" إلى الإسبانية؟
سعيدة جدًا بهذا. أن يصدر إنتاجي الفكري بلغة أخرى أمر له طعم غريب وساحر، وأن يقرأ إنسان ذو لغة وثقافة مختلفة روايتي التي نسجتها بخيط حلبي معتق، وعطرتها بالغار، وعجنتها بحبة البركة، هو استحضار لعالمي، ونثره كغبار الذهب في فضاء شاسع فسيح.

(*) بالعودة إلى الجرح، ما هي اللحظة التي قررت فيها الرحيل عن حلب التي لا تزال تحيا وتكبر وتتمدد فيك، وفي كل كلمة تكتبينها؟
في إحدى ليالي الحرب، الصاخبة الفضاء بأصوات القذائف والرصاص، الساكنة الشوارع كوحشة القبور، خرجت إلى شرفة منزلي في حلب. كانت الليلة الأولى التي قطعت فيها الكهرباء عن المدينة بشكل كامل. وقفت كعمياء تحدق في سواد لم تجرحه أية نجمة مذعورة، أو قمر حزين، وشممت رائحة البارود والحريق يعبق بها الهواء الثقيل، فسالت دموعي. عرفت أنها النهاية، وتذكرت بيتًا من الشعر لنزار قباني ورددته في قلبي:
"شكرًا لكم، فحبيبتي قتلت، وصار بوسعكم أن تشربوا كأسًا على قبر الشهيدة".

(*) هل تعتقدين أنه بعد كل الخراب الذي عايشناه في بلادنا وقلوبنا، ما نزال قادرين على إنتاج أدب غير محروق، أدب ينقذ الجمال من كل البشاعة التي تحيط به، ولا يلذع القارئ؟
ومن قال إن الأدب المحروق لا ينقذ الجمال؟ بل هو الجمال في حد ذاته، وهو الأدب في أرقى صوره، وهل أحلى للقارئ الذواق من نص يلذع ويحرق ويميت ويحيي؟ ألم يقل كافكا: "إذا كان الكتاب الذي نقرأه لا يوقظنا بخبطة على رأسنا، فلماذا نقرأ إذًا؟".

(*) في رأيك، هل استطاعت الكاتبة العربية أن تقدم أدبًا يمثلها، ويمثل كل ما تعانيه من حرب وقهر وسجون رأي، ومن تحكم للعادات الاجتماعية الذكورية بحياتها؟
نعم، بالتأكيد. ولكنني أنتظر مزيدًا، نوعيةً وليس كميةً، فمن حيث الكمية، ثمة تجارب كثيرة، النيات جيدة والأفكار رائعة، لكن من حيث النوعية، فالأعمال المبتكرة والمدهشة قليلة، إذ وقعت كثير من الروايات في النمطية، أو التقريرية، أو بالغت في النواح والتفجع. أثق أن الكاتبة العربية تستطيع أن تبلور إبداعها الأدبي بتنوع أكبر، وهذا ما سيثبته المستقبل القريب. أراهن على ذلك.

(*) هل ابتعدت المرأة العربية في نتاجها الفني والإبداعي الكتابي عن رؤية المستشرقين لها، أي هل استطاعت الخروج من إطار الصورة النمطية المتمثلة بكونها ضحية ومستعبدة من قبل السلطة الذكورية؟
أستطيع أن أقول: نعم، بكل ثقة. وأتذكر أعمالًا كثيرة أبدعتها كاتبات بأقلام متحررة من الصورة النمطية التي أطرتها لسنين طويلة، حتى أن بعض الكاتبات جنحن إلى المبالغة في الانفلات من ذلك الإطار، وكل الأطر الأخرى، ولكن، هل صحيح أن المرأة العربية، وعلى امتداد مساحة الوطن، لم تعد ضحية ومستعبدة من قبل السلطة الذكورية؟ هي ابنة هذا الوطن، أولًا وأخيرًا، فحتى الكاتبات والشاعرات والأديبات اللاتي خرجن عن الصورة النمطية في أعمالهن قد يكن ضحايا ومستعبدات من قبل السلطة الذكورية بشكل من الأشكال، أو في وقت من الأوقات.

(*) ما أكثر ما يخيف الروائية والمثقفة التي تعيش فيك الآن؟
أحب أن أنوّه أولًا أنني أفسر كلمة مثقف على أنها لقب يطلق على ذوي العقول المتفتحة والقابلة للنمو والتجديد باستمرار، بغض النظر عن كمية المعارف التي تحتشد فيها. على هؤلاء أخشى أن يخسروا حربهم ضد العقول المتحجرة والمظلمة.
وأما كروائية، فأشد ما يخيفني اليوم (من ضمن ما يخيفني من أشياء كثيرة) أن تفقد الرواية ألقها وتأثيرها، وأن تصاب الروائية التي تعيش فيّ بالإحباط، وينكسر حلمها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.