تستعينُ ببوحِ أبي على جدار الزَّمنِ الماضي، وتقتبسُ من أقوالهِ حكاياتٍ تنعشُ ذاكرتها وتقحمني في عالمٍ من الخيالِ الطُّفولي أرسمُ من خلالهِ صورةً جليَّةً لزوجٍ غادرَها إلى دنيا الحقِّ وهي لم تزل في الأربعين من عمرها.. وأبٍ لم أنعم بحضنهِ إلا بضع سنواتٍ من طفولةٍ يقتات منها يُتمي حتى هذه اللحظة.
أستعير من أمِّي حكاياتِها معه وأتخيَّلني شاهدةً غير مرئيَّةٍ تروي بلسانِها ما شهدته أمُّها، وعاشته بأدقِّ التَّفاصيل وأكثرها التصاقًا بفترةٍ زمنيَّةٍ مضت وكأنَّها شهاب عبرَ مخيلتها ولم تجد سواي لتبوحَ لها بمكنوناتِ قلبها.
أستقي من الزمنِ الماضي أفراحهُ، أنثرُها على أحزانِ الحاضرِ، وأجمِّلُ بها خشيتي وفظاعةَ رؤيتي وتصوُّراتي عن مجاهل القادم إليَّ من بريدِ السمَّاءِ.
أحصي الخساراتِ الفائتةِ.. أضيفُها إلى خساراتٍ لا بد آتية.. أصنِّف نفسي في المرتبة الأولى، كأن يفقدَني أحدٌ ولا أفقدهُ.. كأن يُشيَّعَ جثماني بصمتٍ، ولا أشيِّع أحدًا.
الخسارات لا تلوي على امتعاضِنا من حدوثِها وسط جراحٍ لم تلتئم بعد.. الفَقد يذكِّرنا بأنَّنا سنكون ضمن قافلته المتوجِّهة نحو العدم، يفتح طرقًا ملتويةً ليصل إلينا موفورَ الانتصارِ على محاولات هربنا المتكرِّرة منه وفشلنا في ذلك.
أن ننتظر على مفترق تعاطينا الخاطئ للحياة التي لم نخترها.. لهو أمر لا يقوى الزَّمن على تفاديه أو الإطباق على عنقه في معاركنا المتتالية معه.
نترجَّل عن صهوةِ أحلامنا ونبيعها في سوق النخاسة لأولئك الذين يتفنَّنون في كبح طموحاتنا ووأدها وهي لم تزل أجنَّةً في رحم خيالنا.
نصدَّق عزلتنا الاختيارية بكلِّ تفاصيلها التَّافهة منها والجادَّة، ونضع عنوانًا باهتًا لكل يومٍ لا نرى فيه أحدًا، ولا نسمع صوته،
الاثنين: وداع أبدي
الثلاثاء: ضياع في زحمة الخوف
الأربعاء: حنين إلى ما قبل الولادة
الخميس: ذكريات شاحبة
الجمعة: ندبات غائرة
السبت: احتراق بطيء
الأحد: رماد
ثم نعيد تدوير العناوين كلَّ أسبوعٍ، ونذرو رماد الأحد على جثثِ أرواحنا.
(تموز/يوليو 2022)
* كاتبة سورية.