تنوعت انشغالات الراحل جورج قرم بين الاقتصاد والفكر، كما جرّب كتابة الرواية. وبقدر ما برع في مجال الخبرة المالية، فإنه يعدّ أحد أبرز المفكرين العرب في العقود الأخيرة. وقد طبعت منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط المشرقية تفكيره، بما تمثّله من غنى وتنوع وتراث وتاريخ وجغرافية مفتوحة على الرياح الأخرى. ويعود السبب في ذلك إلى تأثر مساره الحياتي منذ الولادة، في نهاية أربعينيات القرن الماضي في مدينة الإسكندرية من عائلة ثقافية، جدّه الرسام اللبناني الشهير داود قرم، والده موسيقي وفنان تشكيلي، وأمه مثقفة سورية، ماري بخيت، انتقلت عائلتها إلى الإسكندرية، التي شكّلت في تلك الفترة مركزًا حضاريًا متوسطيًا، التقت فيه وتفاعلت ثقافات عدة، الأوروبية واليونانية والعربية.
حاول الشاب أن يسير على طريق جدّه ووالده في الرسم والموسيقى، لكن العائلة عارضت ذلك، وبعد مقاومة استمرت عدة أعوام، درس خلالها الموسيقى بباريس، انتقل إلى القانون والعلوم الاقتصادية والسياسية، وبعد نيله شهادة الدكتوراه بامتياز، عمل في ميادين الخبرة المالية والتعليم الجامعي، لكنه أعطى حيّزًا من وقته للكتابة في الاقتصاد والتنمية والإعمار والفكر، وركّز في صورة أساسية على قضايا المشرق العربي وعلاقته مع أوروبا والغرب عمومًا، وكان من بين أوائل الذي بحثوا في مسألة نزاع الهويات في الشرق الأوسط، وحوض المتوسط كحيّز نزاع وأحلام، والشرق والغرب، ومن بين أهم كتبه "المسألة الشرقية الجديدة" الذي صدر في 250 صفحة بالفرنسية عام 2017 ونقله إلى العربية الأب السوري إلياس زحلاوي، وصدر عن دار الفارابي عام 2021 وهو يحتل موقعًا مهمًا في مشروع قرم الفكري، ويعدّ معبرًا وملخّصًا لنظرته الواسعة لما شهدته منطقة المشرق العربي من انهيارات وحروب. وفي الأحوال كافة، هو استكمال لرؤية قرم لما شهده المشرق من تحوّلات، حيث أصدر من قبل عددًا من الكتب، ومنها على سبيل المثال لا الحصر "أوروبا والشرق"، و"الشرق والغرب: الصدع المتخيل"، و"الفكر والسياسة في العالم العربي: السياق التاريخي والإشكالي"، و"قراءة علمانية للصراعات".
يذهب زحلاوي في تقديم الترجمة العربية، إلى ما يمثّله الكتاب من مقاربة مختلفة للمسألة الشرقية، تقوم على تفكيك العناصر التي حرّفت طبيعة الصراع، ووضعه في سياقه السليم، بما بدا للمؤلف قدرًا تاريخيًا مأساويًا، فُرض منذ مئات السنوات على جميع المجتمعات القديمة والحديثة في شرق المتوسط والعالم العربي. ويرى زحلاوي أن قرم استكشف طموحات الغرب الاستعماري الأوروبي أولًا، ثم الأميركي بنظرة مدققة وموضوعية. وفي ذلك عبّر عن جرأة وواقعية، في وضع الأصبع على "مكامن الضعف والتخلف القديمة والحديثة والمتولّدة أبدًا في هذه المجتمعات كلها حتى باتت تهدّد مصيرها". ومما ساقه زحلاوي من أسباب لترجمة الكتاب حاجة القارئ العربي إلى "مرجع علمي رصين، يتقن ترجيح العقل والتدقيق، على الانفعال والارتجال".
ينطلق الكتاب من تطوير مفهوم "المسألة الشرقية" التي نشأت في القرن التاسع عشر، عندما بدأت الدولة العثمانية بالوهن، وتسابقت الدول الكبرى في حينه، بريطانيا وفرنسا وروسيا، على تقاسم تركة "الرجل المريض"، والسيطرة على المناطق الواسعة التي كانت تابعة له في المشرق العربي وشمال أفريقيا، وهي فترة كانت حاسمة في تحديد شكل المنطقة الشرق أوسطية، وخاصة بعد توقيع اتفاق سايكس- بيكو بين كل من فرنسا وبريطانيا لتقاسم الولايات العثمانية السابقة، وتحويلها إلى مستعمرات ومناطق نفوذ للدولتين في الفترة الاستعمارية اللاحقة. وهو بذلك يعدّ أول مفكر عربي وضع القضية في نصابها ضمن معادلة الصراع بين العالم العربي والغرب، وبذلك اختلف كليًا عن كل الكتّاب والمفكرين الذين تناولوا الأطروحة ونسبوها إلى أزمنة سابقة، ومن زاوية دينية أو عرقية وصراع حضارات، بعضها منذ ظهور الاسلام وحروبه مع الروم، وبعض آخر ربطها بالحملات الصليبية التي قدمت إلى منطقة الشرق الأوسط. وبذلك خرج قرم من فكرة تزييف النزاع، ومحاولات إعطائه الطابع الديني، إلى صراع المصالح والنفوذ والموقع الجغرافي الاستراتيجي والأراضي الغنية بالثروات الطبيعية. وعلى عكس التفكير السائد بأن "المسألة الشرقية" بلغت منتهاها عند الحرب العالمية الأولى، وبعد انهيار الدولة العثمانية واقتسام مناطق سيطرتها، وخاصة بين بريطانيا وفرنسا، فإن كتاب قرم يرى أنها استمرت بعد الحرب العالمية الثانية، وتبلورت أكثر بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي. وبالتالي، فإن كل ما جرى بعد ذلك من خراب وتدهور وانهيارات وحروب في المنطقة العربية في شرق المتوسط، ليس على قطيعة مع الماضي القريب، وإنما على صلة عميقة به وامتداد له، بعيدًا عن اجترار أوهام صراعات قديمة من زمن آخر، ودعاوى قديمة جديدة من التمركز حول الذات ومزاعم المركزية الغربية.
صدر الكتاب في الفترة الحرجة من الربيع واستعادة الثورة المضادة للمبادرة، ومن المفارقات المهمة أنه مثلما كان لأوروبا دور كبير في حسم ما سمّي "المسألة الشرقية" قبل قرن، كان دور الغرب، محوريًا في تحديد اتجاهات الثورات ضد أنظمة الاستبداد، وتجلّى ذلك في التخلّي عن دعم الثورة السورية، وتركها فريسة لنظام دموي، وتدخلات دولية استباحت سورية من قبل إيران وروسيا وتركيا. ولم يختلف الأمر عنه في تونس ومصر وليبيا، حيث تخلت أوروبا والولايات المتحدة عن كل دور من أجل مساعدة الثورات على تحقيق أهدافها، بل أدارت الظهر لشعاراتها القيمية المزعومة كدعم حقوق الشعوب في تقرير المصير، وترويج الديمقراطية، ودعم استقلال الشعوب، والحريات، وسوى ذلك من شعارات، درجت في الخطاب الغربي تجاه دول المنطقة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وانفراد الدول الغربية بزعامة المشهد الدولي.
المسألة الشرقية هي حصيلة لعوامل داخلية وخارجية، لكن الكاتب يعطي أهمية أكبر للخارجية منها، التي تعمل على إخضاع المنطقة وإعادة تشكيلها وفق المصالح الأميركية والأوروبية. وينبّه إلى ضرورة أخذ هذا التلازم بعين الاعتبار، لدى كل مقاربة للتطورات والأحداث، وكل فصل بينهما تعسفي، ولا يساهم في فهم المسألة، بل يبعد المنطقة عن مواجهة المشكلات الكبرى، والسير في طريق الحرية والديمقراطية ومواجهة المشاريع الخارجية، ذات الطبيعة الاستعمارية.