جيمس س سكوت عالم الأنثروبولوجيا الأميركي، المتخصص في الدولة و"الأنثروبولوجيا الفوضوية"، رحل عن 87 عاما في تموز/ يوليو الماضي، بعد أن أحدث ثورة في ميدان الدراسات الاجتماعية، التي اهتمت بالهيمنة والمقاومة. ومنذ عدة أعوام تحوز أعماله على نسبة قراءة عالية، إلى حدّ أنه يعدّ أحد أكثر الباحثين في العلوم الاجتماعية قراءة ومناقشة في العالم، وبفضل الصدى العالمي والتميّز الذي لقيته دراساته، حصل على لقب أستاذ فخري للعلوم السياسية والأنثروبولوجيا في جامعة "ييل" الأميركية.
تم اكتشافه مبكرًا في العالم العربي من خلال نقل أحد أبرز كتبه "المقاومة بالحيلة، كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم" عن دار الساقي، بترجمة الناقد السينمائي إبراهيم العريس بالشراكة مع مخايل خوري، في مطلع تسعينيات القرن الماضي، في الوقت الذي لم يكن معروفًا فيه على نطاق واسع، ويصدر مجموعة من الكتب المهمة حول نفس الأطروحة حول الدولة، وأدوات سلطتها على الأفراد والجماعات، وخاصة البدو، وسكان الجبال والمجتمعات الزراعية. هذا التناقض وجهًا لوجه بين الدولة وهوامشها العنيدة، يشكل هيكلًا لجميع أعماله الأكاديمية.
يقول سكوت في مقدمة الكتاب إن فكرته تطورت نتيجة للجهود الحثيثة، التي بذلها لفهم العلاقات الطبقية في إحدى قرى الملايو شرق أندونيسيا "كنت أسمع روايات مختلفة عن صفقات الأراضي ومستويات الأجور والمكانات الاجتماعية والتغيّر التكنولوجي. على أن ذلك بحدّ ذاته، لم يكن مثار دهشة بقدر ما كانت لأبناء القرى من المصالح المتناقضة". ويلاحظ أن التناقضات كانت ظاهرة بقوة بين الأكثر فقرًا، في حين أن الأكثر استقلالية أقل تبعية. ويصف أشكالًا مختلفة من الخطاب، بين الفقراء فيما بينهم، وبينهم وبين الملاكين الكبار، وبين هؤلاء ونظرائهم. وهنا بدأ الكاتب يزن كلامه بطريقة مختلفة. وقد قادته هذه الفكرة إلى فهم واستيعاب علاقات القوة بفضل الحكمة الشعبية للسكان، التي تقوم على التراث الشعبي الشامل العلني، والموروثات الشعبية المخفية، ونبّهته إلى دراسة السلطة والهيمنة والخضوع والمقاومة، وجاء بأدلة من السيطرة الأبوية والاستعمار والسجون ومعسكرات الاعتقال.
يركز كتاب "المقاومة بالحيلة" على خطاب الهيمنة، ويدرس التعامل مع حالاتها بطريقة مضلّلة، من أجل "عدم رؤية المقاومة فعليا". ويتناول فن الخداع بين المهيمن والمهيمن عليهم، الذين ليسوا احرارًا في قول آرائهم في حضور السلطة. ولذلك يطوّرون خطابًا سريًا يقوم على انتقادها من وراء ظهرها. وكذلك الأمر بالنسبة لصاحب الهيمنة الذي يؤسّس أطروحة كاملة عن تسلّطه والأهداف التي يبتغيها. ويظل هذا الصراع بين الخطابين خفيًا، ولا يظهر على الملأ، بل إن الرياء هو الذي يحكم العلاقة بين طرفي المعادلة على طريقة المثل العامي الشامي "قبّل اليد التي لا تستطيع مواجهتها، وادع عليها بالكسر". وهنا يكشف عن مظاهر من السخرية المرّة من خلال أمثلة ووقائع في الخطابين السري والمعلن، ويدعم دراساته بأمثلة من الأدب والثقافة والتاريخ في مناطق مختلفة من العالم، وهذا ما يجعل منه صالحًا لكل زمان ومكان، من أجل تشخيص وتوصيف الهيمنة بأشكالها المختلفة، وخاصة أشكال المقاومة السرية.
فضيلة كتاب سكوت هذا وبقية كتبه أنها تكشف عن تحدّ معرفي حقيقي لجميع محلّلي العالم الاجتماعي المهتمين بدراسة حالات الهيمنة عبر العالم، وخاصة البلدان التي تخضع لأشكال مختلفة من التبعية والاستعمار، ويكشف عما يختفي خلف قناع التبعية وستار الإجماع والتناغم الاجتماعي الظاهري، ما يسمّيه "السياسة التحتية للتابعين، والسياسة السرية الخفية للمهيمن عليهم". وهو يقدم تشريحًا متعدّد النظرات والأدوات لجميع حالات الهيمنة، حتى الأكثر تطرفًا، التي تعبّر عنها بطرق مخفية. وحين يضع خطاب الطرفين أمام بعضهما البعض، يرفعه إلى مقام التنافس من أجل الوصول إلى استنتاج محكم لرفض نظريات "الوعي الزائف" التي تفترض أن الهيمنة يمكن تبريرها وتسويقها، وخاصة الأيديولوجية منها، التي تصبح، في مرحلة ما، فعالة جدًا، لدرجة أن قيمها وتمثيلاتها يتم تبنّيها ودمجها بالضرورة من قبل المهيمن عليهم.
مسألة أخرى مهمة في هذا الكتاب، هي أنه يزوّد الباحثين والسياسيين ووسائل الإعلام بوسائل نظرية وأدوات، من أجل تحليل وفهم وتسليط الضوء على المجتمعات التي لا يوجد فيها مساحة عامة لتحدّي النظام القائم بشكل مشروع، وذلك من خلال الدراسة المعمّقة للأشكال الذاتية للحياة الاجتماعية وتجارب الهيمنة والاستغلال والقمع. وهو بذلك يقف في صفّ الذين يبحثون عن شروط سياسية من أجل الخلاص من الهيمنة بشتى أشكالها، بما فيها تلك التي تظهر فيما يسمى بالمجتمعات الديموقراطية. أو تلك التي اكتسبت طابعًا قمعيًا، بينما حاولت مجتمعات أخرى حماية نفسها من "الاضطهاد المستقبلي" من خلال اختراع حياة بدون الدولة أو ضدها. وهو تحد متزايد الصعوبة في عالمنا المعاصر، حتى لو ظلّ من الممكن محاولة الهروب من نفوذ الدولة.
ويسوق هذه الفكرة التي تدور معظم كتاباته حولها، ليشرح كيفية اهتمامه بتاريخ الشعوب التي لا دولة لها، أو المتردّدة في السماح لنفسها بأن تحكمها الدولة، ويكشف أنه خلال حرب فيتنام، قام بإعطاء دورة تدريبية حول تمرّد الفلاحين لعشرات الطلاب، معظمهم من اليساريين، و"سمعت نفسي أقول أشياء أدركت فيما بعد أنها تبدو مثل ما يقوله اللاسلطويون"، في حين أنه كان منبهرًا في ذلك الوقت، بشخصيات مثل ماو تسي تونغ في الصين، وهو تشي مينه في فيتنام، وكوامي نكروما في غانا، وسيكو توري في غينيا، لكنه أدرك أن ثوراتهم انتهت إلى خلق دولة "أكثر قمعًا في كثير من الأحيان من الدولة التي حلّت الثورة محلها". ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن الثورة تم تنفيذها بطريقة هرمية. وهذا ما وجّهه إلى الاهتمام بأشكال التنظيم الاجتماعي والعمل اللامركزي. وعلى سبيل المثال، كانت حركة مثل "تضامن" في بولندا ذات أهمية هائلة بالنسبة له، لأسباب ليس أقلها أنها لم تكن هرمية، ورغم ذلك فقد أثبتت أهميتها الأساسية في سقوط نظام الأحكام العرفية في عام 1989، وحتى يومنا هذا لا تزال الثورة جارية في بورما، وهو ما يضع السكان في الأساس ضد المجلس العسكري، لأنها لامركزية تمامًا، وتقودها قوات الدفاع القروية والجماعات العرقية المسلحة والطلاب الذين غادروا المدينة للمشاركة. ولأنها لامركزية، تترك مجالًا للمناورة من قبل السكان في مواجهة المجلس العسكري.
يستخدم سكوت مفهوم "السياسة التحتية" لوصف مجموعة من "المقاومة الخفية"، التي يصعب للغاية على الحكومة القضاء عليها. ويعود أحد الأمثلة المفضّلة لديه إلى فرض الجنرال فويتشخ ياروزلسكي الأحكام العرفية في بولندا. ويضرب مثلًا على ذلك عندما كانت الحكومة تبث نشرة أخبار يومية كاذبة تمامًا في الساعة السادسة مساء، وردًا على ذلك، قرّر بعض الناس أنهم سيغادرون منازلهم في نفس الوقت، ويذهبون للتنزه في الحديقة لمدة ثلاثين دقيقة بالضبط وقبعاتهم مقلوبة. وعندما فرضت الحكومة الغاضبة حظر التجوّل في الساعة السادسة مساءً، قرّر البولنديون وضع أجهزة التلفزيون الخاصة بهم في النافذة، بحيث تكون الشاشة متجهة للخارج حتى يتمكن رجال الشرطة فقط من مشاهدة الأخبار.
مثال آخر هو الصين في عهد الرئيس الحالي شي جين بينغ، حيث يشجّع الحزب الناس على الانضباط، واتباع الأوامر، والعمل الجادّ. كردّ فعل ظهرت حركة تسمى "Lay Flat" على الشبكات الاجتماعية، والتي تشجع السكان على تجاهل هذا الحديث الدعائي عن العمل الجاد، ويستنتج الكاتب من ذلك أن الأفراد يُظهرون ذكاءً كبيرًا عندما يتعلق الأمر باختراع أشكال مقنّعة للمقاومة، والتي لن تسبّب لهم أي مشاكل، وهذا هو الفرق بين التمرّد الذي يتمثّل في السيطرة على الجيش واستبدال الضباط، وبين الفرار من الخدمة العسكرية.