المجتمعات الحديثة تطالب المقيمين فيها بالسعي الدائم. سعي لا يترك موقعًا للكسالى والفاشلين والمتعثرين. ولا يترك موقعًا لمن يتخلف عن الركب لأي سبب مهما كان وجيهًا. حتى المرض أو الحمل يبدو في هذه المجتمعات أشبه بعقوبة يقرر المرء أو المرأة التعرض لتبعاتها الثقيلة. ليس ثمة مكان للقاعدين، رغم أن مؤسسات الرعاية الاجتماعية تتناسل من بعضها على نحو لا مثيل له. لكنها تفترض أن المرض والحمل حالان مؤقتتان، وأن معالجة المصاب بأي منهما تفترض أن يعود بعد شفائه وإبلاله إلى النشاط والسعي الذي "يجب أن يؤدي إلى النجاح". ليس كل ساع هو ناجح حتمًا. لكن السعي مطلوب بإلحاح لفتح نافذة النجاح. وحين يصيب النجاح أحدهم، فإنه ملزم بأن يضاعف سعيه ويضخم نجاحه من دون حدود. وهذا التضخم لا يتعلق حكمًا بحاجاته الشخصية ورغباته. إنه تضخم يجعل الثروة الفائضة، كما هي حال ثروات أباطرة الرأسمالية الحديثة، ملكا للأمة والشعب أكثر مما هي ملك منشئها، الذي تقع على عاتقه مهمة مضاعفتها على نحو يدرجها في مندرجات الثروة القومية التي تجعل بلدا أغنى من آخر، وناتجا محليا أعلى من ناتج محلي آخر.
في هذا العالم الذي يحضنا على السعي من دون توقف، تخفت حرارة معظم القيم التي درجنا على افتراض أنها تعطي معنى لحيواتنا. الحب لا يعود حالًا مستمرة. والرغبة لا تستفيق إلا في مواعيد محددة، وبالكاد نلمح آثارها لمحًا في يومياتنا. واللذائذ أيضًا لها وقتها. وعلى النسق نفسه، لا تعود قيم مثل الكرم والشجاعة والعطاء تعطي المعنى نفسه الذي كانت تعطيه في ما سبق. في هذا العالم الراكض، يصبح الكرم والعطاء مصدرًا للتشاوف وإثبات السلطة، ذلك أننا نمنح النادل بقشيشًا مجزيًا ليس لأنه خدمنا على نحو لم نكن نأمل بتحققه، بل لأننا نريد أن نثبت له أننا أسياده المؤقتون، أرباب عمله الذين يمنحونه مالًا لتغطية حاجاته. وهذا ليس كرمًا على أي وجه من الوجوه. الأمر نفسه ينسحب بالطريقة نفسها على القيم الأخرى. نعتني بنظافتنا وطيب روائحنا لأننا لا نريد للآخر أن يظن أننا منهكون من السعي المجهد. نشتري الثياب الأعلى أسعارا لأننا نريد أن نثبت للآخر الذي يلمحنا لمحة وجيزة أننا مجدون، وقد نجحنا في سعينا، ولسنا كسالى كما هي حال الآخرين.
الثياب التي بدت، في ما مضى من عقود، تضطلع بوظيفة التودد للآخر الغريب، فتظهر مفاتن الجسم لتفرض على الآخر أن يستحسن الجسم والثياب. وتطبع على قماشتها شعارات المصممين الكبار، ليدرك الناظر أن ارتداءها ليس أقل من احتفاء بالجسم، وأن هذا الاحتفاء لا بد سيعقبه قدر من التواطؤ مع الناظر قد يؤدي، أو من وظيفته أن يؤدي، إلى تودد وربما غرام. هذه الثياب اليوم تبدو دعوة حادة لأن يُترك المرء وشأنه، أن يتم إخراجه من خانة طالبي التودد. وباتت تشبه هوية حديثة تحدد للمرء الطبقة التي ينتمي إليها، والفئة التي يجدر بأهلها التواصل في ما بينهم حصرًا. والحق، إن هذا التواصل سرعان ما يتحول من اللغة إلى الإشارات. تمامًا كحال شعارات أباطرة الموضة الظاهرة على القمصان والفساتين: سيلتقي طبيبان في مقهى وسيباشران حديثًا بينيًا. لكن الحديث لن يتعدى شؤون المهنة وشجونها. على وجه من الوجوه، باتت اللغات متصلة أيضًا بالمهن التي بتنا نقيم فيها ولا نخرج منها إلى أي مجال آخر.
والحال، تفرض علينا هذه الإشارات كلها أن نكون مهذبين. أن نتعامل مع الآخر ببرودة المهذبين. وألا نترك لأنفسنا العنان، ولا نفصح عن رغباتنا على نحو لا يكون متصلًا بالكودات التي تدير هذه الرغبات وتقوننها، وتحشرها في أماكن بعينها. والحال، لو أن الثياب ما زالت تبث إشارات ود للآخرين، فلماذا يجدر بنا أن نتأنق للذهاب إلى العمل؟ بل لماذا لا نتأنق إلا حين نكون في أماكن عملنا؟ وما أن نتخفف من أعباء العمل حتى نخلع عن جلودنا كل ما يثقلها من أنسجة؟
هل يمكننا أن نعيد للمحادثات التي تنتج أفكارًا دورها في إعادة تأثيث الاجتماع؟
يجلس المرء في مقهى وأمامه حاسوبه الشخصي. يجري اتصالات عمل ويتحدث مع زملائه وعملائه. ما أن يجلس شخص آخر على الطاولة المجاورة حتى يدرك أن الحديث الذي يجريه جاره على الطاولة المجاورة لا يفيده بشيء. هكذا يستطيع أن يتجاهله كما لو أن ما يقوله ليس أكثر من ضجيج خافت يشبه أصوات عوادم السيارات المارة، أو موسيقى الخلفية التي تبث على نحو خافت. وهو نفسه لا يلبث أن يبدأ حديثًا مع أقرانه حول أمور تتعلق بأحداث المباراة الأخيرة بين فريقي كرة القدم. الرجل الذي ينجز أعماله سيستمع قليلًا إلى الحديث ليتأكد أنه ما زال في الموقع الآمن، وما أن يتيقن أن الحديث يدور حول كرة القدم حتى يكف عن سماعه ويصبح ضجيجا أليفًا تجبر المدن سكانها على التآلف معه. لكن جلوس امرأة ما على طاولة مجاورة تتحدث على الهاتف مع زوجها لتثبت له أنها لم تخنه مع صديقه، سيجعل سكان الطاولات الأخرى عاجزين عن متابعة أعمالهم. ذلك أنها تتحدث في شأن لا يمكن أن يكون عابرًا. إنه حدث كبير، كسقوط قذيفة على الطريق، أو اصطدام سيارتين مسرعتين. والحال، فإن شأنًا دأبت الفلسفة والقصائد على اعتباره من أساسيات تعريفنا لأنفسنا كبشر، وهو الحب، يبدو بالنسبة للجالسين في المقهى كما لو أنه شأن مستغرب، ولا يجدر أن يحضر إلا في الأوقات الخاصة والمحددة سلفًا. الحب الحديث ليس أكثر من تنهيدة استحسان يطلقها المرء وهو يتذوق طعاما شهيًا. لحظة مختطفة من أوقات عبوسة، وسرعان ما تنقضي كما لو أنها لم تكن.
المحادثات التي تنتج أفكارًا
عليك أن تصرف انتباه رجل الأعمال الجالس على طاولة مقهى بقربك عن عمله. أن تبدأ حديثًا مع صديقك الذي يجلس قبالتك خلف الطاولة يدفع هذا المستغرق في عمله للإيمان بأنه يضيع عمره في شؤون لا تمت للمتعة بصلة. بل لا تمت لكل القيم التي نعرّف أنفسنا بامتلاكها بأي صلة على الإطلاق. مثل هذا الحديث، سيدفع الجالس قبالتك إلى التفكر، وسيصرف الجالس خلف الطاولة المجاورة عن شؤونه المعتادة ويبدأ التفكير في معنى حياته، وفي معنى ما أنجزه. وهذا ما يجعلك بالنسبة له قريبًا وأليفًا وهدفًا لمشاركتك أفكاره التي تولدت في تلك اللحظة بسبب التفلت من الروتين اليومي، وبسبب الخروج عن الكليشيهات التي تطبع اللغات في المجتمعات الحديثة.
هل يمكن لمثل هذه الحادثة أن تنتج ودًا متبادلًا؟ بالتأكيد، ذلك أن الود الذي يفضي أحيانًا إلى الحب، ليس أقل من التفكير بالآخر، بجوهره، أو ما نظنه جوهره، ودفعه للتفكير بجوهره وجوهرنا في الوقت نفسه. الحب، لا يفترض به أن يكون أبياتًا شعرية محفوظة لشاعر أحب وكتب، ولا يفترض به أن يكون تقديرًا دقيقًا للمصلحة المتبادلة من الشراكة المفترضة. يفترض به أن يجعل المحبوب فريدًا والمحب مكتشفًا لهذه الفرادة، وهذا يتطلب التفكر مليًا في المحبوب وفي نفس من يحبه، ذلك أننا نحب حقًا ما يدفعنا إلى التفكير فيه.