}

هاريس ورفيقاتها: أهي الثورة التي طال انتظارها؟

بلال خبيز 3 سبتمبر 2024
آراء هاريس ورفيقاتها: أهي الثورة التي طال انتظارها؟
كفّا هاريس ينسجمان مع روح خطابها أيضًا (Getty)


حين تتحدث كامالا هاريس فإنها تلوح بكامل كفيها وكل أصابعها لمساعدة الحضور على تلقي رسالتها. لا ترفع أصبعًا في وجه المستمعين، كما يفعل الخطباء من الرجال غالبًا. هؤلاء، حتى حين يعمدون إلى إلقاء خطبة تحثّ على التسامح والتضامن، يرفعون أصابعهم في وجوه الجمهور. ربما هي إشارة إلى أن الوقت وقت كلام، ويجب أن يكون الأصبع الذي يقدح زناد البندقية ممدودًا في دلالة على أن الوقت ليس وقت حرب. الأصبع الذكوري يرتفع محذّرًا ويرتفع مبشّرًا على حدّ سواء. كفّا هاريس ينسجمان مع روح خطابها أيضًا. لا تذهب في خطابها إلى تخوين الآخر، أو محاولة احتلال موقعه واغتصاب وظيفته منه. ثم إنها لا تلوم أحدًا على ما هي فيه، ولا تحمل الآخرين، خصومها وأصدقاءها، مسؤولية تردّي الأحوال التي تتصدّى لمعالجتها.

هذا الوصف يقع في خانة الإشارات الخفية وغير المنطوقة في الخطاب الذي يستعد لأن يتسيّد على المشهد السياسي الأميركي. وطبعًا ليس ثمة في هذا الوصف ما يوحي بأن الخطط والسياسات قد تكون جيدة أو سيئة، وأن الحلول المقترحة قد تكون منتجة أو فارغة من مضمونها. على أي حال، السياسة في أي مكان في العالم لم تعد تستند إلى وعودها، بل إلى انحيازاتها الاجتماعية. والحال، لن يهتم الناخب بما تقترحه هاريس بل سيهتم بما تمثله، ومن تنطق باسمه.

في المؤتمر الأخير للحزب الديموقراطي الأميركي، صعد إلى المنبر أكثر من شبيهة لهاريس. الغالبية الساحقة من النساء اللاتي اعتلين المنبر يتشابهن سيرة ومعاناة. أمهات عازبات، بنات لآباء مهاجرين، عاملات سابقات في مهن متواضعة، وغالبيتهن اعتنين بأمهاتهن حين عجزن وأقعدهن المرض، إلى جانب العمل لتأمين لقمة العيش وإبقاء السقف الذي يؤوي فوق رؤوسهن. التعليقات التي حفلت بها صحافة الولايات المتحدة وأشار إليها المحللون، لم تكف عن ملاحظة الانتماء الطبقي لرفيقات هاريس ورفاقها في تبني هذا الخطاب السياسي والاجتماعي. لكن المسألة في ظني تذهب أبعد من هذا الانتماء طويلًا وكثيرًا.

ليس ثمة بين النساء اللاتي تصدّين لإنشاء الخطاب الاجتماعي لحملة هاريس، من تروي سيرتها بوصفها تطمح لأن تكون "امرأة مستقلة قوية"، على ما تُعرّف هذه التسمية. هاته النساء لم يدخلن سوق العمل لإثبات أي شيء. دخلن إليه لأن امتناعهن عن الدخول يعني الغرق في العتمة والموت. لم يكن ثمة خيار آخر، عليهن أن يعملن ويدرسن، وإن حدث وحملت إحداهن من دون تخطيط مسبق وأنجبت، فيجب عليها أن تعتني بطفلها وتضيف على أعباء الحياة اليومية حملًا ثقيلًا إضافيًا، ولو أن والدتها أو والدها عجزت وشاخت، فعليها أن تعتني بها وتضيف عبئًا جديدًا على ما يثقل كاهلها أصلًا. في الخلاصة، هاته النساء لم يردن احتلال مواقع الرجال، بوصفهم المهيمنين اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا وفق قسمة العمل التي تعود لقرون بين النساء والرجال. لقد وضعتهن الحداثة والمعاصرة في موقع من يجدر بهن أن يقمن بدوري الرجل والمرأة الغابرين في آن واحد. بمعنى آخر، لقد أثبتن أنهن لسن قادرات على مساواة الرجل فحسب، بل إن الرجل ليس قادرًا على الوقوف بموازاتهن. وهذه السير التي درجن في هذا المؤتمر على قصّها وإخبارها، هي السير التي يجدر بالرجال أن يتمعّنوا فيها جيدًا، ويتعلموا كيف يمكنهم أن ينجوا من الغرق في بحور الظلمات والنسيان التي تواجه كل شخص في المدن المعاصرة.

إلى جانب القوة الهائلة التي تتمتع بها رفيقات هاريس، ثمة رقة لا يمكن إخفاءها تنضح من سيرهن. هاته النساء لسن مهاجرات، كحال الرجال في العقود والقرون الماضية الذين يتركون وراءهم عائلات تحاول ما أمكنها تأمين الحد الأدنى في غياب الرجل المهاجر وانتظار عودته. إنهن نقيض بنيلوب التي لم تجد بدًا من حياكة الثوب مرات ومرات في غياب عوليس. لقد بنين الحياة حيث يجب أن تكون، ونجحن. ولن تكون عودة عوليس ضرورية لهن إلا لإثبات أنهن قادرات على الحب والحنان، ومجبولات بالرقة رغم كل المصاعب التي واجهنها وكل الجنون الذي يعصف بمدن العالم.

رفيقات هاريس، رغم كل ما واجهن وعانين، لا يرفعن شعارًا يدعو لطرد أحد من دائرة التأثير. يعلنّ على نحو لافت، أنهن صانعات مصائرهن. وأن كل ما تعرّضن له، لم يكن بسبب أن العالم ظلمهن. إذ ما الذي يفعله هذا العالم غير ظلم الجميع، نساء ورجالًا وأطفالًا وعجزة؟ يدركن هذه الحقيقة، ويحاولن أن يرسمن لنا جميعًا، والرجال في مقدمة الجميع، كيفية الانتصار على ظلم العالم المجبول عليه. وهذا يختلف عن الخطاب الذكوري السائد في كل العالم منذ قرون، والذي حين تحل الأزمات في بلد من البلدان، يحمّل مسؤولية هذه الأزمات إلى الغريب والمهاجر والمختلف. كما أنهن لا يشبهن ماري لوبن، ولا يشبهن مارغريت تاتشر أو أنجيلا ميركل أو ليز تراس أو هيلاري كلينتون. إنهن يتحدرن من طينة أخرى، ومن بيئة أخرى. بيئة تفترض أن التعاون والتراحم هو الوصفة السحرية التي قد تنجي الإنسان من عسف الطبيعة والصناعة والتطور. وهن جديرات بقيادة هذه السفينة، لأنهن واجهن كل هذا العسف، ونجحن في هزيمة كل هذه التحديات من دون أن يربين مخالب ويرعين أنيابًا لقتل الآخر المخالف أو المنافس. ولأنهن على هذه الصورة، فالأرجح أن الثورة التي يبشّرن بها ربما ستأكل سريعًا معظم قيمنا التي درجنا على اتباعها منذ قرون، وتحل محلها قيمًا أكثر ملاءمة لروح هذا العصر.  

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.