}

المسرح الخليجي بين الهوية والانفتاح

أجندة المسرح الخليجي بين الهوية والانفتاح
مشهد من مسرحية "هناك"
شهد المسرح الخليجي في السنوات الأخيرة اهتمامًا كبيرًا وتركيزًا لافتًا للانتباه من جهة نوعية العروض ومضامينها فضلاً عن تنوع مؤسساته ومهرجاناته وجوائزه. وقد أثر هذا الاهتمام بشكل ملحوظ على نوعيات العروض من حيث الشكل والمضمون.
 
وأمام ما تشهده الساحة المسرحية العربية والعالمية من تطور على مستوى تقني وانفتاح أكبر على الموضوعات الإنسانية والكونية يدور السؤال حول كيفية مواكبة المسرح الخليجي لهذه المتغيرات مع المحافظة على هويته الذاتية.

هذا ما بحثنا عنه في رصدنا لمجموعة من العروض المسرحية الخليجية، ففي قطر عرضت مؤخرا مسرحية "هناك" تأليف وإخراج الفنان القطري عبد الرحمن المناعي، حمل العرض بين طياته همًا إنسانيًا تحدث من خلال شخوصه عن وضعية الإنسان. الفكرة العامة تحدثت عن الحدود والحواجز ومعاناة الشخوص وهي تنتظر الخلاص لتمر إلى "هناك" سواء كانت ذاهبة أم عائدة. فمثلت مسرحية "هناك" الحرية عند البعض، وحلمًا أو استقرارًا عند آخرين أو سكينة وسلامًا.

موضوع مطلق تحدث عن وضع إنساني جمع بين السياسي والاجتماعي والإنساني إلا أننا نلاحظ في هذا العمل رغم بعده العام، أن المخرج وظف العديد من الهمهمات والأغاني التراثية المحلية وبالتالي راوح المناعي بين الانفتاح والمحافظة على الهوية في المضمون.

أما سلطنة عمان فقد عرضت مؤخرًا عملاً حمل عنوان "حرب السوس" وهو من تأليف الكاتب الإماراتي حميد فارس وإخراج العماني مرشد عزيز وإنتاج فرقة السلطنة للثقافة والفن.

هذا العمل قدم للحضور بطريقة اعتمدت على الإبهار حيث كانت السينوغرافيا سيدة العرض استعمل المخرج مؤثرات متنوعة ووظف التكنولوجيا في العرض إلا أن المضمون لم يبتعد عن الموروث العماني من خلال الأزياء واللهجة وواحة النخيل والصراعات الاجتماعية. العمل عالج موضوعًا عامًا في مطلقه مع المحافظة على خصوصية الهوية العمانية رغم استعمال تقنيات حديثة في العرض.

أما فرقة "اوال" من مملكة البحرين فقد قدمت مسرحية عالمية لـ "أوجين يونسكو" اعتمدت على التقنيات الحديثة والحوار العبثي.

ونجد غيرها من الأعمال التي تعتمد على المدارس الحديثة والتقنيات والاعتماد على نصوص عالمية.

وإجمالاً من خلال مواكبتنا لمجموعة من العروض الخليجية تبين لنا أثر هذه المتغيرات على المسرح الخليجي ولكن بدرجات متفاوتة، حيث نجد أحيانًا نصًا محليًا يعالج مواضيع من التراث الخليجي أو مواضيع اجتماعية محلية ولكن بالاعتماد على التقنيات الحديثة والاعتماد أيضا في الإخراج على المدارس المتنوعة. وأحيانًا أخرى هناك بعض العروض تتبنى صبغة عالمية على مستوى المضمون والسينوغرافيا.

وفي هذا الإطار، قال المؤلف والناقد المسرحي القطري الدكتور حسن رشيد في تصريح لوكالة الأنباء القطرية (قنا) "إن المسرح الخليجي يحاول أن يلحق بركب المسرح العربي وهذا الأمر لم يغيب هويته بل ساهم في إثرائها حيث تأثر مسرحنا وحافظ في نفس الوقت على خصوصيات ترسم هويتنا"، مضيفًا أن للمسرح الخليجي هويته الخاصة لغة وتجسيدًا.

وتابع الدكتور رشيد قائلاً: "إن للمسرح الخليجي هويته عبر اللهجة والرؤية الإخراجية والجمهور لكن هذا لا يعني أن ننعزل عن الآخر لذا مع تطور الحالة المسرحية التي يشهدها العالم وجب علينا كمسرحيين خليجيين أن نواكب ونمتزج مع الآخر ونضيف أيضا للآخر لنقدم عملاً متطورًا ومواكبًا للحداثة وفي نفس الوقت محافظًا على الهوية والموروث".

وأكد أن هناك تنوعًا في المسرح الخليجي من خلال حضور كتاب ومؤلفين خليجيين في المحافل الدولية هذه الأعمال النابعة من نص محلي تقدم في العديد من المناسبات برؤى مختلفة وهناك يكمن الإبداع.

ومن جانبه، قال المؤلف المسرحي السعودي فهد الحارثي في تصريح مماثل لوكالة الأنباء القطرية (قنا) "عندما نبحث في المسرح الخليجي وهويته وقدرته على التطور ومواكبته لقضايا الشكل التقنية والفنية سنجد أننا أمام عوائق متشابكة لدينا إشكالية، وهوية، وتراث وتقنية ومعاصرة في منطقة معينة هي الخليج العربي في مساحة محددة هي المسرح".

وأضاف "سنجد أن الهوية تشير لنا بقولنا هو، و"هو" هنا تعني المواطن الخليجي بكل ما به وما حوله وما يتأثر به وما يؤثر عليه، هويتك هي اسمك، وطنك، تكوينك، لغتك، دينك، عاداتك، تقاليدك سلوكك هي تراثك الذي ينقل لك وتنقله عنك بشكله الثابت أو المتحول وبحكم أن الإنسان كائن متبدل متغير متأثر يغير ويتغير كانت الهوية تتحرك وفقا لحركة الإنسان وتتبدل ويعاد تشكيلها وفقاً لمتغيرات مختلفة".

وأشار الحارثي قائلاً "دائمًا تشتعل الجدليات حول الهوية المتغيرة بفعل المحيطات بالإنسان وقدرته على التفاعل مع الآخر دون انسلاخ عن المكون الأساسي عن الهوية ودون الذوبان في شخصية الآخر، لذلك تتأثر إشكالية الهوية في عالمنا العربي كثيراً وفي الخليج أكثر بحكم وجود جماعات بشرية عالمية كثيرة ومختلطة ومختلفة وكل ذلك يأتي أيضاً وسط عالم متغير وظروف متغيرة متبدلة باستمرار. فكيف يستطيع الخليجي أن يتماسك وسط طوفان المتغيرات دون اللجوء لمادة التراث لتأصيل هويته".

وأضاف أن التراث وهو المادة التي تعتبر إرثًا إنسانياً بجميع تفاصيله وعناصره ومكوناته، هو مادة مكملة لموضوع الهوية وكثيراً ما يرتبط موضوع التراث بموضوع الهوية وفقاً لقاعدة أن تراثك هويتك وهويتك تراثك وهو في جملة اعتراضية هنا يحتاج إلى قراءة أفق لا يستطيع أن يقوم بها إلا الفنان، فالباحث والتاريخي والأثري والتراثي لهم مناهج بحثهم، بينما الفنان له خصائص بحثه، والمسرحي في تصوري له قدرة أكثر على البحث بخصوصية الباحث الناحت الدارس لتفاصيل لا يمكن أن يتمكن منها غيره.

واستطرد المؤلف السعودي قائلاً "إنه وعندما نتحدث الآن وفق هذا المنظور عن موضوع الهوية والتراث في مسرح الخليج العربي علينا أن نقرر موضوعا هاماً بداية وهو أن المسرح ليس من تراثنا ولا يرتبط بهويتنا، لكننا وقد وجدنا أنفسنا نتعامل معه كفن عالمي وننغمس فيه ونتعايش مع مكوناته ونحاول أن نخضعه لفكرنا ولهويتنا تعسفاً، وعندما حاول المسرحي العربي أن يتمرد على قوالب المسرح العالمي عبر الحكواتي والاحتفالية والسامر وغيرها من أشكال الفرجة التي اكتفت في عموميتها بالنظرية ولم تتعمق أكثر في مشروعها لأسباب عديدة، كنا في مسرحنا الخليجي مجرد متابعين، متلقين، لم ندخل لتجربة التمرد ولم نتفاعل معها ولم نحاول أن نبحث في عمقنا عما يمكن أن نقيم عليه مشروعاً أو نظرية، لكن في نفس الوقت ظل مسرح التراث ومسرحته هي قضية هامة في الحفاظ على هوية الإنسان وذهب المسرحي الخليجي كثيراً نحو البحر وحكاياته والنهام والنوخذة وذهب نحو الصحراء وتكوينها ونحو القرى والمزارع في محاولة لتأصيل هويته وعدم الذهاب بعيداً في قضايا التجريب في المسرح أو محاولة مناقشة قضايا تأصيل الشكل المسرحي العربي أو استخدام التقنيات المسرحية". 

أما الفنان والمخرج المسرحي محمد المعمري من سلطنة عمان فقد قال في تصريح لـ "قنا": "في الخليج حال المسرح متقلب تارة نجد معظم العروض تميل إلى التراث والموروثات الشعبية ويشتغل عليها المخرجون والفنيون باحترافية متقنة ويتفاعل معها الجمهور وطورا آخر تنقلب الموازين ويغلب على العروض الحداثة والتجريب والاستعراض الجسدي المفرط ".

وأضاف المعمري "غير أني لاحظت أن جمهورنا في الخليج يميل إلى التراث والأصالة ولكن موجة الحداثة ينادي بها المنظرون والأكاديميون والمتأثرون بالمسرح الغربي وهنا نجد تقليدًا واضحًا لكثير من العروض المستنسخة ونجد من العروض ما فيها مزج غريب وخلطات غير مدروسة بين الحداثة والتراث الشعبي هذا النوع يتهمه كثير من النقاد بأنه ضعف وعدم دراية ومعرفة بأدوات "الإخراجية" بينما يراه آخرون أنه حق مكتسب للمخرج أن يجرب كيفما يشاء ما دام أنه يحقق الفرجة والمتعة، اذ المسرح الخليجي  يعيش حالة مخاض بين الحداثة والموروث الشعبي وينتظر مولودا هجينا مع استخدام التطور في التكنولوجيا ومفردات السينوغرافيا المتطورة والمتجددة". 

ويمكن أن نقول إن الظاهرة المسرحية في دول الخليج العربي في حالة جزر ومد فهي تراوح في فترات وأزمنة تخرج التماعات مختلفة ثم تخبو، والقياسات مختلفة يحتاج كل منها لتفصيل في بحثنا عن هوية وتراث وتأصيل وحركة وحراك وتقنية وفعل، هل ننطلق في حديثنا من حيث البدايات من حيث الحركة من حيث مسرح النجوم ومسرح الشباب من حيث تجارب مسرح الصواري في البحرين ومسرح الطائف في السعودية وتجارب المناعي والرميحي في قطر وعبدالعزيز الحداد في الكويت، أم من حيث مسرح عبدالحسين عبد الرضا وسعد الفرج في الكويت وغانم السليطي في قطر ومحمد العلي في السعودية، هل نذهب نحو ظاهرة إسماعيل عبدالله في الإمارات وجيل حسن رجب ومرعي الحليان وعبدالله ملك ومسرح أوال في البحرين ومسرح الدن في عمان، وعندما نذهب لقياس التجربة  المسرحية من مناطق موضوعية فسوف نجدها قد دخلت ضمن مكونات المجتمع وأصبحت من نسيجهم إلا أنها لم تحظ حتى بالاعتراف الشرعي للمكون له فعلاً وواقعاً وعملاً ولذلك دلائل نجدها في ضعف البنية التحتية له، ولنا أن نتصور أنه طوال هذه الفترة لا يوجد إلا معهد مسرحي واحد في دول مجلس التعاون الخليجي ولنا في قاعات المسرح وندرتها نموذج مما أثر بشكل مباشر على جدية التعامل والبحث والنحت في التجربة المسرحية، لقد مرت كل المتغيرات على المسرح الخليجي دون أن تؤثر فيه ذلك التأثير العميق الذي يؤسس لظواهر مسرحية وفي كل بلاد العالم كانت الحروب تؤسس لمرحلة ما بعدها، كانت المدارس المسرحية تقوم على أنقاض اتجاهات قبلها، وهنا شهدت المنطقة أحداثاً متوالية من حرب الخليج الأولى والثانية والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية ودوامة التأثيرات العالمية التي نشهدها حاليا في الانغماس في تكنولوجيا الاتصالات بشكلها السلبي والإيجابي لكن كل ذلك لم نلمس له تأثيرا على مسرح الخليج سوى في صورة المسرح الاستهلاكي التي تنمو وتخبو دون أن نجد لها مقياسا محددا ومسرح المهرجانات التي وإن كانت حالتها المختبرية هامة جداً إلا أنها لا تؤسس لفعل مسرحي متواصل ومتصل بحياة الناس.

ولو نظرنا بشكل مقطع عرضي للحالة المسرحية بدول مجلس التعاون الخليجي لوجدنا أن الكويت بدأت تستعيد مجدها المسرحي على يد نخبة من شباب المسرح الذين استطاعوا تقديم أنفسهم وأعمالهم محلياً وخليجيًا وعربياً وساهم المعهد المسرحي الوحيد بالخليج لديهم في إخراج الكثير من الكوادر.

وفي البحرين، ذات العمق المسرحي التاريخي والطليعي، عادت التجربة بشكل تدريجي ومازال عبدالله السعداوي وخالد الرويعي ويوسف الحمدان وعبدالله ملك وغيرهم يضعون جل خبراتهم من أجل أن تتماسك الأرضية المسرحية ولا تهتز بفعل الغياب وتقلص النشاط المسرحي وحركته.

أما في قطر، فتحاول الفرق المسرحية أن تجد لها سبيلاً للحركة تتلمس في طريقها حالة المسرح والاستفادة من الدعم الكبير لتحويله لمشروع داعم لمشاريع كثيرة ومتعددة وبينما يظل غانم السليطي كحالة مسرحية تستمر تجربة المناعي والرميحي وفالح فايز وتخرج تجارب أبناء عبد الرضا وفهد الباكر وفيصل رشيد لمحاولة تأسيس شكل حواري مع العرض المسرحي.

وبخصوص الشارقة في دولة الإمارات، فقد غدت مركزاً هاماً ليس للمسرح العربي فقط بل للمسرح الخليجي وترجم نشاطها من خلال تحويلها لمركز للدراسات والبحوث والنشاط الدائم المتنوع من إيجاد حالة مسرحية عربية وخليجية.

وفي السعودية، تظهر أجيال كثيرة وحركة كبيرة تناقش نفسها وتؤسس لفعلها وتتجه نحو التقنية بكل أبعادها ويظهر المكون البشري بعمق، وكتجربة فإنها قادرة على تجاوز كل ظروفها وصنع عوالمها.

بخصوص سلطنة عمان تظهر كذلك كوادر شابة تؤسس فرقا خاصة قادرة على تقديم نفسها بشكل جيد وقادرة على خلق عوالمها. 

(قنا)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.