}

"الوثائق الخاصة لليلى مراد" لأشرف غريب: حقائق وحكايات

نديم جرجوره نديم جرجوره 30 نوفمبر 2016

يتّسم "الوثائق الخاصّة لليلى مراد" (دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 2016)، للزميل المصري أشرف غريب، بثلاث ميزات أساسية: استناد إلى وثائق وشهادات مؤكَّدة، تؤرّخ محطات من السيرة الحياتية للمغنية والممثلة المصرية (1918 ـ 1995)؛ نشرُ نُسخٍ من الوثائق والشهادات المُستخدَمة، إلى جانب صُوَر فوتوغرافية متعلقة بحدثٍ أو بحالةٍ معينة، من دون تناسي ملحق الصُور المتنوّعة في فصلٍ مستقلٍ وأخير؛ تحليل سجاليّ تفكيكيّ لأبرز الوثائق والشهادات، ودعم التحليل هذا بأقوالٍ لأناسٍ يعرفون، لمعاصرتهم المراحل تلك، وأشخاصها المعنيين.

أسلوبٌ مختلف

ثلاث ميزات تشير، ضمناً، إلى نقصٍ واضحٍ في آلية التعامل الثقافي العربي مع المواضيع المختلفة. إذْ نادراً ما يعمد صحافيٌّ أو ناقدٌ إلى التنقيب عن وثائق وشهادات وصُوَر نادرة، تتناول جوانب ـ خفيّة أو غير خفيّة ـ في حياة شخصية عامة، لها حضورٌ في الفنون والآداب والثقافة، كما في السياسة والاقتصاد والاجتماع والرياضة، وغيرها. ورغم أن العالم العربي يفتقد، على مستوى الفنون والآداب تحديداً، توثيقاً وأرشفةً علميتين سليمتين (علماً أن التنقيب الجدّي يؤدي حتماً إلى العثور على وثائق وشهادات، أو على بعضها، على الأقلّ) تمنحان المهتمّ والباحث معطياتٍ موثّقة تساهم في بلورة عمله البحثيّ؛ إلاّ أن التغاضي عن هذا الجانب لدى كثيرين، يُشكّل نقصاً فادحاً في رسم، أو في إعادة رسم الملامح المتكاملة لهذه الشخصية أو لتلك.

وأشرف غريب ـ إذْ يعتاد عملاً كهذا في المجلة الأسبوعية المصرية "الكواكب"، بنشره مواضيع صحافية موثّقة عن سينمائيين وممثلين وتقنيين وغيرهم، ولو باقتضاب شديد، لكنه اقتضابٌ مدعومٌ بتوثيق يُعتمد عليه، غالباً ـ يؤكّد، في كتابه هذا، على إمكانية بلوغ مرتبة متقدّمة في كتابة مختلفة، فعلياً، تتمثّل بالتفتيش عن وثائق وشهادات مطلوبة، وبقراءتها بتمعّنٍ وهدوء وطول أناة، وبمقارنتها مع أحداثٍ ووقائع مُتَداولة لتبيان أي خلل ممكن فيها، أو لتأكيد صوابيتها، مع الإشارة إلى هامشٍ ما من الخطأ، حين ينعدم كلُّ سبيلٍ إلى تأكيدٍ كاملٍ.

يريد أشرف غريب أن يكون كتابه مختلفاً، فيلجأ إلى "أصول مجموعة من الوثائق الرسمية والخاصّة، لا تقبل الشكّ أو التأويل، تؤرّخ لحياتها (حياة ليلى مراد) بشكل منضبط ودقيق، وتكشف القراءة المتأنية فيها عن حقائق، تصل إلى حدّ المفاجآت". يُضيف أن هذا "أسلوبٌ، أظنّه جديدا تماماً على التأريخ للحياة الفنية في مصر، ورموزها المختلفة" (ص. 10). لكن المهمة صعبة، والبحث عن وثائق لا تثير شكّاً ولا تخضع لتأويل محتاجٌ إلى وقتٍ، يُشير غريب إلى أنه ممتدّ على 20 عاماً، بدءاً من لحظة وفاتها (21 نوفمبر/ تشرين الثاني 1995)، أو بالأحرى بُعيد وفاتها، مع دخوله، للمرة الأولى، إلى منزلها في منطقة "غاردن سيتي" في القاهرة.


لن يكتفي أشرف غريب بالوثائق والشهادات، ولا بقراءتها وتحليلها، ولا بالتأكّد من صحّتها. فهو، في هذا كلّه، يُعيد صوغ مسارٍ حياتي لفنانة حاضرةٍ في الوجدان، كما في الذاكرة والتاريخ والمشهد الإبداعي المصري والعربي، لغاية اليوم، رغم أنها تعتزل عالم الغناء والتمثيل أربعين عاماً، تنتهي برحيلها. وبإعادته صوغ المسار الحياتي هذا، متوقّفاً عند محطات تبدو ملتبسة زمناً طويلاً ـ زواجها من أنور وجدي، وإشهارها الإسلام، وأصلها الديني اليهودي، وموقفها من إسرائيل، وعلاقتها بـ "ثورة 23 يوليو" (1952)، واختيارها محمد نجيب، والتكاليف الباهظة لهذا الاختيار لاحقاً ـ ينطلق من رغبةٍ في فهم التكوين الاجتماعي لزمن ولادة ليلى مراد، والتحوّلات المختلفة التي تشهدها مصر منذ نهاية القرن الـ 19، والمعالم الأساسية لنهضة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وفنية تعرفها المدينة، بدءاً من المرحلة اللاحقة لنهاية الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918).

ولادتان ومسارات

التشديد على توضيح "زمن ليلى مراد" (الفصل الأول) يُفيد بتبيان سلوكٍ تربوي، أيضاً، تتلقاه ليلى مراد منذ ولادتها في عائلة يهودية مصرية. يُفيد، أيضاً، بتوضيح الولادة الجديدة للقاهرة، إنْ يُمكن قول هذا، مع الغليان الحاصل، حينها، في مواجهة الانتداب البريطاني، والتبدلات الإقليمية، والانقلابات الثقافية المتنوّعة، المترافقة ومحاولات جدّية لتفعيلٍ اقتصاديّ مصريّ، ضمن مخطط وطني يهدف إلى التحرّر من كلِّ استعمارٍ أو احتلال.

هذه بداية كتاب، يُراد له أن يكشف بعض خفايا حكاياتٍ متداولة عن ليلى مراد، يتداخل فيها الخاص بالعام. بداية ترتكز على توضيح لمعنى الاشتغال المهنيّ في مجال الوثائق والشهادات، إذْ يحدِّد أشرف غريب 4 نقاطٍ أساسية، في مسألة استخدامها. فلهذه الوثيقة/ الشهادة أهمية أولى، تكمن في أنها "وليدة" لحظة وقوع الحدث، وهذا يُكسبها "صدقية" (الأهمية الثانية)، و"حيادية" (الأهمية الثالثة)، ما يعني أنها تبتعد عن المبالغات والأهواء الشخصية. وينتهي إلى القول إن الأهمية الرابعة تتمثّل بـ "الإحاطة"، إذْ لا تُقدِّم الوثيقة/ الشهادة "واقع حال صاحبها فقط، وقت وقوع الحدث، إنما يمكن أن تحيط كذلك بمواقف من شاركوا فيه، ومواقعهم وقتها" (ص. 12).

ينتقل "الوثائق الخاصة لليلى مراد" بين أزمنة ومجالات وحالات مختلفة. يروي فصولاً من اشتغال الفنانة بالتمثيل، وزواجها من أنور وجدي، وما فيه من ارتباكات وقلقٍ وتجاذبات، تفضي كلّها إلى طلاقهما ثلاث مرات، وما يتخلّلها من موقفٍ يؤكّده الكتاب بوثيقة/ شهادة، يتمثّل برغبتها في اعتناق الإسلام، التي تُعلنها شفهياً أمام وجدي قبل طلاقهما، وتحوِّلها إلى واقعٍ قانوني وحقيقي، في "محكمة مصر الابتدائية الشرعية"، في 27 ديسمبر/ كانون الأول 1947، مرفِقاً هذا كلّه بنسخة من وثيقة إشهار إسلامها، منشورة في فصل "ثلاث سنوات بحثاً عن وثيقة إسلامها" (53 ـ 68)، بالإضافة إلى صورتين لها مع الشيخ محمود أبو العيون، الذي يُعلِّمها أصول الإسلام.

نصّ كلّ وثيقة/ شهادة منشورٌ في متن الكتاب، إلى جانب صورة للنسخة الأصلية، وبعض الصُور الفوتوغرافية الداعمة للوثيقة وتفاصيلها. لكن أشرف غريب لا يكتفي بهذا، بل يقرأ الوثائق والشهادات بتمعّنٍ، محاولاً وضع مضمونها في سياق مجريات أحداثٍ مرتبطة بالوثيقة ومضمونها. يُقارن ويُحلِل ويؤكّد وفقاً للمعطى المتوفر لديه. وهذا ما يفعله في فصول/ محطات أخرى، لعل أبرزها يكمن في جذورها اليهودية، وما تُسبِّبه هذه الجذور من مصاعب جمّة لها، خصوصاً غداة إنشاء إسرائيل على أرضٍ فلسطين المحتلة، ومساعي "الوكالة الصهيونية" إلى "جمع اليهود جميعهم" في بلدٍ يحتلونه، ويُسمّونه إسرائيل.

قراءات

أسلوب أشرف غريب في التنقيب عن وثائق تؤكد "وطنية" الفنانة، والتزامها الإسلام ومصر، يرتكز على مفهوم علمي في متابعة الخيوط المتشابكة وتفكيكها، لتبيان الحقائق المخفية. لن يتردّد عن الذهاب إلى القوات المسلحة، مثلاً، التي تمتلك ما ينفي كل علاقة لليلى مراد بإسرائيل، رغم أقاويل وشائعات مغرضة، يُتَّهم أنور وجدي بها أولاً، قبل أن تنكشف خديعة ذلك. ولن يتغاضى الصحافيّ عن لحظةٍ إنسانية، داخل الارتباك والقلق والغليان المتأتية كلّها من حالةٍ كهذه، إذْ يشير (ص 81) إلى أنّ تبرئة "القيادة العامة للقوات المسلحة" لليلى مراد من شائعة علاقتها بإسرائيل، تؤدي إلى تنامي علاقة عاطفية بينها وبين وجيه أباظة، مدير إدارة الشؤون العامة، الذي يوقّع على برقية القيادة، المتضمّنة تأكيداً على براءتها. والعلاقة هذه تُصبح زواجاً، يُثمر ابناً يُدعى أشرف.

ثم إنّ المسألة لن تنتهي كما يُتوقَّع، إذْ تزداد التكهّنات/ الشائعات حول ارتباطها بإسرائيل، ما يدفع ضباط "ثورة يوليو 52" إلى التحقيق معها، فتستنجد بمحمد نجيب. وهذا يؤدّي إلى بداية ضغوط جمة عليها، تنتهي باعتزال نهائيّ لها، عام 1955 ("الحبيب المجهول" لحسن الصيفي)، يعتقد غريب أنها (الضغوط) ناتجة من اختيارها محمد نجيب، على نقيض أفعالِ أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، باختيارهم، منذ البداية، جمال عبد الناصر.

ملاحظة أخيرة: رغم أهمية الكتاب، وإمكانية مناقشته أكثر فأكثر، فإن تشديد أشرف غريب على ليبرالية المجتمع المصري في أربعينيات القرن الـ 20 وخمسينياته، يُقابله قول له يناقضه. يقول إن المجتمع المصري غير مهتم، حينها، بيهودية ليلى مراد، بل بكونها فنانة ذات صوتٍ جميل. لكنه يكتب (ص. 68)، في موضوع إسرائيل، أنّ أحداً لم يكن يعلم بإسلامها الشفهي، "وإنما كان الجميع يتعاملون معها على أنها يهودية، ربما بمن فيهم أسرة الفيلم" ("شادية الوادي" ليوسف وهبي، 1947).

بعيداً عن ملاحظةٍ كهذه، يبقى الكتاب وثيقةً تُقرأ، فيستعيد قارئها زمناً منتهيا، وصوتاً يمضي قُدماً في العوالم المقبلة كلّها، وأناقة حضورٍ لسيدة جميلة، تستمر (الأناقة) في تأكيد ألَقِ امرأةٍ فنانة، هو جزءٌ أساسي من ألق مرحلة مندثرة.


*ناقد سينمائي من أسرة "العربي الجديد"

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.