(***)
طرح السؤالين منبثقٌ من أحد أسبابه (الطرح) الأساسية، المتمثّل بقولٍ مفاده: "أهذا وقتُها، كتابةٌ كهذه؟"، ذاك الذي يُردّده من يظنّ أنّ "دفاعه الشرس" عن "قضايا كبيرة وعادلة" يمرّ حتمًا بـ"عدم التلهّي" بكتاباتٍ "غير منسجمة" مع اللحظة. هذا دافعٌ إلى تعليقٍ آخر: قولٌ كهذا يكاد يُشبه سلوكًا لأناسٍ كثيرين، يظهر في ارتدائهم/ ارتدائهنّ الكوفية الفلسطينية، "فقط" عند اندلاع حربٍ إسرائيلية على الفلسطينيين والفلسطينيات.
إلحاح السؤالين يرتبط، أيضًا، بموتِ معارف، مرضًا أو فجأة، ولبعض المعارف اشتغال في ثقافةٍ وفنون، ما يستدعي كتابةً، مهنيّة تحديدًا، في رحيلهم/ رحيلهنّ. فقبل يومٍ واحدٍ على رحيل بيري، تغادر ضِياء البطل (1978)، في لحظة انشغالٍ في حربٍ وأخبارها. للبطل لوحاتٌ تُشَاهد بخفرٍ ومتعة، في أوقاتٍ متباعدة. الفنانة ابنة حسن البطل (صحافي وكاتب سياسي)، ومنى السعودي (نحّاتة)، اللذين تفقدهما في فترة قصيرة (8 ديسمبر/ كانون الأول 2021، و16 فبراير/ شباط 2022 تباعًا). كأنّ فقدانها إياهما في تلك الفترة القصيرة تمرينٌ على عيش الموت، أو تثبيتٌ لقوّة مواجهة الموت، وإنْ يكن الأخير خاتمةً للجميع.
موت ضياء البطل قاهِرٌ، كأي موت يحلّ في قريبٍ، أو صديقٍ، أو في فردٍ يجهد في عيش حياة يريدها عادية، على الأقلّ. مقتل اللبناني عصام العبدالله (مُصوّر صحافي في وكالة "رويترز")، بعد أسبوع واحدٍ على بداية "طوفان الأقصى"، يندرج في سياق صراعٍ ضد الكيان الإسرائيلي المحتلّ، المتفلّت من كلّ عقابٍ على جرائمه المتكرّرة في 75 عامًا. فمقتله حاصلٌ قصدًا، والقاتل الإسرائيلي يعرف أنّ العبدالله، وزملاء/ زميلات له، صحافيين وصحافيات (بعضهم/ بعضهنّ يُصاب بجراح بالغة)، يعملون على نقل الحاصل في جنوبي لبنان. لكنْ، لا كتابة في رحيله خارج وسائل تواصل اجتماعي، تضجّ حينها بغضبٍ وحزنٍ وقهرٍ. فللشاب (1986 ـ 2023) حضورٌ شفّاف وعفوي وصادق ومُحبّ، وهذا يقوله/ يكتبه أصدقاء/ صديقات له. هذا حاصلٌ، في اليومين الأولين على الأقلّ، مع رحيل ضياء البطل.
(***)
الموت مرضًا يُصيب اللبنانية جيزيل خوري (إعلامية، 1961) بعد يومٍ واحدٍ على مقتل عصام العبدالله. رثاءٌ يُنشر غالبًا في تلك الوسائل نفسها، وقليلٌ يُنشر في صحفٍ ومجلاّت إلكترونية. أي أنّ هنالك فسحةً يُفترض بها أنْ تُمنح لمن يكتب في مهنةٍ مُتطلّبة، لن (الفسحة) تحول دون متابعةٍ يومية معتادة لما يحصل "الآن هنا"، بحسب "ترويسة" المقالة الافتتاحية اليومية في "السفير" اللبنانية لجوزف سماحة (صحافي وكاتب سياسي لبناني، 1949 ـ 2007). غلبة العاطفي والانفعالي في وداع العبدالله مفهومةٌ، ومهنيّته غير حاجبةٍ تنبّهًا إلى اشتغال له في غير المهنة، يعرفه أصدقاء/ صديقات ومُقرّبون/ مُقرّبات، يتحدّثون عنه كانعكاس لشخصيته المرحة والمُحبَّبة، والمفيدة في مجالات عيشٍ وعلاقاتٍ، إذْ يُقال مرارًا إنّ حبّه للتعاون والمساعدة، عندما يتمكّن من ذلك، أساسيّة في تفكيره وعيشه وممارسته اليومية هذين التفكير والعيش.
لكنّ الكتابة في رحيل خوري خاضعةٌ، بغالبيتها الساحقة، لعلاقتها بسمير قصير (صحافي وكاتب سياسي ومؤرّخ وأستاذ جامعي متعدّد الجذور، فهو لبناني وسوري وفلسطيني في آنٍ واحد، 1960 ـ 2005)، مع شذراتٍ عنها وحدها. كأنّها غير حاضرةٍ في المشهد العام، وغير معروفةٍ بصفة شخصية ـ مهنية قبل قصير ومعه وبعد اغتياله، وغير مؤثّرةٍ، ولو قليلًا، في إعلامٍ وصحافة ودفاعٍ عن حريات ثقافية وفنية. صحيحٌ أنّ لقصير دورًا كبيرًا في حياتها ومهنتها وثقافتها، وهذا يُنقل عنها مرارًا. وصحيحٌ أنّ شخصيته طاغية، ووعيه المعرفي جاذب، وجرأته في خوض معارك الحرية والتقدّم والمعرفة وحقوق الناس، وغيرها، مؤثّرةٌ ومحرّضةٌ على عيشها وممارستها، لا على التغنّي بها كلاميًا. لكنْ، لخوري حضورٌ مستقلّ أيضًا قبل أنْ يُصبحا شريكين في حياة يومية. كما أنّها مؤسِّسة "مركز سكايز للحريات الإعلامية والثقافية" (مفردة "سكايز" بالإنكليزية، SKeyes، تعني "عينا سمير قصير") بعد اغتياله (2 يونيو/ حزيران 2005). والمركز ناشطٌ في هذا المجال.
كما أنّ لها دورًا أساسيًا في "مهرجان ربيع بيروت"، أو إشرافًا ومشاركة في تنظيم دوراته السنوية على الأقلّ، بالتنسيق مع "مؤسّسة سمير قصير". مهرجان (مسرح، عروض مختلفة، أمسيات موسيقية وغنائية، ندوات،... إلخ) يجهد في تفعيل حرية التعبير والتفكير والنقاش والإبداع. وللمؤسّسة اشتغال في الدفاع عن الصحافة وحريتها، وهذا يتكامل مع ما ينشط فيه مركز "سكايز". هذا كلّه، وغيره، يستحقّ سردًا وانتباهًا، وقراءةً لا بُدّ أنْ تكون، ولو في جزءٍ منها، نقدية، تبغي نقاشًا لا أكثر. لكنّ "الرثاء" المكتوب هنا وهناك، خارج وسائل التواصل الاجتماعي، غير منتبهٍ وغير مكترثٍ إلاّ بكلامٍ عامٍ، لا أكثر.
في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، يُعلَن عن رحيل اللبناني بطرس فرح (ممثل، 1944). هنا أيضًا، ستكون علاقته المهنية باللبناني زياد الرحباني (موسيقيّ ومسرحيّ، 1956) طاغيةٌ في كتابات، معظمها خبريّ، رغم أنّ له أدوارًا في مسرحياتٍ أخرى، كما في أفلامٍ وأعمالٍ تلفزيونية عدّة. هذا مفهوم ومُبرَّر، فالرحباني أحد أكثر الفنانين اللبنانيين اليساريين حضورًا وتأثيرًا في المشهد اللبناني العام، منذ اندلاع الحرب الأهلية (1975 ـ 1990)، بمسرحياته المنتشرة، في أشرطة "كاسيت" أولًا، في مناطق لبنانية كثيرة، يُفترض ببعضها أنْ يكون على عداءٍ، سياسي وعسكري، مع الانتماء السياسي والثقافي للرحباني. مشاركة فرح في "بالنسبة لبكرا شو؟" (1978)، ثالث مسرحية لابن عاصي وفيروز بعد "سهرية" (1973)، و"نزل السرور" (1974)، تُشهره شعبيًا، ونبرته تُسمَع كثيرًا، وبعض كلامه يُصبح "لازمة" يُردّدها كثيرون وكثيرات أعوامًا طويلة.
هذا كلّه صحيح، ويصعب تجاوزه. فشخصية زياد الرحباني وأعماله المسرحية والغنائية ـ الموسيقية فاعلةٌ بقوّة في نفوسٍ وانفعالاتٍ وأنماطَ تفكير وسلوك وعيش. لكنْ، لبطرس فرح أعمالٌ أخرى، خارج العالم الرحباني، إذْ يتعاون مرارًا مع جورج خبّاز (مسرحي، 1976) في مسرحيات عدّة، لها جماهيريتها وتأثيراتها، في مرحلة لاحقةٍ على المرحلة الرحبانية، ولها اهتمامات تختلف عن تلك الموجودة في عمل زياد الرحباني، وأسلوب عمله لا علاقة له بذاك الذي يبرع الرحباني في استخدامه. لكنْ، لخبّاز جمهورٌ، ولمسرحياته تأثيرٌ، ولاشتغاله نكهةٌ تجمع بين حسّ إنساني جميل، وانتماء وطني، وكوميديا مُحبَّبة. ولفرح أعمالٌ أخرى، مع ملحم بركات مثلًا، في مسرحية "ومشيت بطريقي" (1995)، والجزء الثاني (2016) من فيلم Cash Flow لسامي كوجان.
هذا يؤكّد أنّ الحضور الأجمل والأهمّ لبطرس فرح، في المشهد الفني اللبناني، محصورٌ باشتغاله مع زياد الرحباني أولًا، وجورج خبّاز في مرحلة لاحقة.
(***)
إذًا، يُفترض بالوحشية الإسرائيلية، أقلّه منذ "7 أكتوبر" (2023)، ألاّ تمنع وداعًا يليق بأحبّة وأصدقاء/ صديقات ومُقرّبين/ مقرّبات، ومشاهير أيضًا، تحتاج المهنة إلى كتابة في رحيلهم/ رحيلهنّ، وبعض المشاهير بعيدٌ، في الجغرافيا والاهتمام والتفكير، عن تلك الوحشية ونتائجها (ماثيو بيري). فالموت يتغلغل في أرضٍ وبين أناسٍ، من دون رادعٍ أو مُحاسِب، لأنّه فعلٌ بشري، كالحاصل في فلسطين المحتلّة منذ 75 عامًا، وفي بلادٍ محتلّة من أعداء خارجيين، أو من سلطات غير متردّدة عن قتل وتعذيب وإذلال وتنكيل بأبناء البلاد وبناتها. والموت فعلٌ طبيعي أيضًا، فهذا مصيرٌ لن ينجو أحدٌ منه.
رغم هذا، هنالك فرقٌ، ولو قليل، بين كتابةٍ في وداعِ الأقرب، وإنْ في زمن حربٍ، وكتابةٍ في رحيل شخصيات عامّة، في الزمن نفسه، إذْ يشعر من يكتب في رحيل الشخصيات أنّ المهنة الصرفة قاسية، لكنّها ضرورية. لكلّ قريبٍ اشتغالٌ، يُمكن إعادة قراءته في كتابةٍ، تودّع صاحبه/ صاحبته، بأي أسلوبٍ أو شكلٍ. ففي كلّ اشتغال ما يُغري على الكتابة، في لحظةٍ كهذه، وفي أي لحظةٍ أيضًا.