}

"مونس" البلجيكية عاصمة ثقافية لأوروبا 2015

نديم جرجوره نديم جرجوره 2 نوفمبر 2015
سينما "مونس" البلجيكية عاصمة ثقافية لأوروبا 2015
الممثل الأميركي كيرك دوغلاس في "شهوة الحياة"
يصعب اختزال عامٍ كاملٍ من النشاطات الثقافية المتنوّعة، المُقامة في المدينة البلجيكية "مونس"، بمناسبة اختيارها "عاصمة ثقافية لأوروبا 2015". تحضيرات سابقة ممتدّة على مدى ثلاث أعوام مكثَّفة، تؤدّي إلى تنظيم أحداثٍ كثيرة: معارض، مسرحيات، أمسيات موسيقية، كتب، عروض شارع، فنون بصرية، استعادة حكايات ماضية تشهدها المدينة نفسها في سنين بعيدة جداً. هذه مسائل متداولة في العواصم الثقافية كلّها، لأنها تُشكّل انعكاساً لحيوية المدينة، ولمدى قدرتها على جعل كلّ نشاط ثقافي جزءاً من تاريخها الممزوج بوقائع راهنة. 

اهتمامات

أبناء البلدة يُشاركون، هم أيضاً، في أعمال عديدة، خصوصاً تلامذة المدارس وطلاب الجامعات، سواء أولئك المقيمون في المدينة، أم العائدون إليها من جامعات البلد. ضيوف أوروبيون ودوليون متنوّعو الاهتمامات الثقافية والفنية، يأتون إليها للمشاركة في احتفالٍ أو في تقديم عرضٍ، كما يفعل الفرنسيان أنتونيا تادّي ولودفيك نوبيلو، اللذان يُقدّمان مشروعاً غير مألوف كثيراً، يقضي بتصوير تفاصيل من الحياة اليومية في شوارع المدينة البلجيكية، بكاميرا 360 درجة تتضمّن 6 عدسات، موضوعة على سيارة صغيرة الحجم تلتقط المشاهد والمناظر المختارة من جوانبها كلّها. الفيلم يُعرض في إحدى صالات "إيماجيكس" التجارية الكبيرة مساء 23 أكتوبر/ تشرين الأول، في احتفال شعبي ثقافي فني، ويروي مسار المشروع ونقاطه الأساسية، ويلتقط بعض المشاهد المصنوعة في الشوارع تلك، التي يؤدّي فيها أبناء المدينة أنفسهم الأدوار المطلوبة منهم، إما تحيةً لعمّال المناجم - إذ إن مونس وضواحيها معروفةٌ قديماً بمناجم الفحم - أو لتلامذة المدارس، أو لفنانيها وناسها العاملين في شتّى المجالات الحياتية: "من المهم جداً أن يُشارك أبناء المدينة في العروض المقدَّمة في "ستريت ريفيو مونس"، وفي تمثّلات مدينتهم أيضاً"، كما يقول الثنائي تادّي نوبيلو، انطلاقاً أيضاً من حرصٍ على عدم الوقوع في مسائل قانونية متعلّقة بحقوق الصُور والتصوير، إذ إن التعاون مع أبناء البلدة يُلغي أمراً كهذا.

اقرأ أيضًا: المهرجانات السينمائية العربية، تراجع القديم وتقدم الجديد

هذا فنّ مختلف: التقاط صُوَر وتظهيرها بلقطات كبيرة يُضاف إليها تنويعات فنية تُخرجها من عاديتها، وتضعها في سياقات بصرية أخرى. الفيلم يتابع الحكاية، والحكاية لا تقف عند حدّ، لأنها بقدر ما تجد نفسها في صلب الراهن، تعود إلى ماضي المدينة والناس، بهدف التذكير دائماً به وبإنجازات الناس فيه. هناك أيضاً أسطورة القدّيس جورج، قاتل التنين، وهو احتفال سنوي يُشكّل سمة أساسية للمدينة لا يُفرِّط بها أحدٌ من ناسها، ولديه متحف دائم في قلب مونس يعيد إحياء التفاصيل الدقيقة للاحتفال برمّته، بدءاً من الكاتدرائية الأساسية للمدينة، وصولاً إلى ساحتها الكبيرة، ومروراً بشوارعها الضيّقة.

الماضي.. حالياً

العودة إلى الماضي وإعادة التذكير بعناوين عامة ومسارات خاصة فيه لن تكون حكراً على الشعبيّ والأسطوريّ والإنسانيّ البحت فقط، لأن القيّمين على "مونس 2015" يفتحون أبواب القاعات المختلفة داخل المعرض الرئيسي للمدينة أمام حدثين تاريخيين مرتبطين بالمدينة وتاريخها. حدثان/ معرضان اثنان يصنعان "لحظة استعادية" لمرحلتين أساسيتين في المسارين الحياتي والمهني لشخصيتين أوروبيتين تجدان في مونس وضواحيها حيّزاً ما لانطلاقة حياتية، أو لتفعيل ثقافي منعكس على صنيع أدبي. وإذ "تُصرّ" إحدى الشخصيتين على المجيء إلى البلدة وضواحيها، للتعرّف على عمّال المناجم، والعيش معهم، وتبشيرهم - أو محاولة تبشيرهم - دينياً على الطريقة البروتستانتية، والبدء بالخطوات الأولى لمسارها الفني، فإن الشخصية الثانية تجد نفسها في زنزانة داخل سجن المدينة، بعد إطلاق الرصاص من مسدس على صديقٍ، ما يدفع المحكمة إلى إصدار عقوبة بالسجن عامين في مونس، حيث تُنتج الشخصية هذه بعض أجمل قصائدها.

اقرأ أيضًا: أفلام السيرة "الذاتية" الحياتية

الشخصية الأولى هي الفنان الهولندي فنسنت فان غوغ (1853 ـ 1890)، أما الثانية فهي الشاعر الفرنسي بول فرلين (1844 ـ 1896). فان غوغ يأتي إلى بوريناج (بالقرب من مونس) للتواصل مع عمال المناجم بدءاً من ديسمبر/كانون الأول 1878، فيجد نفسه في بيئة فقيرة وإنسانية وشفّافة. يحاول تحقيق ما يريد، لكنه يفشل. مع هذا، يمضي في المناجم وبين ناسها ومعهم أشهراً طويلة تنتهي في عام 1880. بول فرلين، عاشق أرثور رامبو ومُطارِده، يُسجن في بلجيكا، بعد سجال حاد يحدث بينه وبين رامبو في بروكسل (9 يوليو/حزيران 1873) ينتهي بإطلاق الرصاص عليه. يتمّ إلقاء القبض عليه. تُقام محاكمة. يوضع في سجن بروكسل، لكنه يُنقل لاحقاً إلى سجن مونس (الزنزانة رقم 252)، الذي يُعتبر الأفضل والأهمّ حينها (أكتوبر/ تشرين الأول 1873). يبقى هناك لغاية 16 يناير/ كانون الثاني 1875. في السجن، يعثر على "إيمان كاثوليكي"، ويكتب قصائد عديدة تصدر في مجموعات شعرية لاحقاً: Sagesse، و Jadis Et Naguere، وParallelement، وInvectives.

المشترك بين حكايتين

للمعرضين أكثر من مشترك عام: تخطيط ميدانيّ يُدخل الزائر في غرف متلاحقة، هي عبارة عن المراحل المتلاحقة للمسار التاريخي لكل شخصية في المدينة. كتابات على الجدران تعكس جوانب من تطوّر الأحداث أو الحالات أو الانفعالات، أو تُقدّم للزائر بعض المقاطع الشعرية/ النثرية للشخصيتين، صُوَر، كتابات ورسومات بخطّ اليد، مناظر وأدوات مستعملة حينها، نصوص من صحف/ مجلات، أغلفة الدواوين الشعرية لرامبو مثلاً، بالإضافة إلى مجسّم لزنزانته وتقارير المحاكمة والفحوصات الطبية وغيرها. للإضاءة أكثر من دور: تنبيه الزائر إلى ما هو خليطٌ بين النفسي/ الذاتي وبين المادي. أي أن تُؤدّي الإضاءة وظيفة المرافق الصامت، بأن "تقول" للزائر حالةً أو منظراً طبيعياً أو حركةً ما. تشديد الإضاءة على النتاجات، أو تخفيفها في الفواصل الموجودة بين الغرف: هذا كلّه يؤدّي إلى استجابة داخلية للزائر مع المعرض بحدّ ذاته، بكل ما فيه من أدوات وتفاصيل، وبالتالي مع المناخات العامة والخاصة التي يعيشها فان غوغ وفرلين في مساراتهما الحياتية في مونس وضواحيها. كأن الزائر لا يكتفي بالمُشاهدة، بل يتولّد لديه شعورٌ بحضور اللحظة التاريخية أيضاً في "دهاليز" الصالات المشرّعة على كل شيء.


بالنسبة إلى فان غوغ، هناك احتفال إضافي متمثّل بصناعة سينمائية تتمّ في المدينة أيضاً: الممثل الهوليوودي كيرك دوغلاس (مواليد نيويورك، 1916) يأتي إلى المدينة لتصوير لقطات من فيلم "شهوة للحياة" (1956) للأميركي الإيطالي الأصل فنسنت مينيلّي (1903 ـ 1986)، الذي يتناول مقتطفات كثيرة من سيرة حياة فان غوغ. الزيارة قائمة قبل عام واحد: "هوليوود عند سفح كومة" لن يكون كتاباً فقط، بل معرضاً وفيلماً وثائقياً يوقّعه رينو نوفييلّو، لمتابعة أحداث تلك اللحظات المليئة بدهشة أحفاد عاملين في مناجم الفحم في الـ "بوريناج" أيام إقامة فان غوغ، أو بعض العاملين فيها أنفسهم، الذين لا يزالون على قيد الحياة، وهم يلتحقون بها في مراهقتهم الأولى. دهشة الاطّلاع على الكاميرات السينمائية وفرق العمل، ودهشة الوقوف أمام "فان غوغ" نفسه لا أمام كيرك دوغلاس، "إذ إنهم يعرفون الرسّام أكثر من الممثل"، كما يقول دوغلاس ضاحكاً. بالنسبة إلى بول فرلين، فالحدث الإضافي متمثّل بزيارة المغنية الأميركية باتي سميث (1946) سجن مونس لشدّة إعجابها بفرلين، ولرغبتها في زيارة الأمكنة التي يُقيم فيها سابقاً، هي التي تُعلن في العاصمة البلجيكية بروكسل، في زيارة خاصّة، رغبتها الشديدة في اختيار قصائد لفرلين لتنشدها في أغنيات جديدة لها.

لقطة أخيرة

لن يكون الأمر سهلاً. المظاهر جميلة، سواء تلك المُقامة في بعض شوارع المدينة، أو داخل أمكنة العروض والمتاحف وصالات المسرح. كثيرون مرتاحون للحراك الثقافي المتداخل مع زيارة مئات آلاف السيّاح الأوروبيين والآسيويين، خصوصاً أصحاب المطاعم والمقاهي والفنادق والمحلات المتنوّعة. يتردّد أن إدارة الاحتفال تُخصّص، في الأعوام الـ 3 السابقة، دروساً للغات عديدة (أبرزها الهولندية والألمانية) لهؤلاء جميعهم. مراهقون يقولون فرحةً بمشاركتهم في أكثر من عرض مسرحي ـ موسيقي، ويبدون قلقاً إزاء المقبل من الأيام: "ما الذي سنفعله لاحقاً، بعد الانتهاء من مونس 2015؟" يتساءلون. يقولون إنهم سعداء بتعرّفهم على مراهقين آخرين يُشاركونهم هذا العمل أو ذاك: "هل سيتسنّى لنا اللقاء مجدّداً؟".

لكن، في المقابل، هناك من يقول إن "صفقات" ما تجري بين إدارة الاحتفال وناشطين ثقافيين أوروبيين يُقدّمون مشاريع أعمال فتتمّ الموافقة عليها لقاء بدل مالي كبير، من دون الالتفات إلى أبناء البلدة أحياناً. هذه أقاويل غير مؤكّدة، لكنها متداولة في أوساط ثقافية لأبناء "مونس"، يضيف بعضهم أن الإدارة لم تنتبه مثلاً إلى مسألة النقليات، فلم تُخصّص وسائل نقل بين ضواحي المدينة وقلبها، لتسهيل التوجّه إلى أمكنة العروض أمام القاطنين خارج مونس. مع هذا، لا يتردّد هؤلاء عن الاعتراف بأن الاحتفال برمّته، وبشكل عام، مهمّ للمدينة.

(كاتب لبناني)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.