}

هشام بن أوحود: الفوتوغرافية وسؤال التجديد

عز الدين بوركة 1 نوفمبر 2017
صدمة الفوتوغرافية

سيتعرف المغرب على الفن الفوتوغرافي، في فترة الحماية، مع السلطان عبد العزيز الذي أعجب بآلة التصوير، ما سيدفعه وهو لا يزال شابا، لاستدعاء مصور فرنسي ليعلمه آلية التقاط الصور ودروسها، فاقتصرت صُوره على حاشيته داخل القصر وليس خارجه، إذ كان من الصعب إخراج تلك الآلة "الشيطانية" التي كانت تُحارب من قبل فقهاء مغاربة كُثر، وبشدة. إذ كيف يمكن أن تبقى صورة المرء بعد موته؟ وهل يمكن للإنسان منافسة الذات الإلهية المُصوِّرة؟ أسئلة وأخرى، جعلت فقهاء المغرب يحرّمون هذه الآلة القادمة من بلاد "الكفر". بينما كان الوضع السياسي الاستعماري بالبلاد يجبر المغاربة على التقاط صور خاصة لتسجيلهم في وثائق رسمية، ما جعل أغلبية المغاربة ينفرون من التصوير، لارتباطه بالتحريم والمستعمر، وبالتالي لا يسجلون أسرهم في سجلات الحالة المدنية.


لكن عقودًا بعد ذلك سيلج المغرب مرحلة مغايرة، ليست بالكبرى من حيث تبني الفوتوغرافية، إلا أنه سيتم اعتمادها من قبل المغاربة - من الطبقة البورجوازية والمتوسطة - لتسجيل حفلاتهم وأعراسهم ومناسباتهم وأفراحهم. ما جعل الصورة الضوئية ترتبط في المغرب بالمناسبات المحلية فقط، ولم تلج فعليا عالم الفن إلا مع محمد بنعيسى، وبالتحديد سنة 1974، باعتباره أول مصور فوتوغرافي فني بالمغرب، وذلك في معرضه بقاعة الأتلييه l’atelier بالرباط، والذي حمل عنوان "حبّات الجلد"، كانت تيمته هي طفولة الفنان عبر حكي وسرد روائي - تصويري، كأننا أمام فوتوغراف حكائي، معه ستتعرج الرؤية تجاه الفوتوغرافية بالمغرب من التوثيقية والمصاحبة للنصوص والصحافة إلى رؤية مغايرة، الرؤية الفنية.

سينتظر المغرب الدخول الفعلي لفن الفوتوغرافية حتى أواخر سنوات الثمانينيات وبداية التسعينيات، حيث سيختار مجموعة من الشباب الواعدين آنذاك والمنتمين لحساسية الفن المفرطة، أي المعاصرة بالتحديد، الفن المعاصر، هذا الاختيار الذي سيحيلهم على البحث عن أشكال تعبيرية معاصرة وما بعد حداثية، كانت الفوتوغرافية واحدة منها، فاشتغلوا على الفوتوغرافية التشكيلية، من حيث توضيبهم للفضاء وإدخال روتوشاتهم الخاصة واختيار شخوصهم وحكاياتهم، والبحث عن حركية داخل الصورة ما يخلق روحا بداخلها.


التجديد: هشام بن أوحود


هشام بن أوحود (1968- مراكش)، واحد من هؤلاء الفنانين الجدد، المنتمين لسؤال الذات والهوية والتجديد، اختار تبديل الفرشاة بآلة التصوير واختار الصورة بدل القماشة والصباغة، كما اختار لصوره، في غالبيتها، أن تُحكى داخل نص من "الأبيض والأسود".

فعلى طول مساره التشكيلي، سواء عبر التصوير الصباغي أو التصوير الفوتوغرافي، طوّر هشام بن أوحود نظرة على الهوية الفردية والجمعية بالمغرب. فاهتم هذا الفنان بالتقاط صور جسدية وشخصية وبورتريهات (ذاتية)، كما التعبير عن تلك الحميمية الجمعية للأسرة المغربية، كما التعبير عن العلاقة مع الآخر، وذلك داخل مشاهد مرتجلة أو موضبة، ما يجعلها صورا تشكيلية، حيث يتدخل الفنان في الفضاء وتوضيباته.

هشام بن أوحود، الأستاذ السابق للفنون التشكيلية، جعل من تلاميذه في عام 2002 شخوصا لصوره الحكائية، بالأبيض والأسود، التي عرضها في رواق "المكان" Le Lieu بلوريون بفرنسا، تحت عنوان "قاعة الدرس" La salle de classe، إذ كان يعمد هذا الفنان قبل ولوجه القسم إلى تخيّل المشهد الذي سيتم تصويره، ويعمد إلى توضيب وترتيب الفضاء.

لقد شغل موضوع المدرسة العمومية الوضع المغربي والمغاربة، وما يزال، وسُكِب مداد غزير من أجله وعنه، إلا أن أعين الآلة الفوتوغرافية كانت بعيدة عنه، وكانت شحيحة في معالجة الموضوع رغم الأفلام والبرامج الوثائقية والإخبارية التي تناولت الموضوع، لكن الفوتوغرافية من حيث إنها أداة تشكيلية كانت غائبة بالشكل المطلق. هشام بن أوحود سيشتغل على هذه التيمة وهذا الموضوع عبر صور مفاهيمية وتجريبية، تحاصر أزمة المدرسة العمومية، وتستفز المتلقي وتجعله يعيد التفكير في الموضوع، من حيث ما يعرفه النظام التعليمي من سوء الإصلاح وضعف البنى التحتية، مثلما تعانيه دول عربية أخرى. فقد اهتم الفنان الفوتوغرافي التشكيلي العربي بسؤال، في جل اشتغالاته، الإصلاح والظروف المأساوية التي تعيشها بعض الشعوب العربية بالخصوص.

وبفعل ما ربط هذا الفنان من علاقة جيدة مع تلاميذه، وما ترتب عن التدريب والتجريب، كانت شخوص/ تلاميذ هشام بن أوحود، حاضرة بشكل فيه نوع من الاحترافية من حيث التقاط الصور ومن حيث زوايا الالتقاط والنظر. إذ عمد لخلق مشاهد تصويرية لتلاميذ فوق الطاولات أو ممددين على الأرض، ما يجعلنا أمام صدمة "التربية والتعليم" وعلاقة التلميذ بفضاء القسم وعلاقة التربية بالثقافة والجيل القادم.





السردية الفوتوغرافية: الصورة الأقصوصة


تنتمي أعمال هذا الفنان إلى خانة الفوتوغرافية التشكيلية، حيث يعمد الفنان إلى إعادة صياغة الفضاء داخل تراكيب يختارها بدقة، تاركا مساحة للصدفة أيضا، كما هو الحال في تجربته التصويرية "قاعة الدرس"، لكن دونما العَمْدِ إلى استدراج عناصر خارجية عن القاعة، وجعل شخوصه هم تلاميذه، ما يخلق نوعا من العفوية والحميمية، فيما يسود إطار الصورة المقتنصة. وكما ينطلق، وهو المختبئ خلف كاميراته تارة والبارز كشخصية لأعماله تارة أخرى، من الإدراك بكون أن للصورة القدرة على تغيير الواقع، وتأثيرها على الإدراك البصري للبيئة المحيطة بالمتلقي وكما إدراك الذات والإدراك بها.


يُطْلِق بن أوحود العنان للزناد بعدما يؤثث الفضاء ويحدد الزاوية ويؤطر المشهد، فالبحث عن اللقطة العفوية البعيدة عن التصنع، مع وعي جمالي وتخيّل سردي مسبقين، هو غاية الفنان الفوتوغرافي، هذا بالإضافة لبناء سردي وحكائي، ما يجعل كل صورة عبارة عن "أقصوصة" متفردة داخل الألبوم/ المجموعة القصصية/ المعرض. فما يربط الصورة بـ"الأقصوصة" هي تلك القدرة على خلق عوالم مرئية ولامرئية، إلا أن لكل منهما طريقتها، خاصة إنْ كانت الثانية تعمد إلى اللغة والوصف، فالثانية تعمد إلى النظر والضوء. فبن أوحود يعمد إلى حكي "أقصوصات تصويرية" عبر الضوء، حكي امتد لما يقارب من سبع سنوات (1994 -2002) من الاشتغال مع التلاميذ، في تجربة "قاعة الدرس"، ما يجعل شخوصه متنوعة ومتعددة، إلا أنها يوحدها الإطار والقاعة والأستاذ/ الفنان والدرس.

إن كان الكاتب/ القاص يخلق علاقة قوية وحميمية مع شخوصه، فهنا الفنان الفوتوغرافي قد خلق علاقة وِدٍّ مع تلاميذه/ موديلاته، ما جعل للعمل الفني الذي امتد لسنوات، يعرف نوعا من التجاذب بين المصوّر والمصوَّر، بين الفنان وشخوصه، ما خلق عفوية كبرى داخل الأعمال الفوتوغرافية.


الفنان الموديل: الجسد والتصوير الذاتي


إن ظل الجسد، الفكرة/ الموضوع/ الشيء، الذي لا يمكن معالجته ومناقشته والتقرب منه في الثقافة العربية - والإسلامية، ما شكل عقدة كان من الصعب حلها من قِبَل الفنان، وإن اتجه إلى أساليبَ غير - تصويرية (التجريد وغيره...)، فقد تناول كُتاب ونقاد وباحثون أنثروبولوجيون وسوسيولوجيون ومفكرون مغاربة مثل عبد الكبير الخطيبي، فاطمة المرنيسي، موليم العروسي، عبد الصمد الديالمي، هذه "العقدة" داخل كتاباتهم في محاولة لوضع الإصبع على مناطق الخلل ومنابع هذا "التحريم". كما أن فن التصوير (الصباغي أو الفوتوغرافي) المعاصر بالمغربي، تجرأ على الغوص في هذا الموضوع وتجاوز سياج التحريم، نحو التعبير الفني، موظفين الجسد عبر تعابير تشكيلية من تنصيب وبرفورمونس وصولا إلى الفيديو والفوتوغرافيا.

هشام بن أوحود، الذي أدرك شاعرية الجسد، مرّ من "جسد الآخر" إلى توظيف "جسده" كموضوع وأداة تعبيرية داخل أقصوصاته/ صوره. فيعمد إذن لعرض جسده كموضوع تشكيلي، عبر تلك البورتريهات الذاتية autoportraits، كما هو الحال داخل معرضيه المتتابعيْن (Version soft (2003 و(Half couple (2004، فبن أوحود يجعل من جسدٍ موضوعَ ومادةَ الاشتغال الفوتوغرافي، عبر مشاهد مكبرة Gros plans وحضور كامل للجسد العاري للعارض/ الفنان. يجعل بهذا المتلقي أمام سؤال الذات والوجود بالجسد والهوية. إذ يطرح هذه الأسئلة عبر صدمات تصويرية chocs picturaux، فيحضر الفنان هنا هو نفسه "الحالة" الاجتماعية والنفسية التي يحاول من خلالها معالجة موضوع الفردانية والهوية، من حيث كون هذه الثنائية هي أكثر المواضيع التي تشغل التفكير العربي (مشرقا ومغربيا)، إلى جانب موضوع الجسد، الذي صار أكثر تحررا داخل الفن العربي، مع انعكاس اجتماعي، بفعل ما لعبته العولمة في هذا التحرر.




تلعب المشاهد المكبرة، في فن التصوير، دورا أساسيا في إبراز - والدلالة على - الحالة النفسية، وهذا هو الغرض من عرض هشام بن أوحود لتلك الصورة المكبرة للوجه أو مناطق معينة من الجسد، بينما يأتي العري كنوع من الكشف والإظهار والإبراز، ووضع المتلقي أمام صدمة الكشف والستر، في تجاوز لكل طرح فقهي تحريمي، إذ كأننا بالفنان ينطلق من الرؤية المعاصرة المتجاوزة للتصور الديكارتي للجسد الذي أعلى من الروح مقابل الجسد. بينما يأتي الجسد، في الفلسفة المعاصرة، كدلالة وعلامة وموضوع للوجود، "فنحن لا نوجد إلا كجسد وعبر الجسد"، ولا ندرك العالم ولا يدركنا إلا عبر الجسد.


ظل الجسد والعري، أكثر المواضيع منعا وتحريما في التفكير العربي - الإسلامي، ما جعل الفنان طيلة سنوات يمتنع عن معالجتهما والطرق إليهما؛ يعمد هشام بن أوحود إلى تجاوز هذا "المنع"، إلى جانب فنانين تشكيليين مغاربة معاصرين، إلى "خلق" رؤية معاصرة وما-بعد حداثية، تجعل من الإنسان (الفرد/ الجسد) متعاليا على كل التصورات الراديكالية التي تذوبه في الجماعة، حيث ينصهر ويختفي، بينما غاية الفردانية والحداثة هي الإعلاء من القيمة الفردية للكائن، بعيدا عن أي مركزية لاهوتية وراديكالية وإيديولوجية.


من زاوية أخرى: المفكِّر والمفكَّر به


تسعى ثلة من الفنانين المعاصرين إلى خلق رؤى فنية وتشكيلية ثائرة ومتجاوزة للثابت والمألوف، في بحث عن تجدد واستدراج الجميل أو إعادة تدويره داخل رؤاهم المعاصرة والما-بعد حداثية. هشام بن أوحود الذي اختار الفوتوغرافية كأسلوب تعبيريٍ، يحكي ويقصّ ويسرد أقصوصاته عبر صوره الفوتوغرافية التشكيلية la photographie plastique، التي يعالجها عبر ثنائية التوضيب والعفوية. كأني بالفنان يعمد إلى زناد آلته الفوتوغرافية في مرح ولعب ولهو، إلى جانب رؤية استتيقية واجتماعية وحتى سياسية في مواضيع كثيرة.

ينسج هشام بن أوحود صوره الفوتوغرافية عبر تصور تشكيليٍّ وشاعري وأدبي، عبر عمق بصري، يجعل من الفضاء الاعتيادي فضاء لشخوصه وأشيائه ومواضيعه، إذ لا يعمد إلى تقنيات الحاسوب إلا قليلا، ما يجعل الصور خامة وخاصة. بينما يحضر الجسد في أعماله غير مفكّر فيه ومُفكِّر ومُفكّر به، ما يعطيه المكانة الكبرى داخل الإطار، في تكامل بين المرئي واللامرئي، فيصير التفكير رديف الرؤية والبصر، رديف الصورة والتصوير: الفوتوغرافية هنا. فإن كانت الصورة عبارة عن سُنَنٍ، فإن التفكير لا يحدث إلا عبر تفكيك السّنن، ما يجعل الصورة حاملة للتفكير والمفكر فيه والمفكر به.


هذا بالإضافة لاشتغاله على السخرية في تقارب مع اتجاه happening، الذي يعمد فنانوه إلى استعمال الفن كأداة سخرية من الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فنجد هشام بن أوحود قد عرض حمارا في شقة (فضاء) فاخرة، في محاولة للتهكم من التفاوت السافر بين الطبقة الغنية والفقيرة بهذا البلد، كما العالم، ملتقطا بذلك عدة صور فوتوغرافية تهكمية وصادمة ومثيرة للدهشة والتساؤل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.