}

إديث بياف: إنتاج الحزن وتقمصه

عبد الكريم قادري 3 نوفمبر 2017

قدمت السينما والدراما أيقونة الغناء الفرنسي إديث بياف في العديد من الأعمال الفنية وبعناوين مختلفة، أبرزها فيلم "الحياة الوردية"، وتقمّصت شخصيتها فيه الممثلة الفرنسية الساحرة ماريون كوتيار. وقد نال الفيلم شهرة واسعة وازدادت من خلاله أعداد محبي بياف وتوسعت شعبيتها، كما ضمن الفيلم لبطلته هي الأخرى نجاحا فنيا كبيرا، إذ حصدت من خلال هذا الدور جائزة الأوسكار عام 2008.

الغناء من القلب يُغير أماكن المدن، ويجعل خُبراء الجغرافيا في حيرة من أمرهم، ليغدو علمهم مجرد احتمال، هكذا هي المعادلة ببساطة شديدة، التي بنت عليها المغنية الفرنسية إديث بياف أسس إمبراطوريتها ذات الامتداد العالمي، والتي لا تزال أركانها قائمة إلى اليوم، رغم مرور أكثر من نصف قرن على رحيلها، والمصادف في 11 تشرين الأول 1963، بعد صراع مع المرض والحياة.

"المرء دون حبٍّ لا يساوي شيئًا"

استطاعت بياف بوصفها أيقونة الغناء الفرنسي بلا منازع أن تنتقل بالفن إلى مستويات مختلفة، من الروعة، والجمال، والذهول، بعد أن عكس صوتها الملائكي، وغُنتها الجهورية، وأحبال صوتها التي تربط الماضي بالحاضر، الموسيقى بمفهومها المطلق. صوتها كان النداء الخفي الذي ينقل رسائل البشر إلى عوالم الروح، والتي نسكنها ولا نعرف أين تسكن، وحدها العصفورة الصغيرة من قبضت على هذه الأسرار، ومن خلالها أصبح للبؤس، والحزن، والشقاء، صوت واحد، هو صوتها، تنقل من خلاله آهات المقهورين، والمشردين، والحيارى، والسُكارى، واليتامى، ومفترشي الأرصفة، الذين يتفرسُون الوجوه كأنهم يرجون من أصحابها خدمة بسيطة، رغيف خبز أو فرنك فرنسي يقضي به حاجة. هي كل هذا وأكثر، خبرت مآسي هؤلاء جميعا، فقطعت على نفسها عهدا غير معلن، بأن تنقل ما في قلوبهم، ليعرف العالم مدى صبرهم وصبرها، إذ تقول في أغنية " المسكين جان":

أنصتوا ولو للحظةٍ
لأغنية "جان" المسكين
الذي لا تحبه النساء
ولكن لا تنسوا أبدًا
أن في الحياةِ مغزى:
سواء أكان غنيًا أو مفلسًا
فإن المرء
دون حبٍّ لا يساوي شيئًا
دون حبٍّ لا يساوي المرءُ شيئًا.

مرت بياف خلال السنوات الـ47 التي عاشتها بالعديد من المآسي العميقة التي رافقتها طوال حياتها، منذ الولادة وإلى غاية وفاتها، كانت الدموع تعرف جيدا تفاصيل خدودها، لا تُفارقها إلا نادرا، ولا تلبث أن تعود لها من جديد، بداية من الطفولة القاسية التي لم تعرف من خلالها حنان الأب أو دفء الأم، حيث عهد بها والدها لويس ألفونس جازون الذي يشتغل في عوالم المسرح والعروض إلى جدتها من جهة الأم، وهي عائشة سيد بن محمد ذات الأصول المغربية ويقال الجزائرية، بعدها أرغمتها الظروف القاسية أن تعيش بشوارع العاصمة، تغني على أرصفتها الحجرية الباردة، كي تستعطف المارة ليهبوها فكة ما، تشتري بها ما يسد رمقها من جوع أو عطش، إلى أن بسط لها القدر بساطه الأحمر، بعد أن استمع لصوتها لويس لوبلي صاحب ملهى ليلي، ليقدمها بعد ذلك للجمهور من خلال ملهاه، وأطلق عليها اسم بياف، ويعني اسم طائر الدوري الصغير، مع الحفاظ على اسم إديث الذي سميت به تيمنا بإحدى الممرضات البريطانيات المشهورات، وهي إديث كافيل التي قدمت العديد من الخدمات البطولية للجنود الفرنسيين إبان الحرب العالمية الأولى، حيث حكم عليها بالإعدام من طرف الجيش الألماني، وهكذا أصبح اسمها الفني الكامل إديث بياف، وتم الترويج لها في سماء فرنسا الفنية، من طرف لويس الذي نظم لها بروباغندا أفادتها كثيرا، وفتحت لها آفاق الشهرة في باريس، لكن سرعان ما تحولت تلك الشهرة إلى سهام وُجهت لها من قبل الصحافة، التي اتهمتها بقتل مكتشف موهبتها، لكن سرعان ما تبين بأن الجريمة تقف من ورائها عصابات، وازدادت شهرتها أكثر، لينقلها الموسيقى الشهيرريمنود أسو إلى مستويات أخرى من الغناء، وهذا من خلال القاعات الكبرى ودور الغناء الفخمة، بدل الملاهي الليلية، لتبدأ رحلتها الجديدة مع الشهرة الواسعة، لكن الحزن لم يشأ أن يبتعد عنها قليلا، لترسو سفنه في مرافئها من جديد، بعد أن فقدت طفلتها ذات العامين بمرض التهاب السحايا.

كوكتو كتب لها مسرحية

بعد ذلك دخلت مرحلة جديدة من الغناء، صنعت لنفسها التميز والتفرد، وأصبحت تتمتع بهيبة وسمعة رهيبة على مستوى العالم، ما جعل العديد من صناع السينما والمسرح يستثمرون نجاحاتها من خلال تقديمها لأعمال تكون أحد أركانها، حتى أن المسرحي الفرنسي الكبير ميشال كوكتو كتب لها مسرحية لعبت فيها دور البطولة، وتشاء الصدف الغريبة أن يرحل هذا الكاتب الكبير في نفس اليوم الذي ترحل فيه بياف، وكأنهما على موعد واحد مع القدر.

دخلت بعدها بياف في حالة حب عميق مع الملاكم الفرنسي العالمي "مارسيل سيردان"، الذي تعرفت به خلال جولاتها الفنية العالمية، إذ تولدت بينهما عاطفة كبيرة، وحب عارم جارف علم به كل الناس تقريبا، وجعلت حياتها "ترنيمة حب":

ما دامَ الحبُّ يغمر كالسيلِ صباحاتي
ما دام جسدي يرتعشُ تحتَ يديك
لن تهمني كل هذي الهموم
يا حبيبي .. ما دمتَ تعشقني.

وفي أحد الأيام كان الموعد في الولايات المتحدة الأميركية، ليجتمع العاشقان من جديد، ومرة أخرى يرمي الشقاء والحزن بشباكه ويقبض عليها، بعد أن سمعت الخبر كما سمعه العالم، وفاة الملاكم في حادث سقوط طائرة، فنزل هذا الخبر عليها كالصاعقة، وفتت قلبها العليل أصلا، وهذا ما أدخلها في مرحلة متقدمة جدا من الهلوسات والهذيان، أصبحت لا تفرق بين الواقع والخيال. أثرت عليها هذه الوفاة كثيرا، لينتقل الحزن فيها من مرحلة الحزن الداخلي والروحي، إلى الألم الجسدي، بعد حادث السير الذي تعرض له، اذ أصيبت بالعديد من الكسور والكدمات، انعكس على جسدها بألم فظيع، جعلها مدمنة على المورفين وكل أنواع المسكنات، دخلت في مراحل متقدمة من الأمراض والكآبة، إذ أصيبت بتشمع في الكبد وشلل في الجسد. بقيت في تلك الحالة إلى أن وافتها المنية يوم 11 أكتوبر/تشرين الأول 1963.

داعمة لكل المواهب الشابة

عرف عن إديث بياف خلال حياتها بأنها داعمة دائمة لكل المواهب الشابة، إذ أخذت بيد الكثير من الفنانين الذين أصبحوا فيما بعد أصحاب شهرة كبيرة، وهذا على غرار كل من شارل أزنافور وإيف مونتان وثيو سارابو، حيث توسمت فيهم الموهبة، وشجعتهم من خلال تقديمهم المستمر على المسارح، أو اصطحابها لهم خلال جولاتها الفنية. ومن جانب آخر ينقل مصورها الشخصي هوغ فاسال الذي التقط لها أكثر من 10 آلاف صورة خلال مرافقته المستمرة لها، لكن هذه المرة التقط صورة إنسانية حيث قال إن مدير قاعة الأولمبيا برينو كوكاتري قال لها "إديث... إديث.. ساعديني.. سأكون مضطرا لإغلاق الأولمبيا فالبنوك لم تعد تقبل مساعدتي لتراكم ديوني". نظرت إليه إديث ثم قالت بابتسامة صغيرة: "تعال.. تعال سيتم إنقاذ الأولمبيا. غنت رائعتها "لا، لست نادمة" مجانا لمدة ثلاثة أشهر متواصلة وتم إنقاذ الأولمبيا".

وما يزال صدى هذه الأغنية وغيرها يتردد في آذان الكثيرين إلى اليوم، طبعا بلغة فرنسية لها طعم خاص، حيث تنساب تلك الحروف والكلمات والجمل من شفتيها كأنها عسل الشهد. وبقيت تلك الأغاني تؤنس الحزانى والعشاق في وحدتهم وعشقهم إلى اليوم، وتم تقديم العديد من الترجمات لأغانيها من الفرنسية إلى العربية، ومن بينها هذه الأغنية:

"لا، لستُ نادمة"

لا.. لا شيءَ قَطُّ!
لا.. لستُ نادمةً على شيء!
لا الخيرُ الذي قدموه لي
ولا الإساءات..
فكلها.. صارت لديَّ سواء!

لا.. لا شيءَ قَطّ
لا.. لا آسفُ على شيء
قد دُفِعَ الثمن، ومضى، وصار طيَّ النسيان
وأنا.. سعيدةٌ بماضيَّ

أوقِدُ النارَ في ذكرياتي
أوقدُ النارَ بآلامي، بمسرّاتي
فلن أحتاجها بعد اليوم

قد كنستُ كل قصص حبّي
وكل ارتعاشاتها
كنستها لأنني في كل مرةٍ
أبدأُ من الصفرِ من جديد

لا.. لستُ نادمةً على شيء
لأن حياتي، لأن أفراحي
تبدأ اليومَ.. معكَ أنت!

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.