ولكي لا يكون الحكم معممًا، وجب القول إن هناك بعض المسلسلات الدرامية والمسلسلات الفكاهية التي حققت نجاحات، سواء هذه السنة، أو في السنوات الماضية، لكنها قليلة جدًا، ولم تخلق توجهًا يمكن الاستناد عليه. كما أنها لم تؤثر على الأعمال الأخرى، لأنها نجحت لظروف معينة.
في المقابل، تم توريث المشاكل نفسها تقريبًا، لأن تلك الأعمال استندت على الخطوات والتوجهات نفسها، وعلى الأسماء ومؤسسات الإنتاج التي تبحث عن الربح، بمعنى أن الرداءة مثل النجاح يتم توريثها انطلاقًا من سلسلة الإنتاج المتراصة والمتصلة.
جاءت المقدمة أعلاه كتوطئة ضرورية للحديث عن مشهد الدراما الجزائرية، والبحث في أسباب الفشل التي تتكرر كل سنة، ولن يكون هذا وقوفًا على تلك السلبيات من منطلق الدراسة النقدية العميقة، رغم الحاجة الكبرى لهذا الفعل، لأن السياق لا يسمح، على الأقل من ناحية الوقت الحالي، مع عدم اكتمال العرض الكلي للأعمال. لهذا ستكون هنالك عملية رصد كلي لتلك الأسباب يتم من خلالها تفكيك خطابات الدراما الجزائرية، ومحاولة فهم العلاقة بينها وبين المشاهد، أو المُتلقّي، السلبي، الذي يبحث دائمًا عن "الخطأ الأخلاقي"، حتى يرتكز عليه ويوجه من خلاله سهامه الحادة، وبأدوات "غير أخلاقية" لصنّاع العمل والقناة العارضة والسلطة المتهاونة حسب تقديره.
تعدد الخطابات والمنطلق الدرامي واحد
تعددت الخطابات في الأعمال الدرامية التي يتم عرضها حاليًا على القنوات التلفزيونية الجزائرية، فمنها ما يركز على منطلقات الفساد والجريمة المنظمة، مثل مسلسل "الرهان"، الذي أخرجه المصري محمود كامل، وتقوم بعرضه قناة "النهار" الجزائرية.
ويستند على "الحراك الجزائري" الذي بدأ في 22 فبراير/ شباط 2019، ككتلة رئيسية تتشظى من خلالها الصراعات والمسببات الدرامية، خاصة وأن الشخصية الرئيسية التي تمثل عنصر "الشر" تتعدد أو تذوب فيها شخصيات الفساد التي أدانها القضاء بضغط من الحراك، وتمثلها شخصية "عزيز توقار"، التي تتجلى فيها الملامح الفيزيائية لـ"السعيد بوتفليقة"، أما الأفعال فيعكس من خلالها طحكوت من خلال تجارته الفاسدة في بيع السيارات، إضافة إلى الشخصية النافذة في السلطة، وهي شخصية حداد، خاصة من خلال توظيفه لعملية محاولة الهرب إلى الخارج عن طريق الحدود التونسية، وكل هذه الأحداث جرت بعد الحراك، وهي كلها أسماء من الواقع تقبع حاليًا في السجن بسبب جرائم كثيرة، لكن لم يتم ذكرها بالأسماء، وتم الاكتفاء بالأفعال، في المقابل، هنالك شخصية عيسى زياني، وقد عكس هذا الدور المحوري عبد القادر جريو، جسد الضحية الذي وقع في شراك عزيز توقار، الشخصية النافذة التي تتلاعب بكل شيء في سبيل تحقيق المآرب.
ومن بين الأعمال الأخرى التي أثارت الجدل أيضًا في الساحة الجزائرية، مسلسل "البراني"، للمخرج يحيى مزاحم، الذي يتم عرضه حاليًا على قناة "الشروق" الجزائرية، ويسرد المسلسل حسب ما جاء في ملخصه: "دراما عائلية في سياق جزائري خالص، حول ثلاثة إخوة اتبعوا مسارات مختلفة في الحياة، مركزًا على موضوع الحوار في العائلة الجزائرية والعلاقات المعقدة بين الأخوة وأجواء الجريمة المنظمة".
كما أن هنالك أعمالًا درامية أخرى كثيرة، من بينها "دموع لولية" لنجيب أولبصير، و"انتقام الزمن" لإدريس بن شرنين، و"دار لفشوش" لجعفر قاسم، و"ماينا" لوليد بوشباح، و"حياة" لبشير سلامي، و"حداش حداش" لأسامة قبي، و"البطحة" لوليد بوشباح، وغيرها من الأعمال الدرامية والسلاسل الفكاهية بمواسمها المختلفة.
مشكلة السيناريو... تغييب المختصين
تعاني معظم الأعمال المذكورة من مشكلة أساسية، وهي غياب السيناريو المتكامل، وهو المنطلق الأساسي لنجاح أي عمل، والنجاح هنا ليس في نسب المشاهدة المرتفعة، طبعًا هذا عنصر من عناصر النجاح، لكن الانتصار الحقيقي هو في القيمة المضافة التي يحققها العمل، من ناحية الموضوع المطروح، أو المعالجة الإخراجية والقيمة الفنية، لهذا وجدنا أن معظمها يسبح في برك فكرية وفنية ضحلة وفجة، تتراوح مواضيعها بين المخدرات والعصابات والسجون والشجارات والمواجهات الشبابية والعلاقات الغرامية، أي تستمد مواضيعها من الشارع وتعيدها له، في حين تم تناسي المشاكل الأساسية للمجتمع، وهي الفئة الأساسية التي يتم من خلالها توليد الدراما الحقيقية، والتي تنتج الصراع وتتسرب إلى القلوب وتبقى فيها.
كما نزلت كثير من تلك الأعمال إلى المجتمع بدلًا من استدعائه، وهذا من ناحية المواضيع، انطلاقًا من مقولة "الجمهور عايز كده"، في حين تم تناسي، وبشكل شبه كلي، دور الفن كمنتج للقيم الفنية، لهذا جاءت المواضيع غير مستساغة ومتكلفة في أحيان أخرى، خاصة من ناحية الحوار، إذ نجد بأن هنالك تغييبًا كليًا له، ولا يتم إبراز قوته في صنع الفارق، كما أن دوره لم يتجلى كقوة فارقة، مع تناسي دوره المحوري في صناعة عمل جيد، بمعنى أن الشخصيات لا تحس بالكلام الذي يصدر منها، أو أن الحوار لا يعكس القيمة العاطفية، أو الحدث في تلك اللحظة، وهذا ما لاحظناه مثلًا في الحلقة الثانية في مسلسل "الرهان"، عندما استدعى مفتش الشرطة (العمري كعوان) السجين عيسى زياني (عبد القادر جريو)، وقد جرى بينهما حوار حول عزيز توقار. ورغم القيمة الكبيرة للحوار، بحكم أن عيسى تجمعه عداوة كبيرة لتوقار، كما أن الشرطي يبحث عن معلومات عن طريقه، لكنه كان فارغًا، من دون أي عاطفة، أو انفعال قوي، ويعطي الشعور بأنه مشهد تمثيلي لا يحمل أي قيمة. وهنالك أمثلة أخرى كثيرة لا يسعنا ذكرها، سواء في هذا المسلسل، أو في الأعمال الأخرى.
تحدث معظم هذه المعضلات الأساسية في سيناريوهات تلك الأعمال، انطلاقًا من أن كثيرًا منها جاء عن طريق الكتابة الجماعية، أو الشراكة الثنائية، أو أكثر، خاصة مع دخول المخرج كطرف فيه، سواء كان صاحب فكرة، أو قصة، وهو المعطى الذي تم بموجبه تغييب الكتاب المختصين وتجاهلهم، وعدم إعطائهم الفرصة المناسبة لإظهار مواهبهم وحرفيتهم في هذا المجال، كما أن هنالك جهات تحاول تضييق هذه الدائرة وعدم الاعتماد على الأسماء الجديدة، ليس لأنها لا تملك الخبرة، أو الموهبة، بل لأن أعمالهم المكتوبة لا تقرأ أصلًا، ولا يتم مراعاة جهد كتابة سيناريو من العديد من الحلقات، من هنا بات يتم الاعتماد على آليات كتابة غير مجدية، ما حوّل الكتابة الدرامية إلى ميدان مليء بالثغرات الفنية وشبهات الفساد.
تكريس آليات الرقابة من السلطة والمجتمع
خلقت الأعمال الدرامية الجزائرية لرواد منصات التواصل الاجتماعي كثيرًا من الأسباب التي تقود إلى التنمر عليها وانتقادها، وحتى السخرية منها، وهذا سلوك واضح في كل بلدان العالم، بمعنى أنه "نقد مواز" وإن كان غير مؤسس أو مدروس، لكن كثرة تلك الهنات تفرض ذلك النقد، ومن جهة أخرى بالغت عدد من فئات المجتمع في "نقدها الأخلاقي" عن طريق منصات التواصل الاجتماعي، والمشكلة بأن هنالك فئة من المثقفين تساندهم وتقف معهم وتعطيهم الشرعية المناسبة، ويحدث كل هذا انطلاقًا من مشهد عادي في مسلسل، سخرية من شخصية تاريخية، حوار بين شاب أو شابة، قبلة عابرة مثلًا، وغيرها من المشاهد العادية جدًا التي يتم بثها وعرضها في أكثر القنوات تشددًا ورقابة، ومن هنا تبدأ المحاكمات الأخلاقية والدينية، ويتم تداول تلك اللقطات مع اقتطاعها من سياقها الصحيح، وهذا من طرف من لم يشاهد حتى تلك الأعمال، بحكم أن المجتمع مثالي ومتدين ولا يمكن في حال من الأحوال أن يأتي بتلك التصرفات، في حين أن الشارع يعج بتلك التصرفات التي تحدث في كل مدينة تقريبًا، لكن يتم التذرع بأنه شهر "رمضان الفضيل".
المشكلة ليست في الانتقاد السلبي والأخلاقي، بل إن السلطة تستجيب لهؤلاء بسهولة، وقد حدث هذا في السنوات الماضية، ويحدث حاليًا في هذا الموسم، حتى أن وزارة الاتصال نصبت لجنة "المتابعة واليقظة"، ومهمة هذه اللجنة مراقبة محتوى القنوات خلال شهر رمضان، التي استدعت مديري القنوات التلفزيونية، ووجهت لهم جملة من الملاحظات حول بعض "الخروقات" انطلاقًا من تقريرها. وبحسب وزير الاتصال محمد لعقاب، فإن اللجنة سجلت ملاحظات عدة، أبرزها:
ــ تضمين بعض البرامج لبعض اللقطات الصامتة التي لا تضيف شيئًا للسيناريو، وهي مخالفة تمامًا لخصوصية الشهر الفضيل، ولعادات وتقاليد الجزائريين.
ــ التركيز اللافت على بعض القضايا الاجتماعية، كالمخدرات، الخمر، الخديعة، وغيرها، ووجود خلل في التعاطي الإعلامي مع هذه القضايا وطريقة تناولها ومعالجتها.
ــ غياب الإبداع الفني في كيفية تقديم الموضوع للمتفرج.
ــ تصوير بعض اللقطات ضمن بعض المسلسلات وكأنها ترويج وتشجيع لسلوك منحرف.
كل هذه المعطيات التي تمثلها أشكال الرقابة القبلية والبعدية من طرف المجتمع والسلطة تساهم بشكل كبير في تدني المشهد الدرامي الجزائري، رغم ظهور بعض البوادر الإيجابية التي تبشر بميلاد مشهد معقول مستقبلًا، ومن بين تلك البشائر اهتمام القنوات الخاصة بالإنتاج الدرامي، وكثرة المسلسلات، والسعي من أجل الخروج من المحلية، وكلها معطيات ستساهم في تطور الدراما الجزائرية، لكن الرقابة المجتمعية الأخلاقية تشكّل أحد أسباب الرجوع إلى الخلف، خاصة عندما يتحالف معها بعض المثقفين والسلطة.