حساسيات
اختصار الحبكة الدرامية بهذا كفيلٌ للتنبّه إلى حساسية المسألة. تُضاف إلى الاختصار المذكور معلومةٌ تفيد بأن تونس تعاني حالةً يصفها البعض بأنها "ظاهرة كبيرة"، يتوجّب على المعنيين بالأمر دراستها والتنقيب فيها، والبحث عن أسبابها ونواتها وتفاصيلها. يقول رضا الباهي إن عدد المنخرطين في الحرب في سورية يتراوح بين 7 آلاف و12 ألف شاب تونسيّ، مؤكّداً أن تصاعد ظاهرة هجرة المقاتلين تحدث عامي 2012 و2013، تحديداً. مع هذا، يُشير إلى ابتعاده كلّياً عن أي تحليل يتعلّق بـ"داعش" أو بالوضع السوري، وعن "النسق الذي يتمّ عبره اختيار آلية إرسال الجماعات مقاتليها إلى القتال". يرى أن هناك إمكانية لـ"إنجاز فيلم عن المخطّطين، وعن التركيبة الغريبة في استقطاب الشباب"، لكنه يُحدِّد هدف "زهرة حلب" بمسألة إنسانية فردية بحتة: "قاربتُ وجهة نظر الأم المفجوعة، والولد الهشّ" (حوار هوفيك حبشيان معه، الصحيفة اليومية اللبنانية "النهار"، 10 نوفمبر 2016).
بين حساسية الموضوع وخطورة الانزلاق فيه، يُصرّ رضا الباهي على تحدّي المصاعب، في مقاربة وضع نفسيّ ـ اجتماعيّ ـ روحيّ يتعرّض له تونسيون كثيرون. إصراره نابعٌ من سيرته السينمائية، التي تبدأ عام 1972 بأول فيلم روائي طويل له بعنوان "العتبات الممنوعة"، والتي تمتلك رغبة دائمةً في معاينة أحوالٍ تثير جدلاً، وتفتح نقاشاً متنوّع الأبعاد والاتجاهات، وتطرح أسئلة يبدو أن البعض يخشى طرحها والبحث فيها. وإذْ يُعتَبر "السنونو لا يموت في القدس" (1994) أحد أبرز أفلامه المثيرة لسجالاتٍ، وتكاد لا تنتهي عند مضمونه الصادم، إلا أن لرضا الباهي قدرةً سينمائية استفزازية، لن تقف عند حدّ.
والاستفزاز، إذْ يعتمد أسلوباً سينمائياً متفاوت الإبداع والأبعاد الجمالية والفنية والدرامية في أفلامه المختلفة، يُشكِّل تحدّياً بصرياً وثقافياً وتأملياً في أحوال ذات وجماعة، بانبثاقه من رغبةٍ أكيدة لديه في نبش المسكوت عنه (أو بعضه على الأقلّ)، وفي طرح المرفوض (أو بعضه على الأقلّ) على نقاشٍ يمزج الفني ـ البصريّ ـ التقنيّ بالدراميّ والجماليّ. وهذا يظهر في "صندوق عجب" (2002) مثلاً، إذْ يذهب فيه إلى أعماق طفولة ومراهقة خاصّتين بسينمائيّ، يستعيد شيئاً من ماضيه كي يواجه قسوة راهنه، بكشفٍ وبوحٍ ذاتيّين.
استفزاز بصريّ
أما "زهرة حلب"، فيكاد يكون أكثر أفلامه الأخيرة استفزازاً وإثارة لرغبة المواجهة والتحدّي. فالنيّة السليمة، التي أوجدت النصّ، لن تكفي لإنجاز فيلمٍ سينمائيّ متماسك الصورة والشخصيات والعلاقات والمعالجة والأداء. والحاجة الذاتية للسينمائيّ إلى التوغّل في صلب العلاقة القائمة بين مُراد (باديس الباهي) ووالدته سلمى (هند صبري)، كأساسٍ جوهريّ للحبكة، أو لتقديمها، تواجِه (الحاجة الذاتية) مأزقاً يتمثّل في ارتباك المُرافقة السينمائية لرحلة أمٍ (37 عاماً، مُسعِفة ومُطلِّقة) تبحث عن ولدها الوحيد (17 عاماً)، وللتجارب التي تختبرها، والعوالم المختلفة التي تكتشفها.
ارتباك يتّضح في مسألتين اثنتين: افتقارٌ للعمق الدرامي في بناء الشخصيات وتقديمها، وفي رسم مساراتها وعلاقاتها، وفي وصف انفعالاتها وآليات التعبير عنها. واضطرابٌ فني وتقني وجماليّ وبصريّ في تصوير المشاهد الخاصّة بسورية (تحديداً)، في المستويات كلّها: بيئة المقاتلين وأفكارهم وتصرّفاتهم، والسهولة غير المُقنعة بتاتاً، التي تساهم في "اختراق" سلمى معاقل يُفترض بها أن تكون ممنوعة على المقاتلين والغرباء معاً (لقاء سريع للغاية وسهل للغاية مع أمير الجماعة الذي يحتضر، مثلاً)، وافتقار لقطات المعارك واستخدام الأسلحة إلى كل واقعية ممكنة، فتنكشف الأخطاء التقنية والعملية والميدانية بشكل فاضح، ويُصبح المقاتلون الجهاديون "حمقى"، أحياناً، إذْ يتغلّب عليهم فردٌ واحد غير مُدرَّب على قتالٍ وعلى استخدام أسلحة، رغم لقطات سابقة تكشف سرعة فائقة لهذا الفرد (سلمى) في التدرّب عليهما، وهذا أفدح، سينمائياً ودرامياً وتصويراً، مما يلحق به.
صحيحٌ أن رضا الباهي، مخرج "زهرة حلب" ومؤلّفه، يُشدِّد على عدم اهتمامه بأي تحليل متعلّق بالجماعات الأصولية، وبعقائدهم الدينية والفكرية، وبأساليب عملهم. لكن الدخول إلى معاقلهم لن يتحرّر كلّياً من تداعيات هذا كلّه، ولن يُمكن البقاء خارجه. مع هذا، لن يُطالَب السينمائي بأكثر من منطقٍ سينمائي (درامي، جمالي، إنساني، ثقافي، إلخ.) في تحقيق الجزء السوري برمّته، المحتاج فعلياً إلى تأهيل سينمائيّ يُفترض به أن ينفي عن الفيلم توصيفه المبطّن للمقاتلين بالسذاجة والهوس بالجنس والقتل فقط، ويُعيد بناء مسالك نفسية وروحية وجسدية واجتماعية لهم وللشخصيات الأخرى (سلمى تحديداً)، تنسجم وحقائق الواقع وحيويته، وتتّفق مع تصرّف وسلوك واقعيين.
ضرورة سينمائية
لن يكون سهلاً الابتعاد المطلق عن كلّ تحليل يطاول هذه المسألة أو تلك. وإذْ يبدو الابتعاد عن التنظيم الأصوليّ (داعش)، تحليلاً ومقاربة سوسيولوجية وعقائدية وإنسانية وآليات استدراجه الشباب إلى القتال معه في سورية، أسهل من أي ابتعادٍ آخر، فإن شائبة واضحة تطفو على المَشَاهد التونسية (إنْ يصحّ التعبير)، وهي شائبة سينمائية درامية، تتمثّل باختفاء كلّ عمقٍ ممكن لبناء أي علاقة إنسانية بين الشخصيات: الأم وابنها؛ الأم وطليقها هشام (هشام رستم)، الفنان المقيم وحده، والمنصرف إلى عالمه الفني واحتساء الكحول؛ الابن ووالده؛ الابن وصديقته قبل انفصاله عنها (من دون تناسي سطحية المشاعر التي تعتري الصديقة عند انفصال مُراد عنها)؛ الابن وخالته الراقصة، المنبوذة من العائلة؛ إلخ. علاقات أساسية تبدو عادية، وسلوك أدائيّ ـ تمثيليّ لن يرتفع بالشخصيات إلى مصاف الانفعالات المطلوبة، كأن يكون انفصال مُراد عن صديقته عادياً ومُسطّحاً وباهتاً، تماماً كلحظة اللقاء بين مُراد ووالده، إذْ يعجز التمثيل عن تمكين الشخصية من تحقيق المطلوب منها، خصوصاً بالنسبة إلى باديس الباهي، وإنْ يكن مُراد أول دور سينمائيّ له، فيُصبح التصنّع أساسياً، والتشنّج في الأداء مبالغا به، تماماً كالتوتّر المفترض به أن يتحكّم بعلاقة الابن بوالده مثلاً.
تتوزّع مآزق "زهرة حلب" ـ الذي يُشارك في برنامج "سينما العالم"، في الدورة الـ33 (10 ـ 17 فبراير 2017) لـ"المهرجان الدولي لأفلام الحبّ" في "مونس" (بلجيكا) ـ على الشكل السينمائي في المعالجة الدرامية والفنية والتقنية، وعلى المضمون في الكتابة والسرد والمتابعة، وعلى الأداء في تقديم غالبية الشخصيات. وإذْ يُبدي هشام رستم وهند صبري، مثلاً، براعةً أدائية، مُكتسبة من اختبار تمثيلي مديد؛ إلاّ أن البناء الدرامي ـ الإنساني لشخصيتيهما محتاجٌ إلى عمق درامي أصدق من الظاهر، وأكثر واقعية من حضوره في سياق الفيلم.
رغم هذا كلّه، يُشكِّل "زهرة حلب" ـ المعروض للمرة الأولى في افتتاح الدورة الـ27 (28 أكتوبر ـ 5 نوفمبر 2016) لـ"أيام قرطاج السينمائية"، في الذكرى الـ50 لتأسيسها ـ مدخلاً إلى كَمٍّ من التفاصيل الدقيقة والحسّاسة، لن تكون مقاربتها السينمائية سهلة.
(*) ناقد سينمائيّ من أسرة "العربي الجديد"