يُشكِّل الكتابان الأخيران للناقد السينمائيّ المصري سمير فريد (1943 ـ 2017)، الصادران نهاية العام 2016، إضافةً مهنيّةً إلى المسار النقديّ السجاليّ، الممتد على 52 عاماً من الاشتغال اليومي. والإضافة المهنيّة مرتكزة على استكمالِ نمطٍ من الكتابة، يمزج التحليل بالمعلومة، ويُقدِّم اختزالاً للموضوع، مرفقاً إياه بنقاشٍ، يبدأ بالمُشاهدة والحوار والمتابعة الدقيقة، قبل أن تتحوّل هذه كلّها إلى نصٍّ، يُبنى على رغبةٍ في مرافقة المسارات المختلفة لصناعة السينما في مصر والعالم العربي أساساً، وفي الغرب أيضاً.
والمرافقة تنعقد على حيوية ثقافية، مفتوحة على السينمائي والفني والثقافي، وتتغذّى من وعي معرفي لن يبقى أسير المهنة بحدّ ذاتها، بقدر ما يمتدّ عميقاً في شؤون الحياة، والعلوم الإنسانية، ومسالك البشر وعلاقاتهم المتنوّعة. وهذا محصَّن بقناعةٍ، تفيد بأولوية الذاكرة التاريخية، بما تحمله من غنى إبداعي، وبأهمية التجديد، بما يُقدِّمه من أدوات معرفة تكسر الجمود، وتنمّي الموهبة، وتصقل الحِرفية، وتصنع صُوَراً تهتمّ بجمالية السينما قبل أي شيء آخر.
مشروعٌ نقديّ
والكتابان جزءٌ أساسيّ من المشروع النقديّ لسمير فريد، الذي يُختصر بقولٍ له في حوار طويل، منشور في كتاب "مغامرة النقد"، للزميل وائل عبد الفتاح (منشورات "المهرجان القومي الـ11 للسينما المصرية" ـ 2005): "أدعو إلى التجديد، وأناصره على طول الخط" (ص. 50)، مضيفاً أنه "ضد السينما التقليدية، لكن مع تشجيع أي تطوّر في إطارها".
لذا، يُمكن القول إن "سينما الربيع العربي" ("آفاق السينما العربية 3" ـ "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الـ38"، المُقام بين 15 و24 نوفمبر/تشرين الثاني 2016) ـ الجامع بين دفّتيه مقالاتٍ للراحل تتناول أفلاماً وقضايا ونقاشاتٍ، تتعلّق بسينما ناشئة في ظلّ التبدّل المتمثّل بانقلابٍ جماهيري عفوي وسلميّ، في تونس ومصر تحديداً ـ انعكاسٌ لثنائيةٍ تُشغل سمير فريد، وتضعه في الخطوط الأمامية، دائماً، دفاعاً عن السينما وحيويتها الإبداعية: اهتمامٌ بكل جديدٍ، يُمكن لبعضه (على الأقلّ) أن يحمل تجديداً في صناعة الصورة، ومقاربة الحالات والحكايات؛ وانشغالٌ بهمّ ثقافي ـ إنساني ـ اجتماعي، منبثقٍ من حراكٍ مدنيّ ضد سلطة قاهِرة وقامعة وفاسدة.
إليه، يستعيد "أفلام المخرجات في السينما العربية" ("كتاب الهلال"، العدد 788، نوفمبر/تشرين الثاني 2016) مقالاتٍ مختلفة، تعاين أحوال سينما تصنعها نساء منخرطات في ملامح كثيرة من تلك الثنائية، الأحب إلى قلب الناقد وعقله واشتغاله: الجديد، وما فيه من تجديد؛ والهمّ الإنساني العام؛ وذلك قبل "ثورة 25 يناير 2011"، وأثناءها وبعدها.
والكتابان يُنهيان مساراً مديداً من المتابعة والتنقيب والسجال والمواجهة والتحدّيات والتأريخ. وهو مسار مصنوعٌ بفضل جهد فرديّ لناقد سينمائيّ، يُجيد تحويل بعض نتاجه إلى مراجع يصعب الاستغناء عنها، ويُحسن جعل نصوصه مرايا مرحلة وتحوّل واجتهادات. والناقد، الذي يحتل واجهة المشهد السينمائي العربي منذ عام 1964، يغوص في شؤون بلده والمحيط العربي، من دون التغافل عن أحداث العالم، ويعود إلى التاريخ كي يُنقذ أجمل ما فيه من بطش النسيان، ويعاين الراهن بعين نقدية ثاقبة وحاسمة، مطعِّماً إياها بشفافية التشجيع والمرافقة، وبجمال احترام الآخر كامتدادٍ لاحترام الذات، وبرفاهية المعرفة التي لن يمنعه شيءٌ بلوغها، والتي لن يحجبها أبداً عمن يسعى إليها.
تأريخٌ وسجالٌ
في مؤلّفاته الكثيرة ـ كما في تلك المُشرف عليها، أو المحرِّض على ابتكارها، أو المُساعد على ترجمتها ـ يبرز اهتمام سمير فريد بالتأريخ، كنصٍّ يوثّق المعلومة، ويُحلِّل معطياتها، ويناقش أحوالها. فالتأريخ، بالنسبة إليه، فعلٌ ثقافيّ لن يسمح له بالسقوط في فخّ التسجيل، لأنه (التأريخ) حوارٌ مع الأزمنة، يتطلّب تنقية المعلومة من كلّ شائبة، ويحتاج إلى تحصينٍ تؤمّنه كتابة تقول المعلومة، وتروي حكاياتها، وتُقارن بين مصادرها كي تؤكّد أو تنفي. وهذه ميزة تُضاف إلى ميزات عديدة في شخص سمير فريد، كما في مهنيّته وثقافته ووعيه المعرفيّ.
صحيحٌ أن البعض يأخذ على سمير فريد، وعلى جيلٍ ينتمي إليه، غلبة الكتب الجامعة مقالاتٍ على الكتب المؤلَّفة ككتب؛ إلاّ أن المضامين التي تحتويها غالبية المقالات تلك (وبعض المضامين دراسات وأبحاث) قابلةٌ لأن تكون مرجعاً، في حين أن جمعها في كتب يُكمل انجذاب الناقد نفسه إلى التأريخ: ألا يحقّ للناقد أن يحصّن مقالاته من تلف النسيان، فيجمعها في كتبٍ ستبقى حاضرةً في المكتبة السينمائية (بينما المقالة معرَّضةٌ، غالباً، للاندثار والاختفاء)؛ هو (الناقد) الذي يجتهد، دائماً، في أرشفة ذاكرةٍ، يُريدها أن تنتصر على موت الكلمات والأعمال والحكايات والشخصيات؟
هذا يظهر في الكتابين الأخيرين لسمير فريد، أيضاً، إذْ يتسنّى للمهتمّ فرصة متابعة المسار التاريخي للناقد إزاء هذين الموضوعين (الربيع العربي، والمخرجات العربيات)، عبر قراءة متتالية لمقالاتٍ، تتابع نتاجاتٍ منضويةٍ في هذين العنوانين. والقراءة تلك تُعين طالبها على التنبّه إلى أصالة الناقد، وتمسّكه بأولوياتٍ لن تثنيه على تبديل موقف أو رأي، في مرحلة لاحقة، إنْ يتطلّب الوضع تبديلاً، سيبقى خاضعاً للقناعات الأساسية، وللمفردات الأولى والأهم في صناعة كلّ عملٍ إبداعي، في السينما والأدب والفنون والقضايا الإنسانية، وأنماط السلوك والعيش والعلاقات. أي أن دفاعه عن كلّ تطوّر يحدث في إطار السينما التقليدية، متوافقٌ ورغبته في الخروج على الجمود والثبات الدائمين، ومنبثقٌ من التزامه السينما، وحيويتها ومتغيّراتها، كأولوية مطلقة وجوهرية.
ميزة الاعتراف
والتزامٌ كهذا يعني جعل كلّ مقاربة أسلس من أن تكون متحجّرة أو منغلقة، لأن سمير فريد مقتنعٌ بجدوى التغيير، وكلّ تغيير يحتاج إلى مزيدٍ من وعي ومعرفة، وكلّ وعي ومعرفة يسعيان إلى التجديد مطالبان بانفتاح وسلاسة، وبقناعة بأهمية هذا كلّه، وبضرورته. وسمير فريد يتفنّن في هذا كلّه، لإدراكه أن لا شيء ممنوعٌ من اللمس، وأن موقفاً يُتخّذ ذات لحظة قابلٌ للتبدّل، مع تنبّه صاحبه إلى ضرورة هذا التبدّل، مع تنامي الوعي المعرفي، أو مع اكتشافٍ، ولو متأخِّر، لخطأ في المقاربة.
ذلك أن إحدى الخصائص الجميلة لديه، كامنةٌ في قدرته على الاعتراف بخطأ، أو بتسرّع في اتّخاذ موقف. في حواره مع وائل عبد الفتاح، يستعيد حكاية تهجّمه النقدي على يوسف شاهين، معتبراً أن فيلمه "فجر يوم جديد" (1965)، مصنوع انطلاقاً من "وجهة نظر سائح". يقول فريد إن هذا حاصلٌ بتأثير من صلاح أبو سيف، قبل إدراكه "عداوة الكار" بين المخرِجَين. يقول أيضاً إنه سيُلبّي دعوة شاهين نفسه له إلى مشاهدة "الأرض" (1969)، وسيتساءل: "أهذا هو "الخواجة" الذي لا روح مصرية له"، كما يصفه أبو سيف؟ (ص. 53). سيعترف ـ في لحظة إنسانية تمزج حساسية الناقد بروحٍ توّاقة إلى أجمل ما في السينما من إبداع ـ أن "الأرض" سيكون أحد الأفلام القليلة جداً ـ إلى جانب "إنهم يقتلون الجياد، أليس كذلك؟" (1969) لسيدني بولاك، و"المرآة" (1975) لأندريه تاركوفسكي، و"زمن الغجر" (1989) لأمير كوستوريتزا ـ التي ستدفعه إلى البكاء: "بكاء الإعجاب. نشوة الفن البحتة. نشوة المستوى الرفيع".
سيُكتب الكثير عن سمير فريد، إثر رحيله في 4 أبريل/نيسان 2017. سيُقال الكثير أيضاً. ستختلط المشاعر بالذكريات والعلاقات في نصوصٍ، لن يستطيع كاتبوها، مهما سيفعلون ومهما سيكتبون ومهما سيقولون، تجاهل تلك الميزات الرائعة للراحل: حبٌّ لا يوصف للسينما، وبراعةٌ لا تُحدَّد في عيش الحياة، وإبداعٌ إنسانيٌّ مرهف في التواصل الرائع مع كلّ من يُبدي أمامه ولو ذرَّة واحدة من عشقٍ للسينما والحياة، وجمالٌ لا يُختزل في مقارعته قمعاً أو منعاً أو انغلاقاً، ورفاهية معرفة تتيح له أن يذهب ـ بقناعة وشغف ورغبة في مزيدٍ من المعرفة ـ إلى كلّ جغرافيا ممكنة، كي يتمتّع بـ"نشوة الفن".
(*) ناقد سينمائي من أسرة "العربي الجديد"