}

أفلام وثائقية لبنانية: ترميم حكاياتٍ

نديم جرجوره نديم جرجوره 12 مايو 2017
لن يكون منصفاً تجاوز حالة سينمائية لبنانية، تتمثّل بوفرة الإنتاج الوثائقيّ المحليّ، المتنوّع الأشكال والمضامين، وإنْ يتمّ تناولها، نقدياً، مرّة تلو أخرى ("ضفة ثالثة"، 2 مارس/ آذار 2017). ففي مقابل ارتفاع عدد الأفلام الروائية الطويلة والقصيرة، المُنتجة في الأعوام القليلة الفائتة (لم يُعرض بعضها، تجارياً، لغاية الآن، في الصالات اللبنانية)، يؤكّد الفيلم الوثائقيّ حضوره الأقوى في المشهد الفني والثقافي والجمالي، ويُثبت جدارته في مواكبة بعض الراهن، أو في نبش بعض المخبّأ والمسكوت عنه في الذاكرة، أو في تحويل قصّة شخصية للغاية إلى نصّ بصريّ، يعكس ألماً فردياً في مواجهة خياراتٍ قديمة.


وثيقة سينمائية


ولن يكون سهلاً التغاضي عن جسارة سينمائيين وثائقيين لبنانيين ـ ينتمون إلى جيل شبابيّ، له مكانته الخاصّة في صناعة الصورة السينمائية ـ في تفكيكهم تاريخاً وحاضراً، وفي طرح أسئلة الانتماء والوقائع والمبطّن، وفي ممارسةِ تحريضٍ سينمائيّ على اختراق الممنوع، بلغة الصورة الوثائقية، التي تمزج بين توثيق المادة وابتكار أنماطٍ سردية مختلفة، تتّخذ من الروائي ما يُلائم سجاليتها، ويجعل التوثيقي سنداً لاختراع نماذج بصرية متنوّعة، تواكب الحكاية، وتمنحها شرعية وجود، وتضعها في متناول المهتمّ، دافعةً إياه إلى التنبّه والمساءلة والمواجهة والتحدّي.


يُلحّ سؤال المقاربة النقدية لهذا الكمّ الوافر من النتاج الوثائقي، وهو كمّ يمتلك حساسية اشتغال، وجمالية صورة، وحِرفية تنقيب وتفكيك ومساءلة، وبراعة تحصينٍ لتلك الحكايات من النسيان، بتحويل الصورة إلى وثيقة سينمائية، لا تُهادِن ولا تلين ولا تتردّد ولا تتراجع، أثناء بحثها في أعماق المنسيّ أو المتروك أو المرفوض.





كالعادة، تتوزّع أشكال المواضيع المختارة على مسألتين أساسيتين، تتشابهان في كونهما نتاج "روايات فردية": إما البقاء في الإطار الذاتي الشخصي البحت، أو الانفتاح على حراك الجماعة، ومسالكها وطقوسها ومشاغلها وأسئلتها.

وإذْ تندرج أفلام "يا عمري" لهادي زكّاك، و"اجتزت الممر" لربيع الأمين، و"الجنّة المفقودة" لرين متري، في الإطار الفرديّ، مكتفية بذاتها، ومستندة إلى انعدام كلِّ حدّ فاصل بين الوثائقيّ والسرديّ والروائيّ، للبوح بمكنوناتٍ أو خفايا، بعضها يعكس شيئاً من زمنٍ أو بيئة، وإنْ بشكل خفيّ، فإن أفلاماً أخرى ـ كـ"شعور أكبر من الحبّ" لماري جرمانوس سابا، و"ميّل يا غزيّل" لإليان الراهب، و"تدمر" لمونيكا بورغمان ولقمان سليم، و"هدنة" لميريام الحاج ـ تخرج من الذاتيّ إلى الأعمّ، من دون الانتقاص من أهمية الذاتيّ، ومن دون تعميمٍ يُصيب الجماعة كلّها، محافظة، في الوقت نفسه، على خيطٍ متينٍ بين جمالية الفرديّ في بوحه الذاتي، وانعكاس شيءٍ من الجماعة في البوح نفسه.



والأفلام تلك مُنتجة، كلّها، بين عامي 2015 و2017: بعضها الأول معروضٌ في صالاتٍ تجارية، بفضل الاهتمام الثقافي ـ الفني بها من قِبَل "جمعية متروبوليس للسينما المستقلّة"؛ وبعضها الثاني يستعدّ لعروضٍ كهذه، بجهدٍ ملحوظ من الجمعية نفسها، في الأسابيع القليلة المقبلة؛ علماً أن بعضها الثالث لا يزال ينتظر موعداً لتواصله مع جمهورٍ، يتمنّى كثيرون أن يكترث ويتابع ويهتمّ بوثائقياتٍ لبنانية تغوص في أعماق الروح والذاكرة، كي تُضيء شيئاً من رداءة الراهن، وتخبّطاته وارتباكاته.

الإنتاج الممتدّ على 3 أعوام يؤكّد، مرّة أخرى، حيوية المشهد السينمائيّ الوثائقيّ اللبناني، ويجعل المُشاهدة تكثيفاً لارتباطٍ إنسانيّ بالمعنى الوثائقي الجمالي للصورة، وبالواقع الدراماتيكي المتنوّع، الذي تعانيه شخصيات أو حالات أو جماعات، في أوقاتٍ يعود بعضها الأول إلى ستينيات القرن الـ20 وسبعينياته، وينسحب بعضها الثاني على قرنٍ من الزمن، ويتموضع بعضها الثالث في راهنٍ منبثقٍ من النهاية المزعومة والناقصة والهشّة للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، محاولاً إيجاد معادلات عملية وفنية وجمالية، في آنٍ واحد، بين ذكريات الحرب ومناخها المأسوي، والغليان الحاصل والمستمرّ طوال 17 عاماً، منذ بداية القرن الـ21، على الأقلّ، بحثاً عن أجوبة مختلفة على أسئلة معلّقة.




كشفٌ سينمائيٌّ

هذا التنويع الغزير يُتيح، أيضاً، للمهتمّ بالنتاج الوثائقي، فرصة الذهاب بعيداً في معاينته إمكانيات الصورة الوثائقية على إخراج الذاتيّ البحت من سرديته السينمائية، إلى تواصٍل شفّافٍ وغير مرئيّ بين النص وصاحبه من جهة، والمُشاهد وانفعالاته من جهة أخرى: أنْ يلتقي هادي زكّاك جدّته هنرييت، التي ترحل عن 104 أعوام، بعد التصوير، كي يُعيد معها ترتيب خبرياتها وانفعالاتها وذكرياتها ومشاغلها في نصّ إنسانيّ مؤثّر؛ فهذا يكشف مدى قدرة الكاميرا التوثيقية على تحويل الذاتيّ إلى قراءة ـ وإنْ تكن مبطّنة ـ لمعنى الخيبات والمواجع والانكسارات، في تقلّبات أزمنة، وتبدّلات مواقع، وتضارب رغبات "انفعالية" بخيارات "عملية" (يا عمري). وأنْ يسرد ربيع الأمين تفاصيل رحلته الشخصية "في" الحِداد، إزاء رحيل الأب، متوغّلاً في علاقاته بذاته وعائلته ومحيطه ومدينته وبلدته ومشاعره، وتساؤلاته المعلّقة، وأجوبته المبهمة، وغضبه المبطّن، ووجعه الدفين، ورغبته في الانعتاق من قسوة الآنيّ إلى خلاصٍ ملتبس؛ فهذا يعني أنّ لغة التأمّل والصمت أقوى تعبيراً من كلّ كلامٍ يُقال، وأنّ عنف الداخل أجمل في تعبيره الهادئ عن اضطرابات وتمزّقات وتساؤلات لا تنتهي (اجتزت الممرّ).

وإذْ يريد هادي زكّاك ترميماً لحكاية جدّته قبل رحيلها، كتحيّة جميلة لمعنى الشيخوخة والانزواء والقلق والرغبة في امتلاكِ الزمن والخروج منه، في وقتٍ واحد، في لعبة خفيّة بين الجدّة وذاتها والكاميرا والمخرج؛ فإن ربيع الأمين يبدو كمن يسعى إلى اغتسالٍ من أثقالٍ تتراكم، وهي أثقال أسئلة صامتة، لن يجد أمامه شكلاً آخر غير الصمت للتعبير عنها، والبحث فيها.
هذا نوعٌ توثيقيّ ينفتح أمام تجربة رين متري أيضاً. الإيغال في الذاتيّ عاملٌ إبداعيّ جميل، يمنح الصورة التوثيقية معانيها السينمائية. مواجهة الموت، في "يا عمري" و"اجتزت الممرّ" والجنّة المفقودة" لمتري، تحريضٌ على اختراق جدران المجهول، كمن يرغب في معاينة تلك الحالة عبر مقاربته أناساً يُشرفون على الموت (الجدّة)، أو يجتازون الممر (الوالد)، أو يلامسون أطياف ماضٍ كي يخرجوا من ثقل الحكاية إلى براعة التحدّي، في ارتكاب معصية الخلاص المؤقّت (الحبيب/ الزوج، في "الجنة المفقودة").





غير أن هذا كلّه لن يبقى أسير التحديدات السابقة، لأن لكلّ سياقٍ تفاصيله الخاصّة به. مع رين متري، لن يحاصَر الفيلم بموت الحبيب/ الزوج في بؤرة واحدة ضيّقة، بقدر ما يُعاد رسم ملامح عمرٍ وبيئة وحالة وانفعالٍ، تمزجها متري في سياق سرديّ يتجوّل بين أزقة ومدن وفضاءات وامتدادات جغرافية وروحية، لبناء عالم بصريّ، يتبلور فيه مفهومٌ تأمّلي إضافي للصمت، عبر ثبات الكاميرا أحياناً، أو من خلال تكثيف اللحظات وتبعاتها. ومع هادي زكّاك وربيع الأمين، يمتدّ العمر إلى ما هو أبعد من الآنيّ، في كشفٍ سينمائيّ خفيّ لمعاني الحيّز الجغرافيّ، وتداعياته الثقيلة والمربكة.

تفاصيل


الفرديّ حاضرٌ في الأفلام الأخرى أيضاً، كي يكون جوهر المبنى السينمائيّ للتفاصيل الممتدّة من جور سلطة تقهر أبناءها (عمّال مصانع ومزارعو تبغ) في عيشهم اليوميّ، وتمنع عنهم حقّاً أو أكثر (شعورٌ أكبر من الحب)، إلى وحشية نظام محتلّ يسوق كلَّ مُخالف له إلى أقبية الخراب والمحن والمهانة، من دون أن يقوى على تحطيم كامل لرغبة الحياة (تدمر). بالإضافة إليهما، فإن شخصية هيكل تمتصّ حالات محيطة به، في قريته الشمالية (الواقعة على الحدود اللبنانية مع سورية)، في لحظة انقلابٍ دمويّ في الجوار، وفي مناخ داخليّ عابق بالتوتر والصدام والتقوقع، في بؤر طائفية ـ مذهبية ضيّقة (ميّل يا غزيّل)؛ في حين أن ذاكرة الحرب الأهلية اللبنانية، وبصماتها وخطابها وطقوسها ومفرداتها ومسالكها، مقيمةٌ في وعي/ لاوعي مقاتلين مسيحيين سابقين، تلتقط الكاميرا الوثائقية شيئاً من مساراتهم المضطربة في بيئةٍ غير قادرة على، أو غير راغبة في الخروج من عزلاتها، الأقدر على منح أبنائها شعوراً، أو نوعاً من شعور بالأمان (هدنة).

مع الثنائي مونيكا بورغمان ولقمان سليم، يُعاد تشييد سجن تدمر، أحد سجون القمع السوريّ الأسديّ، بالتعاون مع معتقلين لبنانيين سابقين فيه، كي توثَّق الحكايات الفردية في لعبة سينمائية يُراد لها أرشفة الذاكرة، وإثارة العين والقلب والروح معاً (تدمر). وفي مقابل الغوص البصريّ المعمّق لإليان الراهب، في بيئة مسيحية شمالية، تُقيم على حدودٍ مع الخارج (سورية) ومع الداخل (مسلمون)، لكشف ارتهان الآنيّ لزمن "الحروب الصغيرة"، المستمرّة بأشكالٍ مختلفة (ميِّل يا غزيِّل)؛ تُقدِّم ميريام الحاج (هدنة) شهادة مشابهة، بمرافقتها أحد أقاربها وأصدقائه في رحلة استعادة الماضي وقراءة الحاليّ، اللتين تؤدّيان، ولو بشكل موارب، إلى تأكيدٍ إضافيّ على إقامة الحرب الأهلية اللبنانية في نفوس وتفكير وسلوك.

نتاجٌ وثائقيّ لبناني يتابع مساراً إبداعياً، ويوثّق الحكايات، ويجعل الصورة السينمائية مرايا روحٍ وذاكرة وامتدادات.

(*) ناقدٌ سينمائيّ من أسرة "العربي الجديد"

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.