}

محمد أمين حمودة: سلطة التأويل ومعنى اللامعنى

عز الدين بوركة 4 يوليه 2017
من الأسئلة، التي صارت اليوم، ملحاحة على التفكير فيها، وتطرح نفسها بقوة داخل الأوساط الفنية المشرقية والمغاربية في الزمن الحاضر، في ما بتنا نسميه بالفن المعاصر، الذي ولج من أبواب متعددة - ولو أن البعض يصطلح عليه بالمعاصرة المعطوبة على وزن الحداثة المعطوبة - إلى عالم الفن بهذه الجغرافية المتعددة والمتنوعة تنوع الإثنيات والأعراف والمعتقدات والتصورات..  "ما معنى اللوحة؟" و"أي معنى في اللوحة؟"، ويُضاف إليهما سؤال مكمل، انبثق من المشهد التشكيلي العالمي الآني، ألسنا بصدد "موت اللوحة"؟


في وقتنا الحاضر، نحن فعلاً أمام اندثار "اللوحة" كمفهوم كلاسيكي لذلك الشكل الجمالي الموضوع موضع إطار، في الحال الذي تصعد فيه أشكال تعبيرية وفنية لا تكترث ولا تهتم سوى بالـ"مفهوم" أو لنسمه "الرسالة" كما يحلو للبعض أن يصطلح على الأمر بذلك. قد يكون بين المفهوم والرسالة بون كبير، إلا أن الوحدة في ما بينهما هي ما بات يدعو إليه الفن المعاصر من "اللامادية العمل"- حيث ينصهران- وصارت اللوحة تتجاوز الإطار وأسناده.




"ما اللوحة؟" هو ذا السؤال الذي نطرحه مع العمل الفني للفنان التشكيلي التونسي، محمد أمين حمودة، الذي يضعنا أمام إشكالية التحديد وتعقيداته، بل تعدده. لا يجعل حمودة من الإطار محددًا وفضاء لاشتغاله ليتوقف عنده، بل إنه يصنع "رؤيته" خارج الإطار ثم يدرجها في المساحة التي تأتي كحامل وسند للأصباغ، التي تشكل تحدبات ونتوءاً ما يضفي على العمل أبعاده المادية.

ومن جهة أخرى، يتبادر إلى الذهن مع الاندهاش المنبثق في إثر المشاهدة للعمل لدى هذا الفنان، سؤال "ما معنى اللوحة؟" أو "ما معنى العمل الفني؟" إن أردنا التدقيق. قد تكون هذه الأسئلة تؤرق المتلقي وتجعله أمام اندهاش لا يستطيع الانفكاك منه. لحد الآن لا جواب عن سؤال كهذا، يقول رولان بارت: "ليس للوحة من قاموس ولا نحو ولا يمكن التمييز فيها بين الدال والمدلول... حتى السيميولوجيا لا تستطيع حسم السؤال" [1]. من هذا المعطى ينطلق الفنان التشكيلي محمد أمين حمودة، إذ لا يعد الفعل الجمالي لديه إنتاجًا لأثر فني فحسب بل إنه أنتج ما يمكن أن نصطلح عليه مع بارت في الأدب بـ"النص"، هذا المنتوج المتعدد واللانهائي لأنه غير محدود عند تأويل واحد أو تأويلات متاحة، بل إنه لامتناهي التأويلات، إنه "نص تعددي"[2]. وقد تكون اللوحة ليست لغة منطوقة، فتعدد التأويل ما يجعلها "نصًا مجهولاً"، مجهول الأعماق، أو ما يمكن أن نصطلح عليه بـ"جبل جليدي"، رغم كون اللوحة ليست لغة، فاحتواؤها على سنن لا يمكن فكها، ما يجعلها مستحيلة الكتابة، وهو ما يتركنا أمام سؤال معنى العمل الفني من جديد. لقد صار الفنان كما المؤلف (الكاتب) هو المعنى وليس العمل في حد ذاته، إذ صار النص لا يبحث عن المعنى بقدر تجاوزه إلى اللامعنى ما يجعله مفتوحًا.





فإذا كان اللامعنى كلمة أو جملةَ حروفٍ لا معنى لها، فإنها في مجموعتها واصطلاحها تنتج المعنى. كذلك اللوحة مادة وأحداثاً لا معنى لها.  مجموعها يمنح المعنى للوحة. ذلك المعنى الذي لا علاقة له بالعمق ولا بالعلو، بل المعنى يوجد على السطح "ما هو جميل يوجد على السطح" كما يقول نيتشه، ["فالعمق هو السطح" كما عبر دولوز].

فيكفي أن نقف على السطح على جلد اللوحة لنجعل منها طبلاً رنانًا. بلاغة اللوحة تبدو إذن في بلاغة اللامعنى الذي يتعارض وغياب المعنى بإنتاجه للمعنى.[3]

من هذا المعطى الذي حاولنا أن نضيئه، يأتي العمل الفني لصاحبه التشكيلي التونسي، محمد أمين حمودة، نتاجاً للصدفة وللاصدفة في آن، ما يجعله لامتناهي التأويل، بقدر ما هو نتاج للامعنى الذي يرجى منه معنى واستحالته من حيث أن "المعنى يأخذ بتلابيب الإنسان".

فمحمد أمين حمودة يأخذ بتلابيب اللامعنى من حيث أن نظرية ما بعد حداثية والمعاصرة في الفن، ومن حيث أنه جزء لا يتجزأ من الهم الصوفي كرديف للمعنى، وأليس هو القائل في حق اشتغاله الفني: "تجربتي التشكيلية الخاصة والمرتبطة بشكل وثيق بالصوفية لا بمعناها الديني بل بارتباطها بالمجالات الفنية المعاصرة". فبالنسبة لابن عربي [نموذجًا] أو بالنسبة لأفق ما بعد الحداثة، لا معنى للفصل بين العقلانية واللاعقلانية، بين المعنى واللامعنى، بين العقل والخيال، بين النظام والفوضى، ما دامت المرجعية في الأفقين معاً هي الوجود لا العقل. فإزاء الوجود: العقلانية واللاعقلانية هما على حد سواء[4].




يجعل أمين حمودة من السطح عمق لوحته التي لا يبحث لها عن ألوان خارج أصباغه الطبيعية (الخضاب) les pigments أو الحبر، بينما الأوراق هي صناعة يده على طريقة الورق الآسيوي. وما يساهم في تثبيت الأصباغ استعانته بالمادة المحفزة (اللصاق الأبيض)، إلى جانب خلطاته الفنية السحرية الناتجة عن طول اختبار واختمار.

فبعيدًا عن التقنية المستعان بها، فالعمل الفني لدى هذا الفنان - المجرب والمخرب في آن لكل ما هو متعارف عليه، عند مجموعة غير قليلة من الفنانين العرب، حول مفهوم اللوحة - هو ذلك النتاج المبهر لصدفة تمازج الأصباغ الطبيعية النباتية وغيرها، ما يجعل كل مربع داخل أحجية اللوحة الكبرى متفردًا لا مثيل له. كما اللاصدفة، إذ إن الفنان يتفادى، بالقدر المستطاع، أن يترك للحظ التلاعب بالعمل لديه، عكس الحال لدى مجموعة كبيرة من التجريديين، إذ يعمد إلى تركيب هندسته الشكلية (واللاشكلية) للعمل ككل، وأيضًا اختياره لنوعية السند ونوعية الأصباغ وبعض الأشكال الهندسية التي قد تحتويها "الأحجية الكبرى".

فهذا التشكيلي يستوحي مادته كاملة من الطبيعة كأداة للتصبيغ peinture بينما لا يتعلق بالطبيعة أبدًا ولا يكترث لمحاكاتها بأي شكل، فهو بقدر ما يجعلها أساس وروح العمل فهو يجردها من خواصها التشخيصية كاملة، يجعل موضوع اللوحة هو أصباغها (خضابها /ألوانها)، مقابل خلق دهشة وفتح باب التأويل، من حيث غلق لكل منافذ البعد الواحد للقراءة.

فبدل السؤال عن معنى العمل الفني لدى هذا الفنان، لا بدّ من تأمله والانفتاح على التأويل كشرط لخلق معنى خاص ومتفرد ومستقل بكل متلقٍّ على حدة. فإن كان "معنى اللوحة يوجد في سطحها" فالفنان محمد أمين حمودة لا يكترث سوى بالسطح، كبعد واحد، باعتباره عمقًا لا يسهل بلوغه. إنها إعادة تشكيل الفضاء. هذا من جهة، بينما لا يتعمد حمودة سوى على أحادي اللون monochrome ، أو بالتحديد اللون المحلي couleur locale، فالأول لون واحد يقتصر على تدرجاته اللونية، بينما الثاني هو اللون الحقيقي للشيء بمعزل عن الإضاءة وانعكاسها.[5] (فتدرجات اللون ليست صنيعة رغبة مسبقة بل هي صنيعة صدفة، إنها بهذا المعنى "خلق" للأبعاد على السطح، وهذا ما يجعل العمل ذا أبعاد لا متناهية)، إذ إن العمل عبارة، في غالبيته لدى حمودة، عن مجموعة من مربعات صباغية داخل "الأحجية الكبرى" التي نسميها "اللوحة الأم". إنه بهذا المعنى سفر في فضاءات شبه متكاملة.

لا يبحث محمد أمين حمودة عن أي انطباعية أو رمزية أو غيرهما داخل العمل الفني، الذي اصطلحنا عليه بالنص لديه، بل إنه يبحث عن أن يجعل من المحسوس لامحسوسًا ويترك للحدس كشكل لفهم العمل الفني، كما هو الحال عند هيغل وغيره، بابًا لولوج فهم اللوحة عنده. فهو لا يفترض رؤية مسبقة للانطلاق منها، بل إنه يجعل النوافذ مشرعة على كل الرؤى وكل التأويلات. فلا وجود لعمل فني خارج سلطة التأويل المتعدد. فكما هو الحال عن تزفيتان تودوروف[6] فمؤشر التأويل يوجد داخل اللوحة وخارجها. فهو يوجد في مكوناتها كما يوجد في ذهنية المتلقي. وهذا ما يمنح العمل الفني /النص  لدى هذا التشكيلي وجوده الفعلي.



[1] Roland Barthes, l’Obvie et l’Obtus, essais critiques III. éd. du Seuil 1982 p 169.
 (راجع مؤلف هشاشة الفن المفرطة لإدريس كثير، ط 2، 2016، ص 45-49)

[2] رولان بارت، درس السيميولوجيا، ترجمة عبد السلام بن عبد العالي، دار توبقال ط 1، 1986، ص 62.

[3] إدريس كثير، هشاشة الفن المفرطة، ص 50.

[4] http://www.civicegypt.org/?p=21759

[5] للمزيد في هذا الباب راجع، محمود أمهز، التيارات الفنية المعاصرة، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت ط 2، 2009، ص 526.

[6] T. Todorov, Éloge du quotidien essaie sur la peinture Hollandaise du 17 s. éd. du Seuil 1997 p 17.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.