}

استعادة الفنان فائق حسن: المعلم والرائي

سعد القصاب 23 أغسطس 2017
تشكيل استعادة الفنان فائق حسن: المعلم والرائي
من أعمال فائق حسن
  

في "الباب الشرقي" مركز مدينة بغداد، وعلى مقربة منه، يتوسط "حديقة الأمة" شاخصان فنيان يحدانها من الشمال والجنوب، الأول هو "نصب الحرية" للفنان جواد سليم، فيما يشخص في حدها الجنوبي "جدارية فائق حسن". الشاخصان، النصب والجدارية، نفذتا بعد تكليف رئيس الوزراء العراقي عبد الكريم قاسم، المعماري رفعت الجادرجي، بإقامة ثلاثة نصب تحتفي بتحول النظام السياسي في العراق، سنة 1958، من الملكي إلى الجمهوري. كان النصب الثالث هو "الجندي المجهول" للمعماري رفعت، الذي تمت إزالته مع بدايات العقد الثامن من القرن المنصرم ولم يعد تشييده.

لكن النصب والجدارية بقيتا، بل يعتبران أحد الشواهد الجمالية العتيدة في مدينة بغداد.
"جدارية فائق حسن" بخلاف "نصب الحرية"، تعرضت كثيرا لسوء الفهم وغياب التقدير الذي وصل حد نكران وجودها. مرة حينما تم احتكار موضوعتها وتمثيلاته التصويرية سياسيا، ما تمثل في العام 1963، بالاعتداء عليها من قبل البعثيين حينما قاموا بمحو إحدى مفرداتها الفنية الأكثر براءة: شكل حمامة طليقة، بزعم أنها شعار لحزب سياسي مناوئ. ومرة ثانية بإهمالها، وعدم الاهتمام بها أو بالتأكيد على ذكرها في مستوى التوثيق الفني. وذلك جاء بدافع تشبيهات سياسية ساذجة، ومباشرة لمفرداتها التصويرية، جعلها دائما في موقع الاتهام، والذي لم يرفع عنها حتى ما بعد عودة الشيوعيين العراقيين بعد العام 2003، وانخراطهم في النظام السياسي الذي تشكل أثناء الاحتلال الأميركي للعراق.

تشخص هذه الجدارية التي أنجزت في العام 1960، بارتفاع عشرة أمتار وبعرض أربعة أمتار. تتمثل ثيمة عراقية، تستدعي لحظة الأمل الاجتماعي لصورة الحرية المرتجاة، والتي ستباركها فئات جماهيرية متنوعة، الجندي والعامل والفلاح والمرأة والطفل، وفئات اجتماعية، على شكل هتاف، مرفوعي الأيدي ومطلقي الحمام. نفذت الجدارية بمادة الموزاييك على قاعدة من الإسمنت.

في العام 1973، سيكتب الشاعر سعدي يوسف قصيدته "تحت جدارية فائق حسن"، مقدمتها: "تطير الحمامات في ساحة الطيران. البنادق تتبعها،/ وتطير الحمامات. تسقط دافئة فوق أذرع من جلسوا/ في الرصيف يبيعون أذرعهم."، لتكون، كذلك، عنوان ديوانه الشعري الذي سيصدره بعد عام على كتابة تلك القصيدة.

ولد فائق حسن في إحدى المحلات البغدادية عام "1914". ابتعث إلى فرنسا لدراسة الفن، وتخرج في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة "البوزار" في العام 1938. أسس فرع الرسم في معهد الفنون الجميلة في بغداد في العام 1939. أسسس جماعة الرواد في العام 1950. وكان أستاذا لمادة الرسم في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد. أقام عديد المعارض الفنية في بغداد ودول عربية وأجنبية. توفي في باريس في سنة 1992، وأوصى بحرق جثمانه، وقد تم ذلك.

القرينان

يحتفظ فائق حسن بقدر مشهود من التبجيل والثناء في تاريخ المحترف الفني العراقي. لا يضاهيه في هذا التقدير سوى جواد سليم "1920-1961". إذ "ما أن يذكر اسم أي منهما إلا وتستوجب الضرورة التنويه بأثر الآخر" ذلك ما يبينه  الشاعر والناقد بلند الحيدري "1926-1996". هذه العلاقة التي يصفها الفنان حسن بأنها أثمرت عن "قيمة واضحة في الفن العراقي المعاصر حينما جاهدنا في دراسة المشكلة الفنية بعد انتهاء الدراسة في الخارج وساعدتنا الظروف آنذاك على تفهمها وفتحنا الطريق للجيل الجديد ليشق طريقه على ضوء أعمالنا".

كانا معا من بادرا لتشييد عتبة الحداثة الفنية في العراق. ولكن على نحو مختلف في الفعل والمهمة والتصور. ولكن مثل هذا الفارق المشهود لدور كل منهما، جعل الفنان فائق حسن يحظى بنوع من تقدير لا يخلو من التباس في القصد، ساهم النقد الفني العراقي في تكريسه. وهو جهد في التقويم تداخلت فيه أهواء الناقد الفني، وحماسته التي شهدتها المقدمات المنشورة في مطويات "كاتلوهات" المعارض الفنية، والمتابعات في الصحف المحلية التي توصف غالبا بكونها نقدا فنيا. كذلك شهادات من قبل فنانين عراقيين، ارتأوا أن يتخذوا صفة الحكّام الثقات في تقدير التجارب الفنية وتثمينها.

كانت مثل هذه التقديرات تتخذ شكل الدفاع عن الاتجاه الفني الذي تقدمه جواد سليم، بكونه طليعيا ومعاصرا وثقافيا وحاملا لمهمات جمالية، باتت خلالها التجربة الفنية الحديثة في أمسّ الحاجة للولاء لها. يقابل هذا الثناء، طبيعة المسار الفني الذي مضى فيه فائق حسن، والقائم على توجه أكاديمي محافظ، وواقعي ينشد موضوعات محلية ذات نزوع تقليدي، على الرغم من أنه لازم لحين من الزمن محاولات في التجريب الفني، وتمثل صورة الحداثة في العمل الفني، ولكن بأدائية توفيقية، تكتفي بخبرة الفنان المبتكر للوحات جميلة.

كانت هذه بعض صور الفهم والتقدير الغامض والجاهز، يضاف لها، تلك الصفة التي أطلقت على الفنان فائق حسن: "المعلم".

طالب الفن النبيه

ثمة بداهتان تأصلتا في فضاءات المحترف التشكيلي العراقي. الأولى، هيمنة الفنان المعلم على نجيبه طالب الفن النبيه، وعبر خبرة الأستاذ المتحكم بصنعته تجاه طالبه الذي يجد نفسه في حاجة للإلمام بخفايا تلك الصنعة. والبداهة الثانية، القبول بالتأثير البصري المشترك للجيل الفني السابق. وهي انشغالات ترفدها مراقبة التجارب الفنية المكرسة، سواء في المعارض الفنية التي تقام، أو أثناء حلقات النقاش ما بين الفنانين أو عند الزيارات المتبادلة بينهم لمحترفاتهم الفنية.




كان دور الفنان فائق حسن يتعدى مساهمته الأصيلة في المهمة التأسيسية للتشكيل العراقي، إلى كونه أيضا أستاذ فن شديد التأثير على طلبته. كان متمكنا، لا يجارى، في جعل طلبته أولئك، يؤمنون بأن إتقان صنعة الفن، هو ما يمنح الشرعية للفنان ويوصي بضرورته معا. وهذه إحدى وصاياه التي دامت لمدة تقارب الخمسة عقود، زمن تدريسه للفن.

 الفنانون من طلابه، والذين توافدوا عليه منذ أربعينيات القرن الماضي حتى ثمانينيته، يفتخرون بكونهم تعلموا فن الرسم على يديه. لم يكن حياديا معهم، بل كان يدفعهم بإلحاح إلى اكتساب مهارات أكاديمية. كان الأمر في نظره ليس بذريعة الإلمام بالحرفية، ولكنها بمثابة عتبة الفنان الأولى والتي يجب تشييدها على المعرفة بأصول العمل الفني، تعززها الخبرة والمهارة والدربة المتواصلة على الإنجاز.

فعل التأهيل هذا، الذي توافق مع إرثه الفني، أي لوحاته، والتي كانت متاحة لهم في المعارض الفنية، ليعاينوها بدهشة، جعل من فائق حسن نموذجا، مرة يتم اتباعه حد استهلاك موضوعاته الواقعية وأشكالها، وتقليدها، وحتى استنساخها، ما عرّض تراثه الفني إلى التزوير، خاصة بعد رحيله.

  ومرة ثانية، كان فائق حسن فيها، نموذجا ملهما لطلاب فن آخرين، باقتداره على تضمين عمله الفني حكمة الرؤية الخلاقة، ما جعلهم يمضون في البحث عنها، على ضوء تجاربهم، ومحاولة الاجتهاد بها حين العثور عليها وبلوغها. كانوا هؤلاء هم القلة من بين طلبته، ولكنهم الأكثر تكريسا، تاليا، في المحترف الفني العراقي.

في كلتا الحالتين لم يبارح ظل فائق حسن من تأثيره على خصوصية المسار الذي بات عليه التشكيل العراقي ومبلغ حيويته في مشهدية الفن التشكيلي العربي.

صفات المعلم

لم يحمل فائق حسن من دراسته في باريس إلا بعض مقاربات أسلوبية لاتجاهات فنية كانت هي المهيمنة في النصف الأول من القرن العشرين، مثل الانطباعية، التكعيبية، التعبيرية، التجريدية التي غادرها بعد إنجاز القليل من اللوحات. اتجاهات خبرها في مساره الفني، وتحوّل بين خصائصها التصويرية، لكنه ظل منتميا بقوة الى الاتجاه الواقعي في العمل الفني، وكأنه  الممارسة الأكثر رحابة، تلك التي ترضي دافعيته الشرهة في الرسم.

 كان محترفه الفني عراقيا تماما، مشاهد على قدر من البراعة التصويرية لموضوعات فن الصورة الشخصية "البورتريه"، ببلاغته التعبيرية، التي تفصح عنها ضربات فرشاته السريعة. الطبيعة التي تترامى على أطراف بغداد، ببساتينها التي تشخص فيها أشجار النخيل الكثيفة بظلالها العميقة التي تفترش مياسمها ودروبها الترابية. مدينة بغداد القديمة بمحلاتها، شناشيلها، وأزقتها الضيقة، شخوصها البسطاء، ونسائها المتلفعات بعباءات سوداء. مشاهد عن مدينة في فعلها اليومي وهي تنوس مابين ضوء ساطع وظلال مترعة بألوان مطفأة. موضوعة البدو وخيولهم الجامحة، ووجودهم الوحيد في صحارى يتلاشى فيها خط الأفق بأسباب ما تثيره سنابك الخيول من غيوم أرضية من الرمال. صيادو نهر دجلة، وهم يلمون شباكهم وقت الغسق. القرويون إثناء انشغالاتهم اليومية في الحقل. وبما يماثل مثل هذه الموضوعات، وهي مشاهد بيئته ومحيطه المحلي المغمورة بعراقيتها.

تلك هي لغته التصويرية الخاصة، على صورة أشكال ومساحات لونية وخطوط تلاحق تجليات واقع يومي وممارسات فعل إنساني ومظاهر حياة هانئة وبسيطة، ولكنها ليست مترفة، إلا ما يتأتى من غنائيتها وجمالية فضائها التعبيري الأثير. تلك الموضوعات القادمة من ذاكرة لم تعتمد الخيال، بل فعل النظر، ذلك الذي ينسج مشهدية مفعمة بحساسية تعبير لاتخلوا من أثر انفعالي ووضوح مفرط في حضوره البصري.

تكاد اللوحة لدى الفنان فائق حسن هي من تستعيد لنفسها أشكال عالمها المرئي، حتى وكأن مشهديتها تنتمي إلى عالمها الفني وليس إلى العالم المنظور. فالشكل لا يحضر لديه إلا عبر انتمائه لفن الرسم، فيما اللون بحساسيته التعبيرية وثرائه، يتوسم حضوره بوصفه معنى جماليا وحسيا يضاهي موضوعة أعماله. 

 لوحاته هي بمثابة اكتشافه الذاتي الذي ينتظم بإتقان على مساحة السطح التصويري، ما يمنح رؤيته وجودها الكامل. تلك التي مضت بثبات، مغمورة بالخبرة الذاتية المدربة على اكتشاف ماهو خلاق وأصيل وحيوي في الفن.

كان ذلك هو عالمه المنيف: فن الرسم.

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.