ـ 1 ـ
لقطةٌ واحدة طويلة كافية لإنجاز فيلمٍ باهر، يُوجِد قلقًا وتعبًا، وفي الوقت نفسه يُثير شغف المتابعة. الكاميرا ملتصقة بالشخصيات القليلة. تلحق بها وتواكبها وتخترق كياناتها الإنسانية، بما هي عليه من انفعال مُضطرب وتفكير مُعطَّل ورغبة عميقة في خلاص مُعلَّق. لقطةٌ تذهب بعيدًا في تحويل صناعة الصورة إلى درسٍ سينمائي يتوزّع على مجالات عديدة: التمثيل، السرد الحكائيّ، التصوير، الإضاءة، الكادرات، التوليف، وهذا كلّه بهدف الانخراط في جحيمٍ مفروضٍ على شخصيات مستلّة من واقعٍ إنساني ـ بشريّ بحت.
النواة الدرامية؟ جريمة قتل جماعي في جزيرة منعزلة في النرويج. الضحايا؟ مُراهقون (15 ـ 16 عامًا) يُقتلون ويُجرحون في اعتداء وحشيّ يُنفّذه يمينيّ متطرّف في 22 يوليو/ تموز 2011. هؤلاء منتمون إلى "اتحاد شبيبة حزب العمال النرويجي". الجريمة تتّخذ أوصافًا شتّى: سياسية، عنصرية، إرهابية، إلخ. جريمة داخلية في بلدٍ ينتمي إلى دول اسكندنافية يندر فيها عمل وحشي كهذا. العالم يتغيّر. المجتمعات البشرية تتبدّل. أوروبا تعاني وطأة التحوّلات كلّها. النرويج شاهدة على ذلك. صراعاتها الداخلية تحفر عميقًا في بيئة يُفتَرض بها، كما يحلو لها تقديم نفسها إلى العالم، أن تكون مُسالمة. تاريخها مليء بالعنف، لكن حاضرها مائلٌ أكثر فأكثر إلى سلم يوهم كثيرين أنه أصيل وصلب ومتجذّر. الجريمة تُبدِّل مفاهيم ورؤى وتحليل.
ـ 2 ـ
الجريمة مخيفة. إعادة تمثيل الجريمة في فيلمٍ سينمائي مخيفٌ بدوره، لكن بلغة بصرية تُحرِّض عناصرها التقنية والفنية والدرامية والجمالية على التأمّل في أحوال انقلابات قاسية، وأفعال مدوّية بعنفها وبشاعتها.
إعادة تمثيل الجريمة نوع سينمائيّ يعتمده كثيرون كتجريبٍ على ممارسة فعل سينمائيّ. غاس فان سانت (1952) صادمٌ في "فيل" (2003)، بتمثيل جريمة قتل يُنفّذها طالبان مراهقان بحقّ زملائهما قبل انتحارهما في نهاية مسار دموي قاسٍ، في "ثانوية كولومباين" (مقاطعة جفرسن في ولاية كولورادو الأميركية) في 20 أبريل/ نيسان 1999. أوليفر ستون (1946) بارعٌ في التحايل على الجريمة بحدّ ذاتها (اغتيال الرئيس جون فيتزجيرالد كينيدي في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1963، في دالاس في ولاية تكساس الأميركية)، كي يجعل التحقيقات والمحاكمة انعكاسًا سينمائيًا رائعًا للاغتيال نفسه، وإنْ بالاقتراب منه قليلاً ("ج. ف. ك."، 1991). ميكائيل هانيكي (1942) يمارس المختلف في "ألعاب مُسلّية"، الذي يُنجز منه نسختين: أولى عام 1997 في النمسا، وثانية عام 2007 في الولايات المتحدّة الأميركية. هذا تمثيلٌ لجريمة تحصل، لكن الفيلم بنسختيه غير مستلّ من وقائع حقيقية، مع أنه قابلٌ لأن يكون مرآة واقع. مايكل مان (1943) يُعيد سرد حكاية جون ديلّينجر (1903 ـ 1934)، سارق المصارف في ثلاثينيات القرن الـ20 في مدن أميركية مختلفة، في "عدو الشعب" (2009)، علمًا أن مان نفسه مبتكر حكاية سلسلة تصفيات جسدية يُنفّذها قاتل مأجور (توم كروز) في ليلة واحدة، في "جانبيّ" (2004).
ـ 3 ـ
الأمثلة عديدة. النرويجي إريك بُوبّي (1960) يذهب بعيدًا في هذا. يصنع "أُوتِيَا 22 يوليو" (2018) كي يوثّق سينمائيًا جريمة القتل الجماعي تلك في جزيرة أُوتِيَا، التي يرتكبها أندرس بيرينغ برايفيك (1979)، فتكون النتيجة: 77 قتيلاً و151 جريحًا (الرقم يتضمّن قتلى وجرحى الجزيرة والانفجار الإرهابي الحاصل في أوسلو قبل وقت قليل على تنفيذ الجريمة).
لن يعود الفيلم إلى أسباب الجريمة. لن يُدين المجرم. لن يُحاكم البلد وساسته ونُظمه الاجتماعية والثقافية والحياتية. لن يُساجل المسؤولين عن ملفات دولية عالقة. لن يقترب من هذا كلّه. فالمخرج بُوبّي مكتفٍ بإعادة تصوير الحدث الجُرمي من دون إظهار القاتل والغالبية الساحقة من ضحاياه. لعبته السينمائية مُثيرة لمتعة المُشاهدة رغم عنف اللحظات، ورغم توتر تصنعه كاميرا ملتصقة بشخصيات رئيسية (كلوز آب، تصوير مارتن أوتربِكْ)، ورغم حجم المجزرة التي تنبسط على الشاشة الكبيرة بمدّتها الزمنية الأصلية (نحو 90 دقيقة هي مدّة الفيلم نفسه أيضًا) من خلال أصواتٍ بعيدة لطلقات نارية وصرخات هاربين أو من يحاولون الهروب من الموت، أو من خلال هلع شخصيات رئيسية قليلة. يُريد إدخال المُشاهد في عمق الحدث. يريد وضعه مع الشخصيات أو إلى جانبها. يريد إشعاره بالهول والرعب والارتباك التي يشعر بها مراهقون مدفوعون إلى الموت أو إلى الانكسار والتمزّق الحاصلين في نفوس ناجية بعد انتهاء المجزرة.
أمام الموت، تنهار سدود نفسية وروحية كثيرة. لكن، أمام الموت نفسه، يجتهد المرء في ابتكار حيّز زمني لاحق للنجاة منه إنْ تحصل، لعلّ حلمًا ما يُنقذ المرء، أو يؤجّل موته على الأقلّ. في الحالتين، يتمكّن إريك بوبّي من إحداث الصدمة في نفوس مُشاهدين يتابعون وقائع الجريمة بالانفعالات نفسها التي تنتاب شخصيات تظهر أمام الكاميرا، أو يأتي حضورها عبر السَمَع.
ـ 4 ـ
بهذا، يُشبه "أُوتِيَا 22 يوليو" صنيع غاس فان سانت (فيل) إلى حدّ كبير. المقارنة تبقى في إطار ضيّق، لتبيان كيف يُمكن للكاميرا أن تُعيد اللحظة كما هي، من دون أحكام أخلاقية وقضائية أو سجالات ثقافية أو خلفيات نفسية أو تحليل سوسيولوجي. الفرق بينهما أن "فيل" يروي الحكاية من خلال القاتِلَين، بينما يُلغي إريك بوبّي القاتل كلّيًا (رغم ظهور بعيد جدًا له في لقطة عابرة، بملامح غامقة وضبابية)، مكتفيًا بسرد الحكاية عبر شخصيات أساسية قليلة للغاية تستقطب التفاصيل كلّها والمناخ كلّه والحالات كلّها.
يبدأ بوبّي فيلمه بكاميرا محمولة تُلاحق كايا (أندريا بَنتْزِنْ) وهي تعود إلى المخيّم الكبير، وتبحث عن لا شيء أو عن لا أحد. تلتقي زملاء لها في المخيّم قبل أن تبلغ خيمة شقيقتها. حوارات عابرة واتصالات هاتفية عادية. لقاء مع زميل ينتقلان معًا إلى مجموعة تتناول طعامًا. هذا كلّه تمهيدٌ لما سيحصل. رغم أن القصّة معروفة، إلاّ أن انفجارًا مدوّيًا في أوسلو سيُقلق الجميع. فجأة، تتبدّل الأحوال. الاتصالات الهاتفية تنقل شيئًا من الحدث الجرميّ في أوسلو، ثم طلقات نارية وهلع وخوف، وبداية رحلة الجحيم، والقتلى يتساقطون من دون ظهور سقوطهم أمام الكاميرا (تظهر جثثٌ قليلة للغاية في لحظات قليلة للغاية أثناء السرد البصري للحكاية)، والموت ينتشر من دون تبيان المعالم الملموسة لانتشاره.
تغييب القاتل إقصاء سينمائيّ له، فالأساس كامنٌ في إعادة تمثيل الجريمة عبر شخصيات ظاهرة وغائبة. عدم إظهار الجثث إلاّ نادرًا إمعانٌ في تفعيل الحسّ التشويقي وإيصال مآثم القاتل وتنفيذه جريمته عبر الصوت (توليف بديع للمؤثّرات الصوتية للثنائي فيدار غراندي وغون توفي غرونسبيرغ) الموزَّع على انفعال الضحية وأدوات تنفيذ الجريمة. الاكتفاء بكايا كمحور درامي لمسيرة الهروب من الموت، تكثيفٌ جماليّ لامتصاص مجريات الحدث كلّها في شخص أساسيّ واحد، ولإضفاء مزيد من التوتر والارتباك، وإنْ بمساعدة أشخاص قليلين سيكونون بمثابة إضافة مطلوبة لرفع حجم الهلع والضغوط، أو لمعرفة نزرٍ يسيرٍ من الحدث.
هذه لن تكون عابرة. الاشتغال التقني ـ الفني متساوٍ والعمق الدرامي للنصّ بجمالياتهما وتأثيراتهما (الاشتغال والنصّ معًا). السيناريو (آنّا باغ ـ فيك وسِفْ راجندرام إلياسن) مكتوبٌ بما يُلائم حجم الفجيعة، لنقل أقصى انفعال ممكن إلى شاشة تلتقط نبض الحكاية، وتصوغ مفرداتها بتعابير وانفعالات وحركات تجعلها كايا وبعض رفاقها مرايا شفّافة لهول الحدث.
ـ 5 ـ
يتفوّق "أُتِيّا 22 يوليو" بتلك الجماليات البصرية التي تقول إنّ الصورة وحدها كافية لصنع سينما حقيقية، وإنّ تقليص المفردات مفيد لبناء درامي أمتن وأقدر على البوح بالمبطّن في النفس والروح الفرديتين، وإنّ اللقطةَ الواحدة درسٌ سينمائيّ. تفوّقٌ يُعيد تمثيل الجريمة بلغة سينمائية تحرص على إظهار روائعها وإنْ بفضل القتل الجماعيّ.
(*) ناقد سينمائي من أسرة "العربي الجديد"