}

أفريقيا الفهد الأسود (2 - 4)

عبد اللطيف عدنان 23 يونيو 2018

إثيوطوبيا: الكائن والممكن في أفريقيا الفهد الأسود (2)

أسال فيلم "الفهد الأسود" Black Panther، الذي أنتج عام 2018، مدادا كثيرا بسبب النجاح الذي حققه ولم يسبق أن حظي به أي فيلم بمواصفاته الإنتاجية. وشكل هذا الفيلم مناسبة أخرى لإعادة طرح السؤال الإشكالي حول علاقة السينما بموضوعة التمثيلية، وماذا تربح هذه الأخيرة أو تخسر حين ترتبط بأقلية معينة، وتكون مطالبة بالتعبير عن واقع وآفاق هذه الأقلية؟ في هذا السياق أتى فيلم "الفهد الأسود" بمعادلة جديدة تربك هذه القاعدة التي تحكم على سينما الأقليات بهامش المشاهدة الضيقة والمناسباتية، كما كان وضع السينما الأميركية من إنجاز المخرجين الأفارقة الأميركيين.

في هذه المقاربة نحاول الوقوف على بعض أوجه التجديد في هذه السينما، التي ما زالت تعاني الحيف في المقاربة الأكاديمية والنقد والتعليق، لكي لا نقول إن هذه المقاربات، وإن تحققت، تظل محصورة بجغرافية معينة. من عنوانه المفخخ "الفهد الأسود"، الذي يحبل بدلالات سياسية صدامية في السياق السوسيوسياسي في الولايات المتحدة الأميركية، إلى اختياره الأسلوبي في نمط إنتاجي كالكوميك الفيلمي، الذي لا يزال لا يحمل محمل الجدّ في العديد من المقاربات السينمائية، إلى رهانه في البنية السردية على فضاء أفريقيا المشحون بالتدليلات التنميطية، ينفتح فيلم "الفهد  الأسود" على آفاق استقرائية مهمة تفرض إعادة تقييم سينما السود الأميركية.

يشكل هذا الفيلم تجربة جديدة ومتفردة في هذه السينما، حين يعيد طرح الأسئلة التي تؤرقها ويعالج المواضيع الكلاسيكية التي تدخل في أفق اهتمامها، كإشكال الهوية المرتبط بوضعية السود في المجتمع الأميركي، وإرهاصات الماضي وتحديات الحاضر واستشرافات المستقبل، في صيغة تتقاطع فيها سينما هوليوود الأكثر استهلاكا وتسويقا، مع السينما الأفريقية  والعالمية، ومن  خلال تصور ورؤية جديدين نابعين من أرضية ثقافية متجذرة في الثقافة الأفرو أميركية والأفريقية، يضع فيلم "الفهد الأسود" بصمته في سينما السود الأميركية والثقافة السينمائية عامة وبالأخص منها هذه التي ترتبط بالأقليات إنتاجا وطرحا.

هنا القسم الثاني:

مارفيل الأسود

إن تعميم وإشعاع وجهة نظر جديدة في طرح قديم كإشكالية وضعية السود، يعني كذلك الاستناد على الوسيلة الأكثر نجاحا في بلوغ هذه الغاية. وفي إطار السينما الأميركية الحالية، هذه الوسيلة هي عالم مارفيل السينمائي.

يرجع نجاح فيلم "الفهد الأسود"، بالدرجة الأولى، إلى نجاح كوميك مارفيل الفيلمي. فبعد أن قلصت نيتفليكس Netflix وأمازون  Amazon وهولو Hulu حجم الشاشة السينمائية وحجم الجمهور المتردّد على دور العرض، بقي عالم مارفيل السينمائي المعقل الوحيد الذي تستمد منه هوليوود صمودها وتحفظ به الوتيرة التصاعدية لإنتاجها الكمي والنوعي، أمام تحديات الإنتاج والتوزيع التلفزي للدراما الكبرى.  

بدأ صعود هذا النمط الإنتاجي كردّ فعل على الإحباطات وخيبات الأمل التي سادت بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، حيث تمَّ استنساخ أشرار هذه الروايات المصورة في شكل فاعلين جدد كإرهابيين، وتمَّ تجنيد أبطالها الخارقين في مهمات عسكرية ذات طابع وطني. وبنفس الوتيرة التصاعدية تطورت وصفة أفلام السلسلة لتصبح منهلا مخياليا يروي تعطش الجمهور الأميركي للمغامرة التي  تنقله بشكل مؤقت من واقعه المتأزم اقتصاديا واجتماعيا، والذي يتّسم بعدم الاستقرار وانعدام الأمان، وغياب أي مؤشر على مستقبل مشرق. في ظل هذا الواقع، الذي تنهدم فيه كل اليقينيات، تجد كذلك الأسرة المحافظة في هذا النمط الفيلمي طقسها السينمائي المثالي خصوصا بعد ضجرها من انفتاح السينما ومعالجتها لمواضيع حساسة كأسلوب الحياة البديل والمثلية الجنسية وتطبيع استعمال المخدرات الخفيفة.

ضاعفت التكنولوجيا الرقمية من طاقة الكوميك الفيلمي في خلق هذه الإثارة في الحركة، وفي تشكيل التضاريس المخيالية الغرائبية، التي يبحث عنها مدمنو سلسلة مارفيل قراءة وفرجة. أساسا لا يمكن فصل عملية الفرجة عن القراءة في حالة الكوميك، فالرسوم تتحرك "سينمائيا" في الشاشة الذهنية للقارئ. وهو ما يجعل عشاق السلسلة يتعاملون بمرونة مع التعديلات السينمائية الحرة، دون إعطاء أي أهمية لمدى إخلاص هذه الأخيرة للأصل. الوفاء الذي يبحث عنه هذا الجمهور لا علاقة له مع مسألة الأصل والنسخة، التي تطرح عادة في سياق علاقة الرواية بالسينما، أكثر مما هو مسألة وعد والتزام، بين مشاهد ينهي مشاهدة حلقة من السلسلة بعتبة تحضيرية لحلقة قادمة منها، ومخرج لا يمكنه إنهاء حلقة دون إثارة وتأجيج الرغبة لأخرى. وفي هذا الإعداد التشويقي أو ما يصطلح عليه بعبارة sequel-setting rage يحتفظ عالم مارفيل السينمائي بجمهوره وهو ما ترجمته البرمجة المسبّقة لتواريخ العرض الأول للسّنوات العشر القادمة.  

كل إنتاج لفيلم هوليوودي بهذه الوصفة هو رهان مفتوح على كل الاحتمالات إلا احتمال الفشل. وفعلا، لم يخيب المنتج المنفّذ لفيلم "الفهد الأسود"، الأفرو أميركي كذلك، نيث مور Nate Moore، أمل المجلس الإداري لمؤسسة عالم مارفيل السينمائي حين حقق الفيلم في أسبوعه الأول رقما قياسيا في المداخيل تجاوز 235 مليون دولار. وهذه سابقة لم تعرفها هوليوود من قبل مع أي فيلم من هذه العينة الإنتاجية، ناهيك عن حبكة تدور حول محور سوسيو ثقافي للسود في أميركا. ولأول مرة في تاريخ هوليوود يتحقق بلاكباستر بهذه المواصفات، أي بلون آخر غير اللّون الأبيض المعتاد، وصار المنتج نيث مور يحمل عن جدارة واستحقاق لقب الرجل الذي وضع مارفيل في العالم الأسود.

يبصم فيلم "الفهد الأسود" مكانته كحدث متفرد في تاريخ السينما في متوالية عتبته الاستهلالية. يتم عرض أبطال السلسلة في نسختهم السينمائية المحتكرة من نجوم بيض، من قبيل روبرت داوني جونيور وسكارليت جوهانسون وكريس براث. وتحضرنا هذه العتبة التوقيعية لاسم جديد هو شيدويك بوسمان، ولشيء مختلف تماما عما نعرفه عن "الفهد الأسود" في حلقة فيلمية سابقة هي كابتن أميركا: الحرب الأهلية (2016) حيث ظهرت شخصية البطل لأول مرة. ومثل أقرانه البيض، كالرجل الحديدي والرجل العنكبوت، توكل لهذا البطل مهمة إنقاذ الإنسانية من خطر محدق، في فيلم تعتمد حبكته نفس القالب الحكائي لنمط الأبطال الخارقين والتي سكَّ التكرار نموذجها في أفق انتظار المشاهد، أي هذا الصراع بين قوى الخير والشّر، والذي تحرّكه رغبة الحفاظ أو استرجاع عنصر ثمين يرتبط مصير البشرية بإرادة من يمتلكه.

لكن ما يميز هذا الفيلم عن غيره من أفلام السلسلة هو اختراقه للحدود وعبوره للقارات انطلاقا من مركز ليس في واشنطن أو سياتل أو لندن، لكن في مدينة واكندا الأفريقية التي تعيش ازدهارا حضاريا لا شبيه له، وبلغت قمة التطور التكنولوجي، باستثمارها الإنتاجي لمادة خام ثمينة ونادرة هي الفيبرانيوم. ولحماية هذه الطاقة، التي اكتشفت الإنسانية قوتها عبر ذراع كابتن أميركا، طوّر الجهاز الأمني للمدينة أفضل طريقة لحمايتها وهي توريتها عن الأنظار وضرب حمائية تخوّل فقط لمواطنيها المشفّرين برقم سري موشوم خلف الشفة ولوج فضائها. لكن كما علمنا التاريخ، وفي السّياق الجغرافي لأفريقيا بالذات، وجود طاقة ثمينة مثل طاقة الفيبرانيوم يعني بالضرورة وجود أكثر من طامع في الاستحواذ عليها، وكذلك وجود أكثر من طريقة في محاولة اختراق مكان مصدرها.

مهمة "الفهد الأسود"

تكمن مهمة "الفهد الأسود" في الحرص على عدم وقوع هذه الطاقة في يد الإجرام، اليد الوحيدة المتبقية للعدو الخارجي كلاو (أندي سيركيس) صاحب الذراع المبتورة. في قيامه بهذه المهمة كان على ملك أمة واكندا، "تتشالا" الفهد الأسود، مواجهة عدو آخر مكتمل الهيئة، قوته تنبع من مشروعية تواجده في المدينة المحمية، كأحد أبنائها، وفي حق امتلاكه ما هو لملك لتتشالا أي تاج الحكم. إنه إريك كيلمونغر (مايكل ب جوردن)، ابن أوكلاند بكليفورنيا، الذي يجد في الطاقة الثمينة فرصة لتصحيح ماضي استرقاق الأفارقة والاغتصاب الكولونيالي، وحاضر يحبل بكل أشكال التسلط ضد الأسود، بداية بالتمييز العنصري ونهاية بغياب العدالة الاجتماعية والمساواة. لكن عوض مواجهة عنف بعنف مضاد وجد الملك تتشالا في قيم المصالحة والتسامح والشراكة خير وسيلة لتصحيح هذا الماضي. تتشالا، بهذا الاختيار الذي كاد أن يدفع ثمنه بحياته وعرشه، أثبت أنه ابن قارة صدّرت للعالم نماذج التصالح مع الماضي العنيف عبر تجربتي جنوب أفريقيا ورواندا. طاقة الفيبرانيوم، التي تُغنى بها واكندا كما قد تكون أليغورية أداتية لقلب المواقع والتماهي بالمتسلط في تمثل إريك كيلمونغر Killmonger (داعية الموت)، هي في الأول والأخير هذه القيم الإنسانية النبيلة التي ميزت الإنسان الأفريقي عبر العصور. مادة الفيبرانيوم كما هي وسيلة لقلب الموازين التاريخية بشكل دموي، هي كذلك وسيلة لتحقيق إشعاع حضاري عبر العالم، وإن كان هذا التصوّر لا يخلو من شوائب التبشير النيوليبرالي.  

طريقة تسخير طاقة الفيبرانيوم هي أساس الصراع بين بطل خارق وشرّير خارق يحمل مواصفات البطل المضاد. حبكة "الفهد الأسود" تعتمد الهيكل السردي البسيط والمستقطب بين عالم الخيّرين وعالم الأشرار. تتحرك الشخصيات الرئيسية في هذه الحبكة بدوافع يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي، حيث نجد مهمة حماية واكندا تحمل في برنامجها رغبة الملك في التصالح مع أبيه، ورغبة عشيقته كذلك في تحقيق ذاتها كناشطة إنسانية مستقلّة تجند نفسها لمناصرة ضحايا القارة الجدد في واقع تعسفي جديد يمتدّ بين التطاحن العرقي والإرهاب والتّطرف. شخصيات الفيلم، ومثل أغلب أبطال مارفيل، يشكلون نماذج إغريقية نمطية في الصراع الأوديبي تتفعّل على المسرح الواقعي بكل التهديدات التي تسكنه من إرهاب وتسلح نووي واختراق مجال الآخر لاستغلال ثرواته المادية والرمزية. في هذه الحكاية لم يجهل الفيلم، بحكم حيزه الدرامي وجنسية بطله، مشاكل آنية مرتبطة بقارة أفريقيا كقضية اختطاف الفتيات النيجيريات من قبل الجماعة الإرهابية "بوكو حرام"، أو مشكل التجنيد العسكري للأطفال، إضافة إلى المواضيع النافلة المقترنة بأزمات القارة المزمنة كالفقر وعقبات التنمية.

وُّظِّفت في الفيلم كل أصناف الخدع البصرية الرقمية والسينماتوغرافية، التي تدخل في شروط إنتاج واستهلاك كوميك مارفيل الفيلمي، وحقق بذلك هذه الوفرة في الفرجة، وبنفس التوازن المطلوب بين مقادير هذه المؤثرات وسيناريو متماسك تتجاور فيه الملاحم الإغريقية مع القصص الدينية، وتتداخل فيه عموميات الأبعاد السياسية الاستراتيجية مع خصوصيات الرواسب السوسيوثقافية لشخصياته.

يجد مشاهد "الفهد الأسود" كل ما يدخل في أفق انتظاره كقارئ لأعداد السلسلة أو كعضو في نادي جمهورها السينمائي المتزايد في العدد، والمتنوّع في الشريحة العمرية. لكن من خلال هذه الحكاية المستأنسة والخطية يفصح الفيلم عن طرحه المعقّد ومعالجته المربكة لتيمة إشكالية كموضوعة هوية السود وموقعهم الرمزي في السياق السوسيوثقافي المحلي والكوني. إشكال هوية الأسود في هذا الفيلم تمّ طرحه بكل التمثلات الثقافية التي يحملها وبمختلف التصورات والمرجعيات لأوجه هذه التمثلات، بما فيها التي ترتبط جدليا بالتعبيرية السينماتوغرافية والسردية العامة للسينما. في هذه النقطة كان "الفهد الأسود" يحمل على عاتقه أثقل مما يمكن أن يحمله أو يتحمّله أي بطل خارق من عالم مارفيل. إنه سؤال الهويّة الذي يؤرق المخرج الأميركي الأسود. سؤال تناوله راين كوغلير على هامش وضعية الأفرو أميركي الآنية، وعالجه في نسق سينمائي جديد، وبشكل يخلص لاقتراح صيغة جديدة لتمثل هذه الهوية. وهو ما يجعل سؤال الهوية يتجاوز عوالم شخصيات القصة الفيلمية كما تبدو وفيما تقول، إلى عوالم السينما نفسها في كيفية جعل هذه الشخصيات تبدو كما تبدو وتقول ما تقول.

* ناقد من المغرب يقيم في أميركا   

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.